أتر

على ظهر «أم ݘليلي»: حكايات من الحَلَّالات

في الشهور التي تلت اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023، وقبل أن تصل إليها ألسنة النيران، شهدت حلّال شمال دارفور وبلداتها ازدهاراً في أسواق «أم دَوَرْوَر»، نتيجةً لحركة نزوح المواطنين من أنحاء إقليم دارفور المشتعلة إليها. وقد درَج أهل الإقليم منذ القدم على إقامة مثل هذه الأسواق المتنقلة، والتي تعتمد على من يعملون بالتجارة من سكان القرى والحلّال التي حولها. يحمل كُلٌّ خيرات أرضه ومنتجاتها جائلاً بها بين الأسواق، عبر عربات «أم ݘليلي» (لتقريب نطقها، استخدمنا الحرف ݘ في مقابل الحرف ch)، فلكل منطقة أو حِلَّة يومُ سوق، تزدهر فيه تجارة مختلف المنتجات وحركة المطاعم التي تقدم الشواء والمقاهي الصغيرة. يتزيَّن الناس ويفدون إلى السوق في يومه، كأنه يوم مبارك. وتحمل القرى لبعضها مُختلف ما يتوافر لديها، وتؤوب حاملة منتجات القرى الأخرى.

ارتبطت أسواق «أم دوَروَر» بعربات «أم ݘليلي»، وتُربط على أطرافها «جركانات الزيت الفارغة»، وبعض الأعواد التي يُعلّق بها الدجاج البلدي وغيره من السلع المتنوعة باختلاف المناطق. تجوب العربات المدن الصغيرة وحواضر المحليات المختلفة طوال أيام الأسبوع للحاق بجميع الأسواق: (السبت: قِريدْ برشم، الأحد: دار السلام، الاثنين: الفاشر، الثلاثاء: ودْ كُوتة، الأربعاء: خزّان جديد، الخميس: ودعة، الجمعة: ساني كرو).

تطوي «أم ݘليلي» طرقاً ترابيةً متحركة (القيزان) وودياناً وعرة، لتربط بين الأسواق حتى اندلاع حرب أبريل، التي قلبت الموازين رأساً على عقب، فانتعشت أسواق وماتت أخرى على حسابها، وأُغلقت طرقات وفُتِحَتْ أخرى لاستكمال المشوار.

نوتة

«أم ݘليلي»، اسم شعبي رائج في مناطق كردفان ودارفور لسيارة دفع رباعي، بدأ إنتاجها من شركة تويوتا سنة 1951م، وتُعرف باسم «بربارا» في مناطق أخرى من السودان، وتمتاز بصلابتها وتحمُّلها، إذ تستطيع عبور الوديان والطرق الرملية، وتربط القرى وأسواقها ببعضها البعض، وتُستخدم في نقل البضائع والمُنتجات من مناطق إنتاجها، أو في النقل من منطقة إلى أخرى.

قبل الحرب، كانت السلع تَرِد إلى شمال دارفور عبر طريقين: من وادي حلفا على الحدود السودانية المصرية، إلى أم درمان، ثم تسلك طريق بارا إلى الأبيّض فالنهود، ومنها تُنقَل عبر طريق الإنقاذ الغربي، إلى الفاشر ومن ثمّ إلى مختلف مدن إقليم دارفور؛ وأخرى تُجلب من ليبيا عن طريق ملّيط، وتبعد عن مدينة الفاشر حوالي 65 كيلومتراً شمالاً.

اندلعت الحرب، وبات استخدام الطرق القومية في النقل والتسفار رهيناً بالمستجدّات الحربية، لكن مع ذلك ما زال الناس يبتكرون طرقاً جديدة أو قديمة مستعادة ليدبّروا سبل الرزق والمعاش.

نوتة

في يوليو 2023، أصدر مجلس الوزراء قراراً بإغلاق طريق الصادرات بارا-الخرطوم، أمام حركة جميع أنواع السيارات. ونوّهت القوات المسلحة إلى أنها ستتعامل مع جميع أنواع المتحركات على هذا الطريق كأهداف عسكرية.

ومع انتعاش سوق الدبّة، غداة الحرب، وازدهار الطريق القديم بينها وشمال دارفور، ظهرت سلع جديدة في أسواق «أم دوَروَر»، لم يعتد عليها السكان، خاصة بعد أن سيطرت قوات الدعم السريع على طريق مليط وقطع الطريق بينها والفاشر.

بات سوق الدبّة، الذي ترد إليه السلع الاستهلاكية من ليبيا ومصر، مورداً رئيساً لأسواق أم دَوَرْوَرْ بولاية شمال دارفور، وللفاشر المحاصرة بنقاط الارتكاز والمبالغ الكبيرة التي يدفعها سائقو شاحنات النقل لنقاط الارتكاز وعصابات النهب، مما ضاعف تكلفة النقل ومن ثم الأسعار.

قدح النبي

(قدح النبي والبِمْشي الله بدّي)، عبارة تجري على ألسنة أهل الأسواق المتجوّلة في وصف أسواق أم دَوَرْوَرْ، وتعني أن من يذهب إلى أحدها لن يعود خالي الوفاض، فخيرات الأرض هنالك.

يبدأ مرتادو السوق يومهم بالإفطار، متناولين المناصيص على رواكيب القهاوي، فاللحوم تباع بالكيمان بدلاً من الميزان، وقد اعتاد الناس على رخاء أسواق «أم دورور». وبعد الإفطار يبدأ عرض السلع.

تعمل لمياء محمد تاجرة بأسواق دار السلام وودعة وخزان جديد وعِدّ البيضة، وهي إضافة إلى ذلك ربّة منزل وطالبة جامعية، نزحت من جنوب دارفور إلى شمالها بعد سقوط مدينتها تحت سيطرة قوات الدعم السريع. تقول متحدثة إلى «أتَـر»: «قبل اندلاع الحرب في 15 أبريل، كنتُ أعمل في صناعة المخبوزات وتجارة الأواني المنزلية والملابس، وأشحن بضائعي من أم درمان، وعندما اشتدّت وطأتها على مدينتي نزحتُ إلى محلية كلمندو بشمال دارفور».

بعد نزوحها توقّفت عن العمل في التجارة، ثم بدا لها أن الحرب قد تطول، فقرّرت العودة إلى السوق، لكنها اختارت هذه المرة بيع العطور وأدوات التجميل الأخرى بين أسواق عِدّ البيضة بمحلية كلمندو ودار السلام وخزان جديد وودعة.

تُواصل لمياء العمل في أسواق «أم دَوروَر»، رغم التحديات العديدة التي تُواجهها، مثل انقطاع الطرق وحصار المدن الكبيرة، وانتشار النهب المسلح على الطرقات. وحتى يونيو الماضي، كانت تشحن بضاعتها من مدينة الفاشر، وعقب حصارها اضطرت إلى ترك تجارتها القديمة مُكتفيةً بالعطور وبعض المواد الغذائية، التي تجلبها من خزان جديد أو مليط، رغم ارتفاع أسعارها بسبب زيادة تكلفة النقل التي يُضاف إليها ثمن المخاطر التي قد تواجه السائقين والفواتير التي تُدفع في الطرقات.

لا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ. تواجه لمياء مصاعب في سداد أسعار السلع التي تضاف إليها تكلفة الفرق بين البيع «كاش» و«بنكك»، والتي تصل إلى 25%، مع صعوبة إضافة فرق السعر في البيع، لأنه يُثقل على المشتري الذي يعاني الأمرّين في الحصول على الكاش.

من الدبّة إلى خزّان جديد وبالعكس

الأسعار ليست مرتفعة، لكن الفرق يكون في تكلفة الشحن والرسوم التي يدفعها السائقون في محطات كثيرة، منها ما يتبع للدعم السريع وأخرى للإدارات الأهلية، وأحياناً نواجه أشخاصاً مجهولي الانتماء

«جميع السلع تتجه من سوق الدبة إلى خزان جديد بشمال دارفور، وهو من الأسواق التي ازدهرت وتوسّعت بسبب الحرب، وأصبح منطقة للتوزيع نحو بقية محليات الولاية المختلفة. أما من خزان جديد فتعود الشاحنات إلى الدبة، مُحمّلة بالمحاصيل مثل الفول السوداني والسمسم والكركدي والأمباز والصمغ العربي وأحياناً الماشية» يقول صاحب محل الترحيلات عبد الماجد الدومة، متحدثاً إلى «أتَـر».

ويُقدّر عبد الماجد عدد الشاحنات التي تَنقل البضائع بقرابة 20 شاحنة كبيرة أسبوعياً أو أكثر من ذلك، وتحمل الدقيق أكثر من غيره، إضافة إلى السكر والشاي والبُن والملح والخميرة والمكرونة والشعيرية والأرز والتمر وملح الطعام. وتنساب البضائع بكميات كبيرة جداً، وهي إما سودانية الإنتاج أو واردة من دولتي مصر وليبيا.

أما عن الأسعار، فيقول الدومة إنها «ليست مرتفعة، لكن الفرق يكون في تكلفة الشحن والرسوم التي يدفعها السائقون في محطات كثيرة، منها ما يتبع للدعم السريع وأخرى للإدارات الأهلية، وأحياناً يواجهون أشخاصاً مجهولي الانتماء». وحسب عبد الماجد، فإن الرسوم من الدبة حتى خزان جديد تصل إلى 8 ملايين جنيه، وتضاف إلى أسعار السلع، هذا فضلاً عن سعر الشحن الذي يتضمن تكلفة الوقود.

وعن تأثير منع قوات الدعم السريع مرور شاحنات المحاصيل المتجهة إلى الدبة، يقول الدومة إنه من المتوقع أن يتزايد التأثير لاحقاً، لأن المصدّرين يتوقفون عن التصدير من بداية أكتوبر حتى مطلع نوفمبر بانتظار إنتاج العام.

ويوضح الدومة، أن محاصيل الفول والسمسم والحبوب ومختلف المحاصيل والماشية، تُنقل من منطقة خزان جديد إلى سوق الدبة، وتكلف المركبة الكبيرة عشرة ملايين جنيه سوداني، والمركبة المتوسطة من سبعة إلى ثمانية ملايين جنيه سوداني، وتواجه هذه المركبات بمسلحي الدعم السريع، الذين يعرضون على السائقين حمايتهم لمسافة 150 كلم بها 12 نقطة ارتكاز، وكل نقطة تتحصل على مبلغ يتراوح بين 100-200 ألف جنيه سوداني مقابل المركبة الواحدة. وتتحرك الشاحنات في طوف قد يضم 60 عربة، وتمضي في صحبة قائد من المجموعة المسلحة، يتفق سلفاً مع القوى الموجودة بنقاط الارتكاز.

متحدثاً لـ «أتَـر» يوضح آدم، وهو سائق شاحنة بضائع، أن نقاط الارتكاز لا تتبع جميعها للدعم السريع، لكنها تتزيّا بزيه، ومنها ما يتبع للإدارات الأهلية لقبائل الحمر والكبابيش باختلاف مناطقهم التي يمر عبرها الطريق نحو الدبة، ويسمحون للمركبات بالمرور، لكن في بعض الارتكازات يصرّ الجنود على دفع رسوم العبور.

تتضاعف قيمة البضائع في الطريق من الدبة إلى شمال دارفور، وهو ما يحدث أيضاً للبضائع المتوجهة إلى مدينة الدبة، وهو ما يُعرّض كثيراً من التجار للخسارة.

ووفقاً لآدم، فالمبالغ المدفوعة للبضائع المتجهة إلى شمال دارفور قد تزيد، لتصل إلى 13 مليون جنيه سوداني، والمتوسطة 10 ملايين جنيه سوداني، ما يؤثر على أسعار السلع التي تَرِد من سوق الدبة وهو المصدر الرئيس لبضائع مثل الصابون والزيوت والسّكر والفول المصري والدقيق وغيرها.

السلعة السعر عند الشحن من سوق الدبة السعر في شمال دارفور
جوال الدقيق 25 ألف جنيه سوداني 65 ألف جنيه سوداني
جوال الملح 10 آلاف جنيه سوداني 60 ألف جنيه سوداني
جوال العدس 30 ألف جنيه سوداني 95 ألف جنيه سوداني

أما إذا تعطّلت المركبة أو تعرّضت لأي عائق، وتطلَّب الوضع إحضار قطع غيار أو المحافظة على سلامتها من قِبل قوات الدعم السريع، فإن أفرادها يزيدون قيمة الحماية أو الاستئجار. ويضيف أنه عند وصول الشاحنة إلى منطقة خزان جديد بشمال دارفور، يتطلب تفريغ شحنة البضائع ما تصل قيمته إلى مليون جنيه سوداني، تُدفع لمختلف فئات قوات الدعم السريع التي تُطلق على نفسها مسميات مثل: بوابة رئيسية، وجهاز مخابرات، وشرطة واستخبارات، ولجنة خدمات المنطقة، ويدّعي كل منها أحقيته في الدفع.

فوجئ آدم في رحلة العودة إلى الدبة، حاملاً شحنة فول سوداني وسمسم، بمنع مرور أي مركبة شحن تحمل بضائع ومحاصيل تتجه شمالاً، وفق توجيهات قيادة الدعم السريع كما أخبره الجنود بالبوابة، رغم أنه دفع الرسوم ويحمل تصاريح مرور، وأوضحوا له أن أوراق الرسوم لا تعنيهم، وأخذوا منه مبلغ مليونَي جنيه مقابل العودة وإذن التفريغ.

اضطر آدم للعودة إلى خزان جديد مرة أخرى، وأثناء تفريغ المركبة، وصلت إليه مركبتان تتبعان للدعم السريع، وأجبره أفرادها على دفع 8 ملايين جنيه أو مصادرة البضاعة، فاضطر للدفع.

ويروي آدم أن أحد زملائه كان قادماً من الدبة نحو خزان جديد، فجرى توقيفه على بعد 70 كلم منها من قبل قوات الدعم السريع، وتحصّلوا منه على مبلغ 3 ملايين جنيه، وغيّروا وجهته إلى مدينة الضعين. أيضاً يخبر «أتَـر» أن زملاء له يمتلكون مركبات تحمل كركدي وأمباز وسمسم وماشية، أوقفت في حمرة الشيخ بولاية شمال كردفان.

Scroll to Top