على غير العادة في هذا التوقيت من كلّ عام، ولأول مرة خلال شهر ديسمبر، اجتاحت فيضانات «النيل الأبيض» منطقة «الجزيرة أبا» التي يحفّها النهر من الجانبين، وسط مخاوف السكّان من غمر المنازل السكنية والمشروعات الزراعية وتفاقم الوضع الصحي، مع استمرار ارتفاع مناسيب المياه ومخاطر تهديد الحياة.
ومنذ 14 ديسمبر، ظلّ الأهالي المُحاصَرون بالمياه الجارفة يطلقون نداءات استغاثة ومناشدات للجهات المختصّة والمنظمات الإنسانية للتدخّل العاجل لتقديم المساعدة. وأجبر البعض على النزوح وإخلاء المنازل وسط أزمة متفاقمة بسبب الحصار المفروض على ولاية النيل الأبيض وتداعيات الحرب.
وتزايدت مناسيب النيل بعدد من مدن النيل الأبيض، منها شبشة وود النجومي ومدينتي كوستي والدويم، وعدد من القرى بالولاية.
نوتة
تبعد الجزيرة أبا نحو 193 كيلومتراً عن الخرطوم، وهي من أشهر الجزر السودانية وبها أراضٍ زراعية ورعوية خصبة واسعة، بطول 33 ميلاً وعرض 4 أميال، ومعقل روحي وتاريخي يرتبط بالثورة المهدية على الضفة الشرقية للنيل الأبيض وتُحيط بها المياه في فترات الفيضان.
وتشهد الجزيرة أبا بولاية النيل الأبيض أوضاعاً إنسانية كارثية بسبب ارتفاع في منسوب مياه النيل، بدأ منذ أكثر من أسبوع بحسب حديث السكان لـ «أتَـر»، وأحاطت المياه بعدد من الأحياء، أكثرها تضرّراً أحياء الإنقاذ الغربي، الغار، حي الواحة الطيارات، حمر، مربع 12 الرحمانية شمال غرب، التمرين، زغاوة، مهادي، المزاد. وتبعد هذه الأحياء من ضفة النيل ما بين 3 إلى 5 كيلومتراً. ويهدّد الفيضان الجسر الرئيس المؤدّي إلى الجزيرة أبا «الجاسر».
أدّى الفيضان إلى حالة نزوح جماعي من الجزيرة وتشريد للمواطنين الذين انهارت منازلهم. وشهد يوم السبت 21 ديسمبر محو أحياء برمتها كالإنقاذ ومربع 12. وبحسب مصادر محلية، فإن هناك 8 حالات وفاة بحي الإنقاذ نتيجة تماس كهربائي، قبل أن يتدخل المهندسون لفصل التيار الكهربائي.
مشاهد من الفيضان، تصوير: مراسل أتر
متحدّثة إلى «أتَـر»، تصف آمنة حسين، وهي معلّمة تقطن حي الواحة الطيارات بالجزيرة، إنّ منسوب مياه النيل يشهد حالة ازدياد مطردة منذ أيام: «نعيش حالة من اللا أمان والذعر بسبب الفيضان، يجري التنبيه عبر الجوامع عند ازدياد المياه وكسرها في أماكن جديدة، ليتعاون الناس في تلافي الضرر، خاصة مع انتشار البعوض والثعابين والعقارب وغيرها من الزواحف الخطرة التي تظهر مع هذا الفيضان».
تصف آمنة المكان الذي تقطن فيه بأنه أرض طينية، والماء يتسرّب فيها من الأسفل لذا فقد امتلأت الحمّامات بالماء وطفت على السطح، ما ينذر بتلوّث بيئي خطير. وتقول: «انهارت العديد من المنازل، لكن وضعنا أخفّ ضرراً من منطقة شرق الواحة، التي أصبحت جزيرة معزولة داخل جزيرة، ولا نستطيع أن نصلهم، وليس باستطاعتهم أن يصلوا إلينا، فالمياه في حالة ازدياد ولم نتلقّ أي مساعدات من جهات حكومية أو منظمات حتى اللحظة».
مشاهد من الفيضان، تصوير: مراسل أتر
يبذل الأهالي كل ما في وسعهم لكن الفيضان أكبر من قدراتهم. يجب أن تتدخّل الجهات الحكومية لفتح خزان جبل أولياء حتى لا يقع الحمل كله على النيل الأبيض
«الماء دخل إلى «الكرانك» المبنيّة من القش ويقيم بها النازحون، أما بيوت الطين ففقد انهارت»، يحدّث مصطفى موسى «أتَـر»، وهو مواطن من حي الواحة الطيارات، ويضيف أن الجهود المبذولة حالياً لتلافي الضرر تتمثل في المجهودات الأهلية والفردية فقط، إذ تُغلق مسارات المياه بالجوالات، وجُمِعت التبرّعات وأنشئت تكيّة لمن يعملون في الردم، ومن تحيط بهم المياه ولا يستطيعون الخروج من بيوتهم.
«يبذل الأهالي كل ما في وسعهم لكن الفيضان أكبر من قدراتهم. يجب أن تتدخّل الجهات الحكومية لفتح خزان جبل أولياء حتى لا يقع الحمل كله على النيل الأبيض»، يقول موسى.
فوزية عبد العظيم، من حي الإنقاذ الغربي، تقول إنّ ارتفاع مياه النيل بات أعلى من الردميّة لذا فالوضع لديهم هو الأشد وطأةً بالجزيرة أبا، فجميع سكان الحي نزحوا من منازلهم، ولم يتمكنوا حتى من إخراج أثاثهم لأن المياه غَمرت منازلهم من جميع الاتجاهات، ولم يسلم الزرع من الفيضان. تقول فوزية: «نقدّر ما تمرّ به البلاد من وضع حرج، لكن نأمل في يجري تخفيف الضرر علينا ولو بكلمة طيبة حتى لا نشعر بالتهميش، المواطنون من المناطق غير المتضررة وقفوا معنا وقفات بطولية لن ننساها».
وقد تكبّد مزارعو الجزيرة أبا خسائر كبيرة بسبب الفيضان، فالمياه أتلفت المحاصيل مثل القمح والخضراوات، بعد فيضان خور الجعليين عليها. وناشد المزارعون المسؤولين من وزارة البنى التحتية والدفاع المدني وإدارة الطرق والجسور التدخّل العاجل لأنهم فقدوا محاصيلهم والمياه ما زالت جارية.
مشاهد من الفيضان، تصوير: مراسل أتر
آسيا النور، من حي الغار، ونزحت إلى الجزيرة أبا من أم درمان، تقول إن المياه داهمتهم عند الساعة العاشرة مساء السبت الموافق 21 ديسمبر: «خرجنا على عجل مع أخفّ الأغراض على المراكب ونحن أسرة كبيرة معنا أطفال وعجزة ونساء حوامل، ونمنا ليلتها في الشارع، والآن ننتظر عربة لتقلّنا إلى مدينة ربك. الحمدلله على سلامة أرواحنا».
سمية هارون أيضاً نازحة من أم درمان، تقيم بحي الإنقاذ الذي محاه الفيضان، وتقيم مؤقتاً بجامع الكون في حي الرحمانية حتى تقرّر إلى أين تذهب وأطفالها الأربعة، تقول محدّثة «أتَـر»: «تعبنا من النزوح. وجهتي القادمة ستكون إلى تشاد، وليس بيدي أي شيء سوى ماء في «بستلّة»، والآن نحن بلا مأوى».
يعزو الخبير في مجال الري صلاح يوسف، ارتفاع مناسيب النيل بالجزيرة أبا والنيل الأبيض، إلى توقّف عمليات التشغيل وصيانة الجسور، نتيجة لاستيلاء مليشيا الدعم السريع على خزان جبل أولياء، ما أدّى إلى ارتفاع مناسيب البحيرة في المنطقة جنوب الخزّان؛ لكنه يقول إنّ النيل الأبيض يبلغ ذروة فيضانه في شهري نوفمبر وديسمبر من كل عام. وقد أنشئ خزان جبل أولياء لتنظيم جريان النيل الأبيض خاصة في فترة الصيف، وتتولى وزارة الري السودانية إدارته وتمتدّ بحيرته جنوباً حتى حدود السودان مع جنوب السودان، ويقول إن وزارة الري مسؤولة عن الصيانة السنوية لجسور النيل الأبيض على امتداد البحيرة جنوباً لحماية المدن والقرى من الفيضان.
نوتة
خزان جبل أولياء سدّ حجري على نهر النيل الأبيض بالسودان، يقع على بعد 44 كيلومتراً جنوب العاصمة الخرطوم، أنشئ في عام 1937م، وتبلغ الطاقة التخزينية لبحيرته 3.5 مليار متر مكعب من المياه، وظل تحت الإشراف الفني والإداري للحكومة المصرية التي أنشأته في السودان وفق اتفاقية بقبول إنشاء خزان سنار حتى تحفظ حقّها في مياه النيل دون أيّ تدخّل من حكومة الحكم الثنائي أو الحكومات الوطنية بعد استقلال السودان. وظلّ الخزان يمثل خط إمداد ثانٍ للمياه في مصر، إلى أن زالت أهميته بالنسبة لها بعد قيام السد العالي. وجرى تسليم الخزان إلى حكومة السودان في عام 1977م، ليُستفاد منه في رفع منسوب المياه في المناطق أمام جسم السد وخلفه لريّ مشاريع النيل الأبيض الزراعية في كل من مناطق أبو قُوتة، والفطيسة، والهشَابة، وأم جَر، والدويم، بواسطة الطلمبات.
ويفسّر ساري الحاج، الباحث في قضايا تغيّر المناخ، ما حدث بأنه على ارتباط وثيق بإدارة مياه خزان جبل أولياء، مرجحاً أن إغلاقه أحدث ارتداداً للمياه، خاصة أن الخزان ما زال تحت سيطرة الدعم السريع. يقول ساري مُحدّثاً «أتَـر»: «على الرغم من أن هناك أمطاراً في كينيا ويوغندا وتنزانيا، لكن المستنقعات في جنوب السودان تحجز المياه، لذا لا يمكن أن يكون ما حدث ناتجاً عن تلك الأمطار».
وفي السبت 22 ديسمبر الجاري، تفقد عمر الخليفة عبد الله، والي ولاية النيل الأبيض المناطق التي تأثرت بفيضان النيل الأبيض في الجزيرة أبا، وشملت جولته منطقة الجاسر، والأحياء السكنية، وكلية الشريعة والقانون بجامعة الإمام المهدي، وفقاً لقناة بحر أبيض 24؛ ووجّه بضرورة مضاعفة الجهود واستنهاض الجهد الشعبي والرسمي لمواجهة ارتفاع مناسيب النيل الأبيض ودرء مخاطر الفيضان عن المناطق المتأثرة.
من جانبه، أوضح المهندس الطيب محمد الحسن أن الوزارة في حالة استنفار كامل بجميع كوادرها البشرية وآلياتها لمعالجة آثار الفيضان، مشيراً إلى أن التدخّلات تجري بالتنسيق مع المديرين التنفيذيين بالمحليات، حيث تعمل الفرق الهندسية في مناطق الهشاشة بمحليات الدويم، شبَشة، الكوّه، الملاحة، الجزيرة أبا، العباسية، قلي، الفشَشُوية، وأم جَر.
وعزا ارتفاع مناسيب النيل إلى ضعف التنسيق بين وزارة الري والسدود والولاية، نتيجة الأوضاع الأمنية ووجود الدعم السريع بالخزان، ما ساهم في تفاقم الأزمة.