أتر

في البحر الأحمر: كفاح وأمل في مواجهة البطالة

نزحت رؤى مصطفى من ولاية نهر النيل إلى مدينة بورتسودان، وكانت من قَبل قد درست في جامعة البحر الأحمر. وعند اندلاع الحرب كانت تعمل بالخرطوم في مجال الإعلام والعلاقات العامة، إضافة إلى التسويق، وتنقلت في عدد من المؤسسات والصحف. فقدت رؤى عملها مثل غيرها من الشباب والشابات وعادت إلى ولاية نهر النيل، ثم اتجهت إلى ولاية البحر الأحمر، لتنشئ مقهى ومطعماً صغيراً للوجبات السريعة، لتتمكن من إعالة نفسها وتدفع تكاليف السكن والإعاشة.

تدير رؤى استثمارها الصغير بجانب عملها طباخةً في منظمة، وبعد مواجهة تحديات هائلة تقول إنها قررت استخدام مهارتها في الطهي، لتحولها إلى مصدر دخل. وعلى الرغم من أن حكومة الولاية تقول إنها توفر خدمات من خلال التسهيلات والتصديق، إلا أن رؤى تؤكد أن الاستثمارات الصغيرة، رغم تضاعف أعدادها، ظلت مرهونة بقرار السلطات المحلية في محلية بورتسودان، التي تتشدد وتضع كثيراً من القيود، بغرض تنظيم السوق والشوارع، دون التصديق لهم بالعمل.

وتُطارد السلطات المحلية أصحاب الأكشاك والمحال بحجة أن أصحابها لم يُقيدوا تحت قوانين المحلية، ولم يدفعوا رسوماً أو يستخرجوا شهادة تصديق بمبالغ لا يستطيع صاحب الاستثمار توفيرها.

تختلف التحديات التي يواجهها الشباب في ولاية البحر الأحمر، فمنهم من يواجهون ضائقة مالية وآخرون يواجهون تعقيدات بيروقراطية، إضافة إلى المصاعب التي يفرضها قانون الطوارئ والحظر، ما قد يؤدّي إلى فشل مشاريع صغيرة يعدُّ زمن العمل المتأخر خلال اليوم أحد أسباب نجاحها.

«على الشباب أن يكونوا أكثر قدرة على التكيّف والاقتصاد»، هذه قاعدة اكتشفتها رؤى عندما فقدت وظيفتها وتحوّلت إلى الطبخ، بوصفها مهارة تمتلكها ويمكن توظيفها، وهي الآن تعمل في صناعة الأطعمة في أحد المنظمات، معتمدةً على تلك القاعدة.

ويعمل كل شخص في الأسرة من أجل المساهمة، ضاربين عرض الحائط بالأعراف الاجتماعية التي كانت تحدد الأدوار الاجتماعية والاقتصادية للنساء والرجال سابقاً، فالجميع هنا أمام تحدٍّ واحد سواءٌ أكانوا فقراء أم أغنياء، والجميع يحتاجون إلى المال، والجميع قد خسروا بسبب الحرب

وإزاء ما فعلته الحرب بهم وبوظائفهم وأعمالهم، لا محالة أن كثيراً من أهل السودان قد اكتشفوا هذه القاعدة أيضاً. لقد عطّلت الحرب منذ بدء اشتعالها عمل المؤسسات والورش والمصانع في الخرطوم، ودفعت العمّال والموظفين إلى البحث عن مصادر دخل بديلة، في حركة نزوح وهجرة واسعة إلى الولايات الآمنة، مثل ولاية البحر الأحمر التي أضحت حاضرتها بورتسودان عاصمةً مُصغرة للبلاد، ومدينة اقتصادية مهمة توافَد إليها التجّار ورجال الأعمال، وقدمت لهم غرفة التجارة تسهيلات ضرورية كاستخراج شهادات المنشأ لفتح منافذ لتسيير أعمالهم، فانتعشت المحال التجارية في المدينة بسبب ارتفاع حركة البيع، وواصل القطاع العقاري انتعاشه، لكن كانت لهذا الازدهار ضريبة قاسية: لقد تضاعفت الأسعار على نحو بالغ، ما زاد معاناة النازحين قبل سكان الولاية.

تتنوّع التحديات، ويعيش الناس حياة صعبة في مراكز الإيواء، ويعتمدون على الإغاثة والعون، ويعمل كل شخص في الأسرة من أجل المساهمة، ضاربين عرض الحائط بالأعراف الاجتماعية التي كانت تحدد الأدوار الاجتماعية والاقتصادية للنساء والرجال سابقاً، فالجميع هنا أمام تحدٍّ واحد سواءٌ أكانوا فقراء أم أغنياء، والجميع يحتاجون إلى المال، والجميع قد خسروا بسبب الحرب. ووفقاً لمصفوفة تتبّع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة، في تحديث 15 أكتوبر الجاري، يوجد حوالي 277.393 ألف نازح في ولاية البحر الأحمر.

تقع ولاية البحر الأحمر على الساحل الشرقي للسودان، وتعتمد اقتصادياً على التجارة والصناعة البحرية. وقد تأثرت بالحرب شأن غيرها من ولايات السودان، إذ شهد الاقتصاد السوداني خسائر جسيمة نتيجة تدمير القدرات الإنتاجية وتوقف النشاط الصناعي والخدمي، إضافة إلى تقلّص المساحات الزراعية وتراجُع التبادل التجاري الخارجي وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين.

نوتة

أوضح مكتب السودان بمركز المشروعات الدولية الخاصة، أنّ حجم الدمار الذي لحق بالاقتصاد السوداني في مختلف المجالات التجارية والصناعية والزراعية والخدمية قد يصل بنهاية هذا العام إلى 15 مليار دولار، مشيراً إلى أنّ الأثر السلبي للحرب يتفاقم يومياً منذ اندلاعها، وأن الاقتصاد السوداني كان يعاني أصلاً منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، وما قبله. ومن المتوقع أن تستمر الأضرار الناجمة عن الحرب لفترات طويلة، نظراً إلى الانهيار المتراكم في القطاعات الاقتصادية المختلفة.

ونتاجاً لحركة النزوح المستمرة، وضعت الكثافة السكانية العالية على عاتق الولاية عبئاً كبيراً، في مقابل شحّ الخدمات وفرص العمل، ما يزيد من نسبة البطالة، ويعزز من دوافع الهجرة إلى خارج البلاد بحثاً عن سبل كسب العيش بطرق شتى.

وليست هذه الحال وليدة الحرب وحدها، فقد كانت الولاية تعاني قبل اندلاعها من تدهور حادّ، يؤثر بوجهٍ مُباشرٍ على حياة المواطنين، وظلّ العمال يواجهون تحديات يومية في ظروف اقتصادية عسيرة، بينما يواجه الشباب مصاعب هائلة في العثور على فرص عمل.

ويُعدُّ العمل في الميناء والصيد والتنقيب عن الذهب وغيرها، من مصادر دخل العمالة اليدوية، إضافة إلى أنواع الاستثمارات الصغيرة والكبيرة الأخرى. وفي الولاية كثير من المطاعم والأكشاك والباعة الجائلين، بعد أن شهدت زيادة كبيرة جداً في نسبة العمالة في هذه الجانب.

نوتة

أكد المدير التنفيذي لغرفة المصَدّرين السودانيين محمد الحسن عبد القادر، في تقرير صحفي، أنه قد جرت تهيئة المكان وتوفير البيئة المطلوبة، لكي تؤدي الغرفة التجارية السودانية دورها في إصدار وتوثيق شهادات المنشأ السودانية. ساعد هذا الأمر كثيراً في تسهيل حركة الصادرات التي توقفت لمدة شهر منذ بداية الأزمة في منتصف أبريل 2023.

كان حسين يعمل مهندساً ويشغل منصب مدير قسم الكهرباء في شركة مرموقة، لكنه وجد نفسه فجأة في مواجهة واقع مغاير تماماً بسبب اندلاع الحرب. مع تصاعد النزاعات، اضطرّ حسين إلى مغادرة كلّ شيء، بما في ذلك مسيرته المهنية وأحلامه. برفقة عائلته، بدأ رحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر عبر مدني، القضارف، وكسلا، وصولاً إلى بورتسودان.

في بورتسودان، كانت الأمور أشدّ تعقيداً، ووجد حسين نفسه في مواجهة تحديات ضخمة للعثور على فرصة عمل، ما دفعه إلى التفكير خارج الصندوق؛ فقرّر استغلال الفرص المتاحة في العالم الرقمي، وأسّس مجموعة تضمّ مهندسين متخصّصين في نفس مجاله، وأدار هذه المجموعة عبر التسويق الإلكتروني. برغم التحديات القانونية وعدم الاعتراف الرسمي من السلطات، نجحت الفكرة في كسب شعبية واسعة.

متحدثاً لـ «أتَـر»، يقول حسين بنبرة ملؤها الأمل: «واجهْنا كثيراً من الصعوبات، لكن السودانيين معروفون بقدرتهم على الإبداع في أصعب الظروف. وكما تقول العبارة الشائعة، المعاناة تولّد الإبداع». وعلى الرغم من عدم الحصول على الاعتراف الرسمي، استمّرت مجموعة حسين في العمل مستقلة، بالاستفادة من قوة التسويق الإلكتروني والتكنولوجيا.

يقول المهندس حسين إن الحرب فتحت عيون السودانيين على أكثر القواعد أهمية، وهي التنويع في الاستثمار. «السودان قبل الحرب عبارة عن استثمارات مستنسخة ومتشابهة»، يقول حسين ثم يضيف: «لم ألاحظ حتى الآن استثمارات ذات طابع مختلف، ولكن أشهد تغييراً في أفكار الشباب ودخولهم سوق العمل دون شروط».

تجربة حسين كانت لها آثار عميقة على حياته وحياة أفراد المجموعة. أصبحوا رمزاً للأمل والإبداع في مجتمعهم، وباتوا مصدر إلهام لكثيرين. يواصل حسين السعي لتحقيق الاعتراف القانوني بمجموعته، مؤمناً بأن الإرادة القوية والابتكار قادران على تجاوز أصعب التحديات.

نوتة

تشير تقديرات من المعهد الدولي لبحوث سياسات الأغذية بالتعاون مع المعونة الأمريكية والبنك الدولي، إلى أن الخسائر الاقتصادية قد تصل إلى ما يعادل 48% من الناتج الإجمالي المحلي للسودان. وأوضحت أن القطاع الصناعي كان الأشد تضرراً، وفقد 70% من مدخلات الإنتاج والقوى العاملة والموانئ، أما القطاع الخدمي، فقد بلغت نسبة الخسائر فيه 50% تقريباً، ومن المتوقع أن يفقد 5 ملايين شخص وظائفهم بنهاية العام الحالي.

يشترك حسين ورؤى في أنهما نموذجان يفتحان أعين الجميع على تحديات ماثلة أمام المواطنين، ويقترحان سبلاً ووسائل مبتكرة للتغلب عليها. تقول رؤى إنها تفكر في خلق مساحات آمنة، يجد فيها الناس الراحة وتكون هدفها التبادل للخبرات والتحاور، وأن يحكي الناس همومهم لبعضهم البعض، من خلال منصّة اجتماعية مثل كافيه أو مطعم، ولكن الظروف حالت دون ذلك. ينطبق هذا على المهندس حسين ومجموعته أيضاً، إذ يودّون تطوير اسم عمل بعيداً عن تحكّم السلطات، والاعتماد على التسويق الإلكتروني، بغرض تسهيل الخدمات المتعلقة بالكهرباء من أصغر الخدمات إلى أكبرها.

Scroll to Top