منذ استقلاله عن السودان، قبل ما يقارب ثلاثة عشر عاماً، يواجه جنوب السودان، البلد الذي يضم 12 مليون نسمة، تحديات كبيرة في بناء الدولة. تتشابك التعقيدات الاجتماعية مع الاضطرابات السياسية والأمنية، وتتراكم الأزمات الاقتصادية، ما يؤثر على إمكانية إجراء انتخابات حرة ونزيهة تسهم في بناء دولة مستقرة.
تمديد وتأجيل متكرران
منتصف سبتمبر الماضي، أعلنت السلطات في جنوب السودان تمديد الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام المُنشطة (R-ARCSS) لمدة 24 شهراً إضافية، من فبراير 2025 حتى فبراير 2027. هذا التمديد يؤدي تلقائياً إلى تأجيل الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في ديسمبر 2024 إلى ديسمبر 2026.
تأتي هذه التطورات السياسية في سياق تحديات مباشرة وضاغطة تواجهها البلاد، بعضها ممتد منذ الاستقلال، وأخرى ناتجة عن تحولات سياقية مثل انعكاسات الحرب في السودان التي اندلعت في منتصف أبريل من العام الماضي.
تؤكد الحكومة في جنوب السودان، أن هذا القرار جاء بناءً على توصيات المؤسسات الانتخابية وقطاع الأمن. وصرّح وزير شؤون مجلس الوزراء، مارتن إيليا لومورو، بأن «هنالك حاجة إلى وقت إضافي، لإتمام المهام الضرورية لضمان نجاح الانتخابات». وأوضح مستشار الأمن القومي، توت قلواك، أن التمديد يهدف إلى توفير فرصة لتنفيذ البروتوكولات المهمّة المُتبقية في اتفاقية السلام، مثل إجراء التعداد السكاني، وصياغة دستور دائم، وتسجيل الأحزاب السياسية، وتوفير التمويل الكافي مع تهيئة البيئة المناسبة للعملية الانتخابية.
يمثل هذا التأجيل مع تمديد الفترة الانتقالية محاولة جديدة للتعامل مع الواقع المعقد في جنوب السودان؛ إذ ما يزال اتفاق السلام غير مكتمل التنفيذ، مما يستدعي مزيداً من الوقت والجهود لإنجاز الخطوات الحاسمة قبل الوصول إلى انتخابات ديمقراطية مستقرة.
هذه هي المرة الثانية التي تُمدد فيها الفترة الانتقالية، مما يؤجل تلقائياً إجراء الانتخابات لذات الأسباب والتحديات التي أدت إلى التأجيل والتمديد في المرة الأولى.
نوتة
كان الرئيس سلفا كير ميارديت ونائبه الأول رياك مشار، قد وقّعا اتفاقية سلام عام 2018، أوقفت حربًا أهلية امتدت خمس سنوات من 2013 إلى 2018، واقُتل خلالها أكثر من 400 ألف شخص.
تعقيدات ممتدة
الأوضاع الداخلية في جنوب السودان معقدة. فما تزال الصراعات السياسية والاجتماعية ذات الطابع القبلي قائمة، وتتنافس الأطراف والفصائل المختلفة على السلطة والثروة والنفوذ. ويُعد السلاح والتمرد المسلح القوة الحاسمة في هذا السياق. مثّل اتفاق السلام (2018) خطوة إيجابية نحو إنهاء النزاعات الحادة، لكنه لم يحل جميع القضايا الأساسية مثل تقاسم السلطة، وتوحيد القوات المسلحة، وصياغة دستور دائم، والوصول إلى صيغ توافقية تُسهم في بناء مؤسسات الدولة واستقرارها، كالبرلمان والسلطة القضائية ومجلس الأقاليم.
في يوليو الماضي، أكد الرئيس سلفا كير ترشّحه للرئاسة في ظل عدم إعلان أي مرشح آخر. من المتوقع أن يُعلن نائبه رياك مشار ترشّحه أيضاً، بعد أن أيَّدَ حزبه الحاكم قرار ترشيحه. تعهّد سلفا كير بإجراء الانتخابات في موعدها المُحدّد، على الرغم من تأجيلها لمدة عامين، واصفاً الانتخابات بأنها ستكون «حدثاً تاريخياً».
منذ استقلال جنوب السودان عن السودان في يوليو 2011، تواجه حكومة جوبا ضغوطاً كبيرة داخلية وخارجية، فيما يتعلق بملف الانتخابات وإدارة الفترة الانتقالية، نظراً للتعقيدات الداخلية لجنوب السودان. ففي مايو الماضي، وأمام تجمع حاشد لأنصاره في جوبا، أشار الرئيس كير إلى أن دولًا غربية وبعض أطراف اتفاق السلام يمارسون ضغوطاً لعرقلة موقف حزبه الحاكم من إجراء الانتخابات في موعدها «بحجة أنه إذا أُجريت الانتخابات فإن جنوب السودان سيعود إلى الحرب».
وقال: «يقول الغربيون ستكون هنالك حرب في جنوب السودان بسبب الانتخابات. من فضلكم لا تستمعوا إلى مثل هذه الشائعات، لأنهم يريدون هذا أن يحدث. أحثكم جميعاً على التحلي بالصبر والهدوء». وأوضح موقف الحركة الشعبية بأنه «يجب منح شعب جنوب السودان الفرصة لاختيار قادته». ووجّه حديثه لبعض الأطراف الداخلية المعارضة قائلاً: «أولئك الذين يعارضون الانتخابات ليس لديهم حتى طريق للمضي قدماً، ولا يعطون إجابات عندما نسألهم عن الحل إذا جرى تأجيل الانتخابات، ودائماً يعودون إلينا مطالبين بالحل».
من جانبه، قال رياك مشار، النائب الأول للرئيس ورئيس الحركة الشعبية في المعارضة، إنه «سيكون من المستحيل إجراء انتخابات دون إصلاح قطاع الأمن وصياغة دستور دائم».
صرّح أكثر من مسؤول في حكومة جوبا، في مناسبات رسمية وغير رسمية، قبل إعلان تأجيل الانتخابات وتمديد الفترة الانتقالية وبعدهما، بأن الوضع الحالي للبلاد لا يسمح إطلاقاً بإجراء الانتخابات. يعود ذلك إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة جراء الحرب في السودان المجاور، وعدم تنفيذ العملية السياسية الكاملة للاتفاقية المنشطة، إضافة إلى الأوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية الهشة، وإلا فإن البلاد ستنزلق إلى حالة عنف كما يحدث في السودان.
هنالك انتشار واسع للسلاح على امتداد البلاد وفي أيدي المواطنين، وهو أكثر مما لدى القوات النظامية، كما عبّر مسؤول حكومي رفيع من قبل؛ كما أن هنالك مجموعات مسلحة متعددة، ذات تكوينات وتوجهات إثنية متنوعة، تنتشر على نطاق مفاصل الدولة والمجتمع. هذا فضلاً عن عدم إيفاء الحكومة الانتقالية بدفع مستحقات مالية للأطراف المُشاركة في العملية التفاوضية الجارية في نيروبي وتمويلها حتى تصل إلى مبتغاها.
أصداء محلية
بعد الإعلان عن تمديد الفترة الانتقالية وتأجيل الانتخابات، قدمت مجموعة من المحامين في جنوب السودان دعوى أمام المحكمة العليا للطعن في القرار، مطالبين بإعلانه «باطلاً ولاغياً» و«غير دستوري وغير قانوني»، وفقاً لما صرح به دينق جون دينق الذي تحدث نيابةً عن مقدمي الدعوى للصحفيين. جاء القرار بعد إقرار مجلس الوزراء ومصادقة البرلمان عليه دون تعديلات.
يرى سياسيون ومراقبون في جنوب السودان أن تأجيل الانتخابات وتمديد الفترة الانتقالية في الظرف الحالي خيار أفضل من إجراء انتخابات صورية، خاصة إذا افتقرت إلى المعايير الدولية، مما قد يؤدي إلى إهدار الموارد القليلة ويقود إلى الفوضى. في المقابل، عبّر آخرون عن مخاوفهم من أن يؤدي هذا القرار إلى تأجيج التوتر واندلاع العنف في أنحاء البلاد، التي تعاني بالفعل من هشاشة اجتماعية وسياسية، إلى جانب تداعيات الأزمة الاقتصادية على سبل المعيشة.
على صعيد الشارع، هناك شعور قوي بأهمية الانتخابات كوسيلة لتحقيق الاستقرار وبناء الدولة. كثيرون، وخاصة في العاصمة جوبا، يرون في الانتخابات فرصة للتعبير عن إرادتهم والمشاركة في صنع القرار السياسي. ومع ذلك، وبعد إعلان القرار، يلاحظ وجود شعور مختلط بين القبول والتحفظ والإحباط بسبب التأجيل المستمر لإجراء الانتخابات، والتمديد المتكرر لفترة الحكومة الانتقالية. يأمل الناس، في ظل هذه الظروف الحرجة، أن تؤدي الانتخابات إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز الوحدة الوطنية، وتقليل الانقسامات السياسية والقبلية، والسعي نحو التعايش السلمي، ودفع عجلة التنمية المستدامة في البلاد.
يؤكد المواطن الجنوب سوداني، وافي مصطفى، في تعليق لمجلة «أتَـر»، أن «مسألة تأجيل الانتخابات أو إجرائها ليست ذات أهمية كبيرة بالنسبة لعدد كبير من الناس الذين يعرفهم، ويتركز اهتمامهم على تدبير معاشهم اليومي». بينما يرى آخرون، مثل الباحث والصحافي أتيم سايمون، أن تمديد وتأجيل الانتخابات «يعكس بوضوح غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المتنازعة».
يشعر الشباب في جنوب السودان بأهمية الانتخابات كمحرك للتغيير والتنمية المطلوبة في البلاد. شهدت وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، بعد إعلان قرار التأجيل والتمديد، مطالبات واسعة من الأوساط الشبابية بضرورة إشراك شخصيات بارزة، سواء من الحكومة الانتقالية الحالية أو من المعارضة، في التشكيل الحكومي القادم ، مثل رئيس الحركة الوطنية الديمقراطية، لام أكول أجاوين، الذي يتمتع بتاريخ نضالي وقدرات قيادية تمكنه من تولي مناصب مثل رئاسة الجمهورية أو وزارة المالية أو الخارجية. ويعتقد كثيرون أن إمكانياته قد تسهم في إحداث تغيير إيجابي في مسار الإصلاحات الاقتصادية والسياسية في البلاد، كما أشار الناشط دينق ماجوك.
تومايني ومخاوف سياسية
قال نائب رئيس الجمهورية للشؤون الاقتصادية، جيمس واني إيقا: «إن السلام الدائم لا يمكن تحقيقه من خلال استبعاد أو عزل المجموعات الرافضة»، في إشارة إلى تشجيع أطراف السلام على إيجاد طرق لاستيعاب المجموعات التي ترفض اتفاقية السلام الحالية والمشاركة في محادثات «تومايني» التي بدأت في 9 مايو 2024 في نيروبي برعاية كينيا. وأضاف إيقا أن السعي إلى تقاسم السلطة والثروة والنفوذ بين الأطراف بالطرق السلمية يسهم حتماً في تخفيف «مخاوف القادة الحاليين، ويسهل عملية قبولهم للمبادرة»، ويقلل من حدة التنافس على السلطة والصراع حولها، ذلك لأن «معظم الخلافات مبنية على السلطة». وتابع قائلاً: «نحن بحاجة إلى التصالح مع الآخرين والترحيب بمن كان يقاتلنا، حتى نتمكن من وقف الحرب وفتح مساحة للحوار والمصالحة فيما بيننا في النهاية».
نوتة
مبادرة «تومايني» (Tumaini) التي تعني «الأمل» باللغة السواحيلية، هي إحدى المبادرات الإقليمية الهادفة إلى تحقيق السلام والاستقرار في جنوب السودان بعد سنوات من الصراع المسلح. تُعدُّ هذه المبادرة بديلاً أو مُكمّلاً لجهود السلام التي ترعاها الجهات الدولية والإقليمية مثل الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) والاتحاد الإفريقي. تركز «تومايني» على تحقيق سلام شامل ومستدام، وتسعى إلى تقديم حلول تُسهم في إعادة بناء الاقتصاد والخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والغذاء. وذلك من خلال معالجة جذور النزاع، وإعادة الثقة بين الأطراف، وإشراك المجتمع المحلي بمختلف شرائحه وفئاته، للوصول إلى سلام شامل وعادل ومستدام.
ردود الفعل الخارجية
جاءت ردود الفعل الإقليمية والدولية تجاه تمديد فترة الحكومة الانتقالية وتأجيل الانتخابات لمدة عامين إضافيين متباينة ومتفاوتة في مستويات القبول أو الرفض أو التحفظ. فقد أعربت بعض الجهات عن قلقها إزاء التأخير في إجراء الانتخابات، مما يؤدي تلقائياً إلى تمديد الفترة الانتقالية، مشيرةً إلى أهمية العملية الانتخابية بوصفها آلية مهمة لممارسة السلطة وتداولها وخطوة نحو تعزيز جهود تحقيق السلام والاستقرار الدائم في البلاد. فيما تسامحت أطراف أخرى مع القرار، لأنها ترى أن ذلك يعني الحفاظ على السلام النسبي في ظل التحديات المعقدة التي تواجهها البلاد حالياً.
أعرب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي محمد، في بيان رسمي تناقلته وسائل الإعلام، عن حثه لجميع أطراف المصلحة في جنوب السودان «على العمل من أجل تحقيق الحق المشروع الذي طال انتظاره وتطلعات جميع مواطني جنوب السودان لإجراء انتخابات شفافة وموثوقة»، مجدداً دعوته لهم «لاتخاذ خطوات ملموسة لتنفيذ الاتفاق المتجدد لحل النزاع في جنوب السودان بالكامل»، ومؤكداً «التزام الاتحاد الأفريقي القوي وتضامنه مع حكومة وشعب جنوب السودان نحو إكمال الانتقال السياسي بنجاح وما بعده».
من جهتها، وبعد ترحيبها بتمديد الفترة الانتقالية وتأجيل الانتخابات في جنوب السودان وتأكيد دعمها لتطلعات شعب جنوب السودان نحو السلام والاستقرار المستدام، حثّت الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) على لسان أمينها التنفيذي ورقنه قبيهو، الأطراف والحكومة الانتقالية على مضاعفة الجهود وتوفير التمويل اللازم لاستكمال المهام المتبقية والتنفيذ الفعّال للاتفاقية خلال هذه الفترة الممددة، بما يضمن إجراء الانتخابات في موعدها المحدد.
وبالتالي، كان الموقف العام للأطراف والجهات الأفريقية متضامناً مع القرار. أما الاتحاد الأوروبي، فقد أعرب عن أسفه لقرار الحكومة الانتقالية في جنوب السودان بتمديد الفترة الانتقالية مرة أخرى لمدة 24 شهراً إضافياً، مشيراً إلى معاناة «شعب جنوب السودان من العنف وانعدام الأمن وانعدام سيادة القانون لفترة طويلة جداً»، حاثاً الحكومة الانتقالية على أن تضع مسألة «تنفيذ الالتزامات المنصوص عليها في اتفاق السلام من أولوياتها في الفترة القادمة؛ إذ يتعين الاستفادة من العامَين الإضافيين على نحو فعّال لتنفيذ الأحكام المتبقية من اتفاق السلام، وخاصة فيما يتعلق ببيئة مواتية وآمنة لإجراء انتخابات شفافة وشاملة وموثوقة ودستور دائم يعكس إرادة الشعب».
وجاء موقف حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج في بيان مشترك، مشابهاً لموقف الاتحاد الأوروبي، واصفةً قرار تمديد فترة الحكومة الانتقالية بأنه «فشل»، معبرةً عن قلقها العميق إزاء إعلان تأجيل الانتخابات في جنوب السودان لعامين إضافيين، معتبرةً أن هذا الإعلان يظهر «الفشل المستمر والجماعي لقادة جنوب السودان في توفير الظروف اللازمة لإجراء انتخابات سلمية وذات مصداقية».
من جهتها، قالت الأمم المتحدة التي تشرف على تطبيق اتفاق السلام، عبر ممثلها في جنوب السودان، نيكولاس هايسوم: «بينما ستدعم الأمم المتحدة تمديد الفترة الانتقالية، فإننا نفعل ذلك بأسف وخيبة أمل حقيقية». وأضاف: «قبل عامين، كنا في وضع مماثل لما هو عليه اليوم، وقدمنا دعمنا تحديداً بشرط ألا يكون هناك تمديد آخر. اليوم، من الواضح للأسف أن البلاد ليست مستعدة لإجراء انتخابات»، محمّلاً «الحكومة الانتقالية والطبقة السياسية في البلاد مسؤولية الإخفاقات التي وقعت خلال العامين الماضيين». وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد حث في وقت سابق من هذا العام، الأطراف في جنوب السودان على اتخاذ «خطوات عاجلة» تقود إلى إجراء الانتخابات. وفي السياق، حذرت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان من نقص «الخبرة الفنية والقانونية والتشغيلية» اللازمة لإجراء الانتخابات في ديسمبر المقبل.
حرب السودان تُضاعف الأزمة
ألقت الحرب المستمرة في السودان، منذ ما يقارب عاماً ونصف العام، بتأثيرات عميقة على اقتصاد جنوب السودان. فقد أدى توقف تصدير نفط جنوب السودان عبر خط الأنابيب السوداني إلى الأسواق العالمية منذ فبراير من العام الماضي إلى خسائر كبيرة، إذ يُعد هذا الخط البوابة الاقتصادية الأهم ومصدر الإيرادات الرئيس للحكومة في جنوب السودان. ومع تدهور الأوضاع الأمنية في السودان نتيجة استمرار العمليات العسكرية، تعرضت أكثر من ثلاث محطات نقل بترول لأضرار جسيمة، ما أدى إلى توقف الإنتاج والنقل. هذا التوقف قاد تلقائياً إلى تقليص الإيرادات وزيادة العجز المالي في خزانة الدولة، وتدهور سعر صرف الجنيه، ما انعكس بنحوٍ سلبي على الأوضاع المعيشية في البلاد، بالتزامن مع عدم دفع رواتب الموظفين الحكوميين بمختلف وظائفهم ومستوياتهم لفترة طويلة.
بسبب الحرب المستمرة في السودان، وتعطيل الخطوط الناقلة للبترول إلى الخارج، والتي قد تستغرق ستة أشهر أو أكثر لإصلاحها، وفقاً لمصادر مطلعة في جوبا، ظل نفط جنوب السودان حبيساً في باطن الأرض لأكثر من ثمانية أشهر حتى الآن. أدى ذلك إلى فقدان ملايين الدولارات التي كانت ستمكّن اقتصاد جنوب السودان شهرياً من الوفاء بالالتزامات العامة.
أبلغت وزارة الطاقة السودانية حكومة جوبا رسمياً في مطلع مارس الماضي بـ«انعدام القدرة الفنية لانسياب النفط إلى ميناء بشائر في بورتسودان عبر المنشآت السودانية لأسباب أمنية ولوجستية». وتوقفت فعلياً كمية الخام المقدرة بـ 110 آلاف برميل يومياً، التي كانت تُصدر عبر خط الأنابيب الشرقي في فبراير الماضي، بينما لا يزال 55 ألف برميل يُصدر عبر الخط الغربي المتجه إلى مصفاة الأبيض في شمال كردفان.
أدى توقف تصدير الخام عبر الأراضي السودانية إلى ارتفاع وتذبذب جنوني في سعر صرف الجنيه الجنوب سوداني. وتجاوز الدولار الواحد خمسة آلاف جنيه. كما ارتفعت رسوم النقل وأسعار السلع الغذائية، وتأثرت كمية ونوعية السلع المستوردة من السودان مثل الحبوب والزيوت.
بحسب خبراء اقتصاديين تسببت الحرب السودانية في خسارة جنوب السودان، ما يزيد عن 100 مليون دولار شهرياً، جراء توقف تصدير النفط، بينما يخسر السودان أكثر من 33 مليون دولار من رسوم العبور، فضلاً عن خسارته أصولاً بقيمة حوالي 2.3 مليار دولار في خط أنابيب شركة بشائر. كان السودان قد وقَّع مع جنوب السودان اتفاقية تقضي بنقل 150 ألف برميل من النفط الخام مقابل رسوم عبور تبلغ 24 دولاراً للبرميل، ما يعني عائدات شهرية تصل إلى 100 مليون دولار كان السودان سيحصل عليها لولا توقف ضخ النفط ونقله.
انخفض إنتاج جنوب السودان من النفط، الذي كان يفوق 170 ألف برميل يومياً، بسبب حرب عام 2013 بين الحكومة ورياك مشار، واستمر الانخفاض خلال فترة الإغلاق التي صاحبت وباء كوفيد-19.
سعياً لمعالجة هذه الأزمة، تواصلت جوبا مع طرفي الحرب للتوصل إلى تفاهمات بشأن إعادة تشغيل نقل البترول عبر السودان؛ إلا أن تصاعد وتيرة الحرب والتحولات في مسارها أفشلت تلك المحاولات. مع ذلك، هنالك إصرار كبير على تحقيق اختراق في هذا الملف الحيوي لكل من جوبا وبورتسودان. من أبرز المؤشرات على ذلك زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان الأخيرة إلى جوبا، منتصف سبتمبر الماضي، إذ بحث ملف النفط وتأثير الحرب على الأوضاع في كلا البلدين.
وقد أعلن وزير المالية ومكتب الرئيس في جنوب السودان عن مخرجات الزيارة، مشيراً إلى إحراز تقدم نحو استئناف ضخ النفط الخام المنتج محلياً عبر السودان. وأوضح مكتب الرئيس في بيان أن «المهندسين السودانيين أنهوا الاستعدادات الفنية اللازمة لاستئناف إنتاج النفط، ومن المتوقع أن يتوجه مهندسون من جنوب السودان إلى السودان في الأسابيع المُقبلة، للتأكد من جاهزية المرافق لاستئناف الإنتاج».
أثر النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على نحو سلبي على حركة التجارة والأنشطة الاقتصادية، عبر الحدود ونقاط عبور المواطنين بين البلدين، مثل مناطق الرقيبات وأبيي والرنك، ما أدى إلى نقص الموارد الأساسية مثل المواد الغذائية والوقود. كما أن تدفق اللاجئين السودانيين – ويفوق عددهم 500 ألف لاجئ – وعودة أعداد كبيرة من لاجئي جنوب السودان – بما يقارب 800 ألف عائد – قد أسهما في زيادة الضغط على البنية التحتية والخدمات العامة، مما فاقم الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تضاعفت بفعل الحرب في السودان واستمرارها وتوسعها جغرافياً وسياسياً واجتماعياً.
قال رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات، عبد نيغو أكوك، في وقت سابق، إنه جرى تعليق بدء تسجيل الناخبين المقرر إجراؤه في شهر يونيو الماضي بسبب نقص الأموال. هذا التأجيل مؤشر آخر على التأثيرات السلبية المتعددة للحرب في السودان على جنوب السودان، حيث تتداخل الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لتُشكل تحديات جسيمة أمام الحكومة والمواطنين على حد سواء.
أزمة النفط وتداعياتها
قال وزير المالية في جنوب السودان، ماريال دونقرين، أثناء تقديم مشروع الميزانية للبرلمان في أواخر سبتمبر الماضي، إن الإنفاق الحكومي سيتضاعف تقريباً ليصل إلى 4.17 تريليون جنيه (حوالي 1.4 مليار دولار) في السنة المالية 2024-2025، مقارنةً بـ 2.1 تريليون جنيه في العام السابق. ومن المتوقع تمويل هذا الإنفاق عبر إيرادات نفطية بقيمة 1.138 تريليون جنيه، وإيرادات غير نفطية تبلغ 1.119 تريليون جنيه، فيما ستأتي الإيرادات المتبقية من المنح الخارجية والاقتراض. وأكد الوزير أن اقتصاد جنوب السودان انكمش بنسبة 5% في السنة المالية 2023-2024 بسبب اضطرابات في إنتاج النفط وصادراته جراء الحرب في السودان، فضلاً عن تأثير الفيضانات في أجزاء من جنوب السودان.
ودعا وزير الخارجية والتعاون الدولي في جمهورية جنوب السودان، رمضان محمد عبد الله، في خطابه نيابةً عن حكومة جوبا خلال الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أواخر سبتمبر الماضي، المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم المالي والتقني والإنساني لضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة في ديسمبر 2026. وأكد على الأضرار البالغة التي ألحقتها الحرب في السودان بإنتاج ونقل النفط في جنوب السودان إلى الأسواق العالمية، فضلاً عن التأثيرات المناخية السلبية على البلاد، إضافة إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن النزاع في السودان، حيث نزح نحو 800,000 لاجئ إلى جنوب السودان. كما أكد الوزير أن جوبا ملتزمة بعملية السلام في البلاد، إلى جانب التزام حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية بمحادثات نيروبي.