محلية التضامن بجنوب كردفان، هي محلية زراعية في الأساس، كأغلب مناطق ولاية جنوب كردفان، يعتمد معظم مواطنيها على الزراعة لكسب العيش والغذاء، مع اعتماد جزئي على الرعي. يزرع سكّان المحلية في الخريف، ويخزنون الإنتاج لبقية مواسم السنة. تحدّها من ناحية الشمال ولاية النيل الأبيض، ومن الجنوب ولاية أعالي النيل في دولة جنوب السودان، وغرباً محلية العباسية، ومن ناحية الجنوب الغربي محلّية أبو جبيهة.
وفقاً لمصدر تحدّث إلى «أتَـر»، تُقدّر المساحة المزروعة، بحسب بيانات المكتب الزراعي لمحلية التضامن بمليون فدان، منها ستمائة ألف فدان داخل التخطيط يملكها تجار لهم رؤوس أموال كبيرة، كان معظمها يُزرع في السابق، لكن هذا العام زُرع منها 30٪ فقط بسبب الحرب، لأن أغلب الزُّرّاع من خارج الولاية. الأربعمائة ألف فدان الأخرى توجد خارج التخطيط وأغلبها لمواطنين أصحاب دخل محدود، حيث زُرع منها هذه السنة 50٪.
واجه المزارعون تحدّيات كبيرة، أولها التحديات الأمنية. وحسب أحد سكان المنطقة، طلب عدم ذكر اسمه، فإنّ قوات الدعم السريع التي تسيطر على مدينة أم روابة على حدود محلية التضامن من ناحية الشمال الغربي، قد تمكّنت هذا العام من الدخول إلى وحدة إدارية أم الخيرات التابعة لمحلية التضامن، ودارت اشتباكات بينها وقوات الشرطة، وقتلت أفراداً منهم وتمكَّنت من أخذ أسلحتهم وسياراتهم، ثم انتشرت في الخطّ الموازي لشمال كردفان حتى ولاية النيل الأبيض، مُسبِّبةً فوضى، كما استولى أفراد مسلّحون على آليات مزارعين ومحاصيلهم وأموالهم، وتسبّبوا في حالة رعب منعت مزارعين آخرين من المخاطرة بأرواحهم وعبور الطرق.
هنالك تحدٍّ آخر متعلِّقٌ بغلاء المدخلات الزراعية مثل الوقود والأسمدة، حالَ دون انخراط أغلب المزارعين في المناطق الآمنة في العمليات الزراعية.
تحفّ منطقة «أم بيّوض»، في محلية التضامن، هضاب وسلاسل جبلية ممتدّة بحدّ البصر. سَلِمت المنطقة من حرب 15 أبريل، بينما لا تزال ويلاتها تعصف بالمواطنين هناك. وينتظر النساء والرجال في أم بيّوض، ومنطقة «الدّاقُوي» التي تجاورها على مسافة نصف ساعة بالأقدام، موعد بداية الموسم الزراعي، لكن هذه السنة جاءت مختلفة.
نسوة مزارعات
تجتمع النساء والفتيات، ويأخذن زادهن وقهوتهن ويذهبن للحقل. يَنشدن الأغاني التي يحفظنها أو التي ابتكرنها ويحصدن المحصول. يُعاونَّ بعضهن، واحدة تلو الأخرى. تقول آمنة: «حين يأتي وقت الحصاد نذهب جميعنا، وأبدأ بتجهيز الفرشات، والجوالات الفارغة، وآخذ ما يكفي من الزاد، ونذهب لنقضي النهار جلّه في الحقل. الجميع يحصد معي. وحين يكتمل الجزء المخصص من حصاد اليوم نؤوب إلى بيوتنا، وإلا سنبيت في الخلاء».
شتاء قارس وسط الجبال والوديان، هذا هو موعد زيارة مراسلة «أتَـر» إلى منطقة «الداقوي» بمحلية التضامن، في جنوب كردفان. ترى نساءً لا يشعرن بالملل، نشيطات دوماً، فرحات بالعمل، يستيقظن باكراً قبل شروق الشمس. وقبل الزيارات المتبادلة، يردن المياه من البئر التي تقع في طرف القرية، فتيات صغيرات ونسوة، ويجلبن الماء بجركانات فوق رؤوسهنّ، مرتين في اليوم، في عمل متعب وشقيّ. ثم من بعد ذلك، يبدأن أعمال البيوت التي تنتهي بإعداد الإفطار باكراً. عصيدة شهية بملاح ويكة مزروعة بأياديهن الناضحة عملاً، أو فول مدمّس من حقولهن مخلوط برائب أبقار المنزل. يطهين تحت نار الأحطاب التي كسرنها من الأشجار التي تنمو وراء الجبل.
إنه اكتفاء ذاتي كلي.
عند الظهر، يتفقن على أن تكون قهوة اليوم في بيت إحداهن، يملأن كورة من السكر، وفنجاناً يحتوي على زنجبيل وهبهان، وآخر من مسحوق البن. يُدَقُّ الزنجبيل بلذَّة شديدة، فهن يُكثرْنَ منه بحدّة لاسعة. يصمتن جميعاً عند قلي البن، بعدها يسيطر طقس كامل من الونس، وتحضر الودّاعية لترمي حظوظ المستقبل. ينتظرن خطوط الحظّ هذه بشغف بالغ، كل اثنين وخميس من الأسبوع، ثم ينصرفن بعد قضاء لحظات متعة تُعاد بلا كلل أو ملل.
لدى النساء سرعة في قول الكلمة، يستحضرنها سريعاً واحدة تلو الأخرى حتى تكاد لو تفلت مِنك. يؤلّفن أغنيات تدور حول أحبائهن وأبطالهن، ويحفظنها ثم يرددنها في الجلسات وأوقات السمر.
يمضي الزمن بإيقاع بطيء للغاية، ما يساعد على تقدير قيمة الحياة وجدوى تأملها. ونساء الدّاقُوي لا يملكن هواتف كما أغلب رجالها أيضاً، لذا لن تعرف التوقيت بدقة، وكذا لأنه لا يوجد مسجد أيضاً، ويعرف الناس التوقيت من مراقبة ضوء الشمس. فلكل دقيقة معنى، وإن كانت تمرّ ببطء. وحينما يأتي أهالي الداقوي في زيارات إلى مدينة كوستي، يجاهدون في العيش مع نمط الحياة السريعة، وفي النهاية يغلبهم الأمر، ويعودون سريعاً إلى منطقتهم.
يختفي الرجال من القرية كل يوم بعد الإفطار، يذهبون إلى السوق. يختفي الرجال فيختفي معهم العنت، ليتركوا المكان للنساء وحدهن والأطفال. تحبّ النساء والفتيات هنالك التعليم، لكن ما باليد حيلة، حين ينطق القهر المجتمعي كلمة “تحجير” أي منع. عندها تجد البنت نفسها محرومة من الدراسة، وحتى إذا أدخلها أبوها المدرسة، يستطيع ابن عمها أن يمنعها وهي في الطريق إليها. وحين تسألها أمها: لماذا قفلتِ راجعة؟ تقول: «حجرونا».
حين يأتي الخريف يكون للصعيد شأن آخر، فالسماء تُشرق على الحقول. حقول تزرعها نسوة الداقوي، من أولى مراحل الزراعة، وهي الحرث وتنظيف التربة، حتى آخر مرحلة وهي الحصاد.
للعمل اسمٌ آخر هو الإبداع. تنثر النسوة هنا بذورهن، وهن يعلمن جيداً أن ساق السمسم ستنمو بعد مضيِّ ثلاثة أشهر، وهو ساق يحتمل الجفاف، تماماً مثل اصطبارهنّ على قسوة الأيام. تواجه النسوة في جنوب كردفان، كما هو في كلِّ جنوب أيضاً، تحديات مزدوجة متعلقة بدورهن في أسرهن، ومخاطر جمّة تتعلق بقدرتهن على إنجاح محاصليهنّ من الآفات والحشائش وتغيرات المناخ. يتعاملن بتضامن نسوي، وبقوة بالغة الشدة، إذ لا تملك النساء المزارعات سوى دعم نسيجهن ومجتمعهنّ المحلي، كما يدعمن على نحو رئيس بيوتهن، وبالتحديد المطبخ، وبذلك يساعدن في استدامة الحياة لأُسَرَهِن.
تعني الزراعة لـ «حاجّة آمنة» كل شيء. تصحو باكراً وتذهب إلى حقلها، وتبدأ بحرث زرعها من الويكة واللوبا والفول والسمسم. تعتمد آمنة على الزراعة كلياً في الخريف، تاركة وراءها مطعمها في سوق المنطقة الذي يعتمد على المتبقي من حصاد المواسم.
سألت مراسلة «أتَـر» حولية صالح: ماذا تعملين؟ ردّت بسرعة: «مُزارعيّة». وتتابع حولية أن الزراعة تعني لها الكثير، فمنها استطاعت استبدال بيتها ببيت أفضل، واشترت ماعزاً لأطفالها، وكذلك ضأناً وبقراً، وتشاركت في نصف بابور مع شخص آخر، وكل هذا من عائد محصولها السنوي.
تشرع آمنة في نظافة التربة من الحشائش «الكَدِيب» قبل بداية سقوط المطر، ثم تراقب الزرع دؤوبةً، حتى لا تنمو الحشائش من جديد، وتمنع دخول المطر إلى عمق التربة. وتسمّى هذه النظافة الثانية «الجَنْكَاب»، وتجعل إنتاج الحصاد عالياً.
للحصاد في جنوب كردفان مشهد بديع.
تجتمع النساء والفتيات، ويأخذن زادهن وقهوتهن ويذهبن للحقل. يَنشدن الأغاني التي يحفظنها أو التي ابتكرنها ويحصدن المحصول. يُعاونَّ بعضهن، واحدة تلو الأخرى. تقول آمنة: «حين يأتي وقت الحصاد نذهب جميعنا، وأبدأ بتجهيز الفرشات، والجوالات الفارغة، وآخذ ما يكفي من الزاد، ونذهب لنقضي النهار جلّه في الحقل. الجميع يحصد معي. وحين يكتمل الجزء المخصص من حصاد اليوم نؤوب إلى بيوتنا، وإلا سنبيت في الخلاء».
ليس هذا فحسب، أنشات النساء هنالك صرفة تموينية «صندوق سنوي»، يحتوي على قنطارين من السمسم، وجوالي ذرة، وبعضٍ من الويكة والفول، تُخزن في مكان يعرفنه، يصرفنها في وقت العوز، وفي أزمنة الرخاء، تظل حتى موعد الموسم القادم ليبعنها ويشترين بثمنها تقاوي للموسم الجديد.
ظلال الحرب
يقول المزارع صالح مختار، من أم بيّوض، إن الحرب أثّرت بشدة على الموسم الحالي، وتسبّبت في زيادة مخيفة في سعر الجازولين، ووصل سعر الجالون منه إلى 250 ألف جنيه، والبرميل ثلاثة ملايين جنيه، ما أدّى إلى تقليص المساحة المزروعة. ففي السابق كان مختار وباقي المزارعين، يزرعون الأرض مرتين، الأمر الذي لم يحدث هذا العام، ما سيؤثر سلباً على الإنتاجية، فلقد كانت الأرض تزداد خصوبة في المرة الثانية، وهو ما يجعل نموَّ الزرع جيداً مقارنة بالزراعة الأولى، ومخفّفاً أيضاً لقلة نسبة الحشائش «الكَدِيب» في التربة.
اتفق المزارع الطاهر حامد الطاهر «هبيلا»، من منطقة الداقوي مع حديث مختار، حين وجدَته «أتَـر» يهمُّ باقتلاع الحشائش الضارّة من التربة في حقل محصول السمسم. ويقول في ذلك: «لم أنجح في شراء المبيدات هذه السنة لارتفاع أسعارها».
يضيف صالح أن سعر لتر المبيد في السنة الفائتة تراوح بين 6 آلاف و8 آلاف جنيه، الآن وصل سعر اللتر إلى 40 ألف جنيه، بينما ارتفع سعر اللتر الذي يُرشّ به محصول السمسم إلى 120 ألفاً مقارنة بـ 15 ألفاً في الموسم السابق. كما أثّرت زيادة سعر الجازولين أيضاً على رش التربة بالمبيدات. هذه الأسباب جعلت غالبية المزارعين يمتنعون عن شرائها.
سألت مراسلة «أتَـر» صالح عن ما سيعتمد عليه الناس في حياتهم في حال فشل الموسم الزراعي في منطقة أم بيّوض. شدّد صالح على أن المنطقة تعتمد كليّاً على الزراعة، حتى البهائم تُشترى من عائد الموسم. مضيفاً بحزن: «إذا فشل الموسم سيكون الحال أسوأ من السنة الفائتة التي بلغ فيها سعر ملوة الذرة عشر آلاف جنيه، ورطل السكر تسعة آلاف جنيه. هذه أمور لم تحدث من قبل، ولا حتى في موسم الجفاف. فشل الموسم يعني حدوث مجاعة مؤكدة». بينما اتفق صالح وهبيلا على أن الموسم الحالي ناجح حتى الآن بنسب (60-65٪).
بيَّنَ صالح أن هنالك نسبة بين 50 و60% من الأراضي لم تُزرع في محلية التضامن والمحليات القريبة منها، وأن الأهالي زرعوا بأنفسهم هذه السنة بما يقدر بنسبة 30%، منها 20% سمسماً، و10% ذرة، مشيراً إلى أن الذرة هي المحصول الرئيس.
استقبلت منطقة «أم بيّوض» ما بين خمسة عشرة وعشرين ألف نازح. يقول صالح إن النازحين لم يعملوا في الزراعة، ويعتمدون على ناتج محاصيل السكان، وإن محلية التضامن ستغطي قرابة أربع محليات مجاورة لم يَزرع سكّانها هذه السنة.
يقول صالح إن الأمطار قد هطلت بغزارة في أغسطس، وغمرت قدراً كبيراً المزروعات وأتلفتها، وعندما جفّت التربة أعاد كثيرٌ من المزارعين الزراعة من جديد، لكن الأمطار لم تهطل لمدة شهر كامل، ما أضر بهم. كان من المتضررين المزارع هبيلا أيضاً، الذي قال: «انقطع المطر في أكثر مرحلة تحتاجها المحاصيل، وهي مرحلة الإنتاج، لقد أخذ المطر نسبة ٤٠٪ من الزرع».
يسرد «هبيلا» أن الدورة الزراعية تبدأ بداية في مايو، ويُحصد السمسم في قرابة منتصف نوفمبر، بينما الذرة يمتد حصادها إلى مارس من السنة الجديدة.
بينما يجلس صالح في ضوء نهار نهاية اليوم، قادماً من عمل دؤوب في مزرعته، رجع بنا إلى أن ويلات الحرب المتمثلة في زيادة سعر الجازولين قد تسببت في فشل الموسم، مضيفاً أن «الخلاء»، وهي منطقة لتخزين الجازولين والبوابير أيضاً، معرضة دائماً لعمليات النهب المسلح.
الحياة شراكة
وَهَبَ والد آمنة لها قطعة أرض، وقطعة ثانية من عمها، أما الثالثة فاشترتها من عملها الحر. لا تمتلك الفتيات الصغيرات في الداقوي أرضاً، بل المتزوجات فقط. الصبايا يساعدن أمهاتهن وأخواتهن، تحضيراً لهن حتى يحين موعد زواجهن، فيدخلن في طقس خريف الموسم. أحياناً تحوز بعض الفتيات مساحات صغيرة هبةً من أمهاتهنّ أو آباءهن، فيقمن بزراعتها.
امتلكت حولية أرضها بأموالها التي جنتها من الزراعة. في بداية عملها على الأرض كانت تزرع القليل، حتى اكتمل في يدها سعر زراعة أرضها، فتوسعت أكثر فأكثر إلى أن امتلكت كثيراً من الأفدنة.
تصرف آمنة أموال حصادها والأموال من مطعمها الآخر على تعليم أبنائها في المدرسة، ابنها أحمد خرج من السلك التعليمي بسبب مرض أصاب عينيه، فالتحق بالخلوة وحفظ القرآن كاملاً. إنها فخورة به للغاية.
أما ابنها محمد، فقد مكنته من الحصول على الشهادة الجامعية، بينما اكتفت بناتها بنهاية المرحلة الأساسية لأنه لا توجد مدرسة ثانوية في المنطقة، وليس لهم معارف في المنطقة الأخرى التي من المفترض أن يواصلن فيها تعليمهن، أما ابنها الأخير فتعطلت دراسته بسبب الحرب.
في بداية عمر الزواج، وبسبب الإنجاب، لم تعمل آمنة، ثم بعد أن كبر أبناؤها قليلاً افتتحت محلاً للقهوة، ثم مطعماً، قبل أن تثقف نفسها في شأن الزراعة، وتنتقل إليها سبيلأ لكسب العيش.
تزرع آمنة على خلاف المزارعين من الرجال الجباريك مُبكراً، وتكون تربتها جاهزة لاستقبال أول قطرة مطر، وتزرع الويكة واللوبيا والكركدي وعيش الريف والفول والتبش، إضافة إلى محاصيلها الرئيسة، الذرة والسمسم، التي تزرعها في وقت لاحق.
تقول آمنة: «الرجال بقعدوا ساي، نحن العوين بس البنزرع. نترك الرجال يلعبون الضمنة في تجمعاتهم، يضحكون علينا ويصفوننا بالجنون وحب العمل، ونحن نذهب إلى أراضينا في بواكير المواسم. لكن، بعد شهرين نأتيهم حاملات محاصلينا فوق رؤوسنا، فيندهشون». تضحك آمنة، وتقول: «ثم يشرعون في أخذ محاصيلنا».
بالنسبة لآمنة، الزراعة تُعلي من وضعها الاجتماعي، فهن يشاركن المجتمع ويُعاونَّه وتصير كلمتهن مسموعة لدرجة أنه إذا حدث أمر وطلب الناس نفراً من المزارعين يتوجه الناس إلى النساء. تقول حولية: «نحن نساعد رجالنا في حقولهم، ونساعدهم في غذاء البيت، فالحياة شراكة».