غداة حرب أبريل 2023، بدأ سوق السيارات في شندي في التوسّع والانتشار، واحتضنت المدينة نحو ثلاثة أسواق كبيرة، توزّعت على أرجاء المدينة، داخل السوق الكبير «الدِّلالة القديمة»، وشرق استاد شندي وغربه، إضافة إلى عشرات المعارض والقرّاشات النازحة من الخرطوم ومدني، وتوزّعت شرق السكة الحديدية وغربها في مدخل سوق المدينة.
ومنذ عقود اتجه التجّار والمورّدون، على قلّتهم، لجلب السيارات من أسواق «الكرين» في الخرطوم بحري وأم درمان إلى شندي، لكن لم تكن حركة بيع السيارات وشرائها جزءاً من السوق في شندي حتى بداية الألفية الثانية. بعدها شهدت المدينة نشوء دِلالة مصغّرة في الجهة الجنوبية من سوق المدينة، زادت رقعتها وقوتها الشرائية مع دخول السيارات المنهوبة عقب اندلاع الحرب الليبية (2014-_2020) عبر مدن غرب السودان، والتي تعرف بالـ «بوكو» بعد تقنينها بواسطة السلطات السودانية.
نوتة
قضى سوق سيارات البوكو على «أسطورة» سيارة الڤولغا التي شكّلت ذاكرة المدينة وكانت جزءاً منها. وصارت سيارات البوكو بموديلاتها العصرية المشاغبة هي الركوبة المفضلة في المدينة، لا سيما لدى الشباب. وقد عُرفت مدينة شندي، منذ بواكير استقلال السودان في العام 1956، بنوع من السيارات سوڤييتية الصنع، من ماركة ڤولغا، وتميزت بها دون غيرها من المدن السودانية الأخرى، وكانت تأتي من الاتحاد السوڤييتي السابق، مباشرة إلى سوق شندي. انتشرت السيارات السوڤييتية في السودان، خاصة في سبعينيات القرن الماضي، وكان وكيلها الرئيس في المحطة الوسطى بالخرطوم.
أثبتت سيارات الڤولغا كفاءتها للاستخدام، وهي متينة وواسعة، وبمقدورها أن تحمل عائلة كاملة تتألف من الأحفاد والأبناء والجدات. صُنع أول موديل لسيارات الڤولغا في العام 1956، وصارت بلونها الأبيض الممّيز تاكسي شندي الرئيس، واستمرت ماركاتها في التطور والتجديد حتى انقطعت وتوارت عن شوارع المدينة، بعد صمود شرس وخدمة جليلة طوال أكثر من نصف قرن، وكانت عندما تختفي في الخرطوم أمام رواج موديلات أخرى أكثر نعومة وحداثة، تظهر في الأقاليم، فرحلت إلى عطبرة وحلفا القديمة وشندي، واستوطنت هناك طويلاً.
يخبر التاجر عبد الباقي أحمد، نازح وصاحب معرض، مراسل «أتَـر» أنه على الرغم من أن اندلاع الحرب في الخرطوم كان مفاجئاً للكثيرين، إلا أنه شعر ببوادر اندلاعها قبل يوم واحد، بعد أن لاحظ تحركات غريبة لجنود ومركبات مدججة بالأسلحة الثقيلة وهو يقود سيارته صباح الجمعة 14 أبريل 2023 من حي السرحة بأم درمان، مروراً بجسر الحلفايا، إلى مقر عمله بـ «الكرين» بحري.
«ألهمني الله بفكرة الاتصال بأصحاب السيارات المعروضة للبيع بمعرضي وإخبارهم بضرورة استلامها اليوم قبل الغد». يقول متحدثاً لـ «أتَـر» ثم يزيد: «كانت تقبع نحو 19 سيارة من مختلف الماركات والموديلات بالمعرض، جاء أصحابها فوراً وأفرغوا المعرض، ولم يتبق لي غير سيارتين أملكهما».
خسائر الحرب المؤلمة
غادر عبد الباقي إلى منزله في ضاحية الكدرو حيث يقطن مع أسرته وبقى هناك لنحو شهرين بعد اندلاع شرارة الحرب. وعقب قصف سوق الكدرو توجه جنوباً إلى مدينة ود مدني، وبدأ تأسيس معرض جديد للسيارات.
«بدأتُ تعويض خسارتي في مدني، لكن سرعان ما اجتيحت المدينة، وفقدتُ إحدى السيارتين». نزح عبد الباقي من جديد غرباً إلى مدينة المناقل ومنها شمالاً إلى شندي ليؤسّس معرضه الحالي.
في شندي، بدا سوق السيارات مزدهراً، لكن عبد الباقي يشكو من بعض المعوقات التي تواجهه ورفاقه في السوق جراء الجبايات الكثيرة التي تفرضها السلطة المحلية، من إيجار ورخصة عمل وضريبة قيمة مضافة وبعض الرسوم التي تُفرض توالياً من حين إلى الآخر. يقول: «الآن يعاني السوق من كساد شديد، وغلاء فاحش في الأسعار، خاصة بعد العملية العسكرية الأخيرة للجيش في شمال بحري، فقد أحجم التجار عن البيع، في مقابل عزوف عن الشراء. وننتظر انفراجاً في الأزمة أو نهاية للحرب بأي ثمن».
يبدو عماد محمد الشكري منكسراً ومتألّماً، وبنبرة متهدّجة يخبر «أتَـر» كيف أنه فقد، في هوجة الحرب وعلى نحو خاطف، ما ظل يجمعه طوال شقاء عقدين من الاغتراب في المملكة العربية السعودية، أسّس خلالهما معرضاً كبيراً للسيارات ببحري قوامه نحو 19 سيارة من أحدث الموديلات الجديدة وصالة ضخمة للمناسبات بالقرب من كوبري الحلفايا على طراز فريد ومتكامل.
«فقدتُ معرضي بالكامل، ونُهبت الصالة بجميع محتوياتها من أثاث وأجهزة صوت وكاميرات ڤيديو ومطبخ حديث. كنتُ في السعودية حين اندلعت الحرب، ولم يتمكّن أخي من إخراج السيارات إلى مكان آمن، فقدتُ أيضاً محتويات منزلي بحي كافوري وجميع مدّخراتي التي أسّستها من صبر وعرق الاغتراب الطويل، وباتت يدي فارغة من كل شيء»، يقول الشكري.
في البداية كان السوق منتعشاً، وتنشط فيه حركة بيع وشراء، وتمدّدت المعارض لتصل إلى نحو عشرين معرضاً ضخماً بمختلف أنواع السيارات، إضافة إلى ثلاث دِلالات كبرى تتوزع داخل السوق
وفي شندي التي جاء إليها نازحاً، يحاول الشكري البدء من الصفر في مدينة لم تشهد قبلاً سوقاً مُنظّماً للسيارات، بحسب ما يقول، فالسيارات التي بمعرضه المتواضع تخصّ آخرين يبيعها مقابل عمولة محددة سلفاً، ولا يُوفّر له بيعها أكثر من دفعيات الإيجار والضريبة والرسوم.
«في البداية كان السوق منتعشاً، وتنشط فيه حركة بيع وشراء، وتمدّدت المعارض لتصل إلى نحو عشرين معرضاً ضخماً بمختلف أنواع السيارات، إضافة إلى ثلاث دِلالات كبرى تتوزع داخل السوق»، يقول لـ «أتر».
ويعزو الشكري الكساد الذي يجتاح سوق السيارات رغم الزيادات المضطردة في الوقود، للانخفاض الهائل في قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار، واضطراب الاقتصاد العام وانهياره بسبب الحرب، وارتفاع أسعار قطع الغيار والصيانة.
نوتة
ومنذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل، شوهدت مجموعات مسلحة وعصابات متخصصة في السرقة تهجم على عدد من مخازن وكلاء السيارات في مدن العاصمة الثلاثة وأفرغوها تماماً من المخزون. وأعلنت شركة السهم الذهبي، حينها، عن سرقة ونهب 1.192 سيارة ماركة تويوتا و173 شاحنة هينو وعدد كبير من الدرّاجات النارية من مخازنها ومعارضها بالخرطوم ومنطقة قرّي الحرة في بحري منذ اندلاع الحرب. ووصل عدد المركبات المنهوبة من العاصمة الخرطوم، بحسب الشرطة السودانية، إلى 153 ألفاً و572 سيارة. وتزايدت الأرقام مع دخول ولايات جديدة في مناطق الحرب والنزاع في الجزيرة وولاية سنار التي ارتّدت بدورها عقوداً إلى الوراء، باستخدام عربات تجرّها الدواب.
شندي ترث الخرطوم
يقدّر حازم عثمان الصديق، رأس المال المتداول في سوق شندي للسيارات بأنه يترواح بين 15 إلى 20 ترليون جنيه سوداني، وأن ما يقدر بـ 70% من مشغِّلي معارض شندي الجديدة ودِلالاتها هم من أهل المنطقة، لامتلاكهم اقتصاداً مستقرّاً وحيازتهم أموالاً من دخل الزراعة والبساتين والثروة الحيوانية، في مقابل أصحاب المعارض، الذين نزح أغلبهم من الخرطوم وفقدوا، جراء الحرب، آلاف السيارت وأكثرية أصول أموالهم ومدخراتهم.
ويكشف الصديق، وهو صاحب معرض، في حديثه لـ «أتَـر» عن مشكلات جمّة تعتري السوق، منها الاستيراد غير المقنّن لموديلات يحظر بنك السودان تمويلها منذ العام 2020، لكنها ترد إلى السوق بطرق أخرى ملتوية مع غضّ بصر السلطات، عن طريق استخراج اعتمادات من بنوك خارج السودان.
وقد اندلعت في أغسطس من العام الماضي خلافات حادة بين وزارة الداخلية ممثلة في الجمارك السودانية ووزارة التجارة، استمرت لأكثر من شهرين بشأن إيقاف استيراد السيارات. وبحسب وكالة السودان للأنباء تكونت لجنة جديدة لمراجعة السياسة المتعلقة باستيراد السيارات في السودان.
وكشف مصدر مطلع لـ «أتَـر» أن قرارات اللجنة ارتكزت على سياسات قديمة بحظر الاستيراد للموديلات من سنة إلى عشر سنوات ماضية، والسماح فقط باستيراد موديل السنة الجارية، لكن المصدر عاد وأوضح أن الاستيراد استمر باستثناءات لمورّدين محدّدين وصفهم بالمقربين من السلطات.
«ربما لتعويض آلاف السيارات التي نُهبت وغادرت إلى مناطق سيطرة الدعم السريع أو خارج السودان»، يقول الصديق لـ «أتَـر» مبرراً للاستثناءات، ويضيف: «رغم ذلك فإن أسعار المركبات تضاعف أربع مرات على ما كان عليه قبل الحرب». ويزيد أن شندي، رغم صغر حجمها، ورثت سوق السيارات بعد ضربتي الخرطوم ومدني وشُيّدت بعض معارض السيارات على غرار ما كان بالخرطوم. يقول لـ «أتَـر»: «ليس السيارات والمركبات وحدها، لكن بالمدينة دلالة كبرى لبيع الركشات القادمة من أم درمان وشرق النيل».
يُطْلِع الشاب منتصر مصعب «22 عاماً» «أتَـر» على تجربته في جلب «الركشات» من أم درمان لبيعها في مدينة شندي بفارق سعر معقول: «بالصدفة دخلت الى هذا المجال واستمررت». نزح منتصر إلى شندي بعد ازدياد وطأة القصف المدفعي على كرري، وجلَب ركشته المتعطلة لأكثر من شهرين بسبب انعدام الوقود وقلة السكان، وفي مدخل كوبري المتمّة تشبّث بها مُشترٍ وظلّ يطارده ليومين حتى تكتمل البيعة بسعر مجزٍ. «فكرتُ، لماذا لا أواصل في البيع والشراء لتأمين عيشي في مدينة لم أعرفها من قبل»، يعود إلى أم درمان ويجلب ركشة أخرى وأخرى. ويقول: «ليس الموضوع بهذه السهولة، تعترضنا تعقيدات في الطريق والتأكّد من سلامة الركشة وأنها ليست مسروقة، واستخراج تصاديق المرور من سلطات الجيش والشرطة والمحليات، ومع ذلك، فإن المرور عبر الارتكازات العديدة ليس سهلاً».