أتر

ازدهار الدبّة: ماضٍ متكرر ومُستقبل مُستعاد

لم يكن الطريق إلى المدينة العتيقة سالكاً. هذه فلوات متوّجة برمالِ بَيّوضة، وأولئك عُربان من قرى متناثرة على هضاب جرداء تختلط بها الرياح. وعند الوقوف على مشارفها، تبدو مدينة الدبّة كالعنقاء في منحنى النيل الذي تزينه الجزر الزراعية، ونخيل موغل في القدم، وأشجار المانجو التي تشهد على تحوّل في طبيعة الإنتاج المحلي: من التمر إلى المحاصيل البستانية التي غزَت ضفاف النيل في العقد الأخير. بين عراقتها وحاضرها الحي، بين تغيّرات المناخ والرغبة في زيادة الإنتاج، تبرز معالم مغايرة.

وإن كانت الزراعة هي عماد المناطق النيلية على المنحنى، فقد ظهر التعدين ملمحاً جديداً يضيف ثراءً غارقاً في عشوائية التنقيب. وبدورها تركت التجارة بَصْمَتها الباقية على الدبّة منذ قرون بين نشاط وفتور وما فتئت تتجدد، إذ كانت المدينة تربط درب الأربعين بعمق ديار الشايقية ومشايخ البديرية وامتدادات الهواوير والحسّانية، مثلما تربط قرى المحس ومشيخاتها ببوادي الكبابيش وديار الحَمَر.

على الرغم من احتضانها مساحات زارعية شاسعة على طول ضفتي نهر النيل، تقدرها وزارة الزراعة بالشمالية بـ 12% من مساحة الولاية، شهدت محلية الدبة في العقود الماضية سكوناً لا تحركه سوى الرياح الموسمية، وقد عانت من الهجرة وانتقال العائلات إلى مدن وبلدات أخرى.

قبل أكثر من عشر سنوات، كان النشاط الرياضي متوقفاً منذ عام 2005، والأندية خالية من الرواد. أحمد سعيد، أحد أعيان المنطقة، يقول إنه قبل ثلاثة عشر عاماً (2011)، كانت المدينة أشبه بمنزل مهجور: النفايات مكدّسة، والخريف يعبث بالطرقات، والشباب يهاجرون إلى مدن أخرى. لكن التعدين، ثم الحرب، أعادا إلى الدبة روحها «السوق» وريحانها «العائلات والأسر».

مع اندلاع الحرب في 15 أبريل، ازدهرت الدبّة ونهضت كالعنقاء من رمادها تحت تأثير النزوح الكبير الذي شهدته الخرطوم. من جميع أحياء العاصمة، خرج المواطنون من المدينة الجريحة عائدين إلى منازل هُجرت منذ عقود. ورغم أن البعض كانوا يتواصلون معها في مواسم الحصاد، إلا أن العودة هذه المرة كانت مختلفة. قد يلاحظ زائر المدينة آثاراً متعدّدة تركتها موجات النزوح وطبيعة التوزيع السكاني في المنطقة، ومظاهر العودة ذاتها أو الهروب من جحيم الحرب من مختلف مناطق السودان شرقاً وغرباً.

مصبّ التجارة ومنبع الأمل

أهم طرق التجارة ومسارات القوافل في عصر سلطنة الفونج، وتقع الدبة في مركزها. المصدر.

تقع الدبة في منطقة انتقالية، حيث تمثل رابطاً بين الأقاليم الشمالية والغربية والشرقية. إذا نظرنا إليها كنقطة في سياق مسارات تجارية طويلة وعناصر مكثفة من مجتمعات مختلفة، يحكم السوق منطقها ويحدّد شروطها ومعالمها، إلى جانب التقاليد التي تفسح لها المجال لتكون ملتقى تجارياً مفتوحاً على التاريخ والحاضر، إضافة إلى رسوخ تقاليد السوق التي نبتت في تربة ريفية غير صناعية، يبرز مفهوم «الضيافة» هنا بقوة، ويتحرك ضمن التعاقدات بين أصحاب الأرض والتجار وعابري الطريق الذين يأتون للسوق من أجل «الزاد» و«التشوين». لذلك، يتمفصل الاقتصاد ضمن تركيبة العبور على سوقها.

إنّ الانفتاح الذي تقدّمه الدبّة لزائريها مميّز ومختلف؛ فالجميع يمكنهم أن يأتوا إلى هنا ويعرضوا ما لديهم أو يطلبوا ما يشاءون. وفي الوقت ذاته، تتيح المدينة مساحة تعارف للقادمين ضيوفاً عليها؛ هذه المساحة التي يخلقها فضاء المدينة تُمكِّن الباحث عن غرضه من أن يجده، وفي الوقت نفسه تحفظ للأهالي، أصحاب الأرض، مساحتَهم، دون أن يُبدِّل ذلك من مبدأ المصلحة الذي يمكن أن توفره المدينة.

هذا ما جعل الدبة مربعَ أمل لجميع القادمين من أنحاء السودان، وسمح لها بأن تكون نقطة بديلة للسوق التجاري حالياً، سواءٌ أكان في الأبيض أم درمان أم الفاشر، فضلاً عن موقعها الجغرافي الذي يرتبط ببادية الكبابيش ومنطقة أبو زعيمة وحمرة الشيخ بشمال كردفان، ويرتبط بدارفور عبر مناطق ساري وأم هجيليج وغبيش، والاتجاه جنوباً نحو الكومة أو غرباً إلى مليط. وتتفرع هذه الطرق لتشكل «درب الأربعين» القديم، بجانب اتصال الدبة مع ليبيا عبر المثلث أو مصر التي يمكن دخولها عبر طرق التهريب أو الطرق الرسمية من خلال معابر أرقين.

نوتة

ذلك ما شهده وعلق عليه أغلب زوار السودان من الرحّالة الذين جلبهم إليها النيل، فقد وصفها الرحالة بروان في أواخر القرن الثامن عشر بأنها “مكان تجارة كبير”، وسوق نشط يجري فيه تبادل مختلف البضائع، وأشار إلى أهميتها بوصفها حلقةَ وصلٍ مع دارفور، حيث تصل إليها القوافل المحملة بالبضائع من الغرب. كذلك مرّ بها الرحالة بوركهارت في أوائل القرن التاسع عشر، وذكرها محطةً مهمةً على طريق التجارة بين دارفور ووادي النيل. وفي الفترة ذاتها تقريباً زارها الرحالة كايو، ولاحظ ازدهار تجارة العطرون في المنطقة، حيث كانت القوارب الشراعية تنقل هذه المادة من سوق الدبة شمالاً إلى مصر. وقد أجمع الرحالة على أهمية الدبة ملتقىً تجارياً، تقصده القوافل القادمة من مصر ودارفور وكردفان.

كانت الدبة متصلة بعدة طرق تجارية رئيسة، مثل طريق كردفان الذي يجلب إليها القوافل عبر وادي الملك، وطريق صحراء بيّوضة الذي يربطها بأجزاء أخرى من السودان، ويُسهل التجارة بين المناطق الشمالية والجنوبية من البلاد، وطريق دارفور الذي يوفّر رابطاً بين دارفور ووادي النيل.

وأهم السلع التي جُلبت إلى سوق الدبة عبر التاريخ من مختلف جهات السودان، إعداداً لتصديرها شمالاً هي العاج والذهب وخشب الأبنوس والرقيق والبخور والصمغ العربي والقطن والماشية والسمسم والفول السوداني وغيرها. وقد اختفى بعضها وانحسر بعضها، وزاد البعض الآخر ازدهاراً في توافق مع تغيرات العرض والطلب في السوق المحلي والعالمي.

سوق هجينة ومحاصيل لا تتوقف

عند النظر إلى طبيعة سوق الدبّة، نجد أنه يتوزّع على قطاعات مختلفة تعكس التنوع التجاري للأقاليم والقطاعات الزراعية المتعددة. في السابق، قبل الحرب، لم تكن الدبّة ذات أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للمحاصيل وسوقها. لكن التعدين أضاف إلى المدينة ثقلاً بسبب السوق التجاري الذي يعتمد عليه «الدهّابة»، ما أعطى هوامش السوق وزناً اقتصادياً كبيراً يعكس طبيعة الأنشطة غير الرسمية للقطاعات المنخرطة في التعدين الأهلي. ومن أكثر ما يميز الدبة؛ ليس احتواءها على المعادن أو الذهب، إنما موقعها مزوداً خدمياً للمتجهين إلى بيوضة أو مناطق المحس أو المثلث.

أسهم الذهب في تراكم ثروة سمحت بظهور البنى التحتية بعد الحرب، في صورة استثمارات محلية استوعبت التجارة القادمة من أم درمان والأبيض وسنجة والقضارف. وبحكم طبيعة المسارات، تحوّلت الدبة إلى ميناء جاف يخدم أقاليمَ ودياراً لم تتصل على مثل هذا النحو منذ حوالي مائتي عام.

يرتبط سوق الدبة أساساً بسلعة السكّر، التي كانت تُسمى سابقاً «الراس»، وكان يديرها أقباط وشوام. تعود تسمية «الراس» إلى طبيعة السكّر الذي كان يُنتج في شكل أحجار، ثم يُقطَّع للزبون حسب رغبته. ولأن نهر النيل يفصل بين الضفاف التجارية، اعتمد السكان في ثلاثينيات القرن الماضي على «المعَدّية»، وهي مركب ضخم أشبه بـ «البنطون». ولم يكن للحكومة الاستعمارية حينها أي وجود، ففُتح «كشك» كنقطة للشرطة لتأمين المعدّية وروادها.

يضم السوق عدة مناطق تبدو أشبه بالأقسام: قسم للخضروات والفواكه القادمة من الغابة ونوري ومروي وبعض مناطق نهر النيل، قسم للملبوسات، قسم للمواد التموينية، قسم للمحاصيل، وقسم للماشية. وهذا ما يمنح أهمية اقتصادية كبرى للمنطقة والمناطق المجاورة والبعيدة؛ إذ تأتيها الماشية من شمال كردفان ودارفور، وترد إليها بعض السلع والبضائع من ولايتي نهر النيل والخرطوم سابقاً، وحالياً عبر معبر أرقين من مصر، وبالمقابل تُصدَّر عبرها كثير من السلع مثل التمور إلى تلك الولايات.

بعد انهيار سوق المحاصيل في أم درمان جراء العمليات العسكرية وحصار مدينة الأبيض في بداية العام السابق، تحولت الدبة إلى مركز تجاري. وبجانب أنها محمية بصحرائها الممتدة التي تكشف أي قوة برية مهاجمة، مما يمكِّن الطيران العسكري من تدميرها سريعاً، فإن الطرق الممتدة تسمح بنقل أخبار الطريق الذي يحاول أي مهاجم التسلل منه.

مدينة ذات تمدّد أفقي

يُشير بعض التجّار العاملين في السوق، إلى أن الدبة لم تعد تحوي سوقاً واحداً، بل أسواقاً متعددة. وبعد أن كان السوق سابقاً محصوراً في السوق الشعبي والسوق القديم، أصبح الآن لكل سلعة أو بضاعة سوق محدد، خاصة تلك المرتبطة بالتصدير. على الطريق السريع المؤدّي إلى دنقلا، نشأت منطقة تجارية جديدة لا علاقة لها بالسوق القديم، تتضمن سوق الطواحين والسوق الشعبي وسوق أمطار.

تظهر ملامح هذا السوق المُختلَط في وجود مصطلحات وتقاليد سوق الفاشر داخل سوق الدبة، إضافة إلى مجموعات التجار القادمين من مدني والأبيض. هذا الخليط المتنوع أصبح جزءاً من إطار السوق وخبرته، إلى جانب قاموس التجارة الذي يميز التجار وأصحاب المحال. تُعقد التحالفات وتُفضّ وفقاً لمصالح السوق فقط، دون أي انحيازات قبلية أو مناطقية.

استفادت المدينة من طبيعتها المسطّحة، ما أتاح إمكانية التملك للتجار والتوسع شمالاً وغرباً وشرقاً. إضافة إلى ذلك، وفرت مساحة المدينة إمكانية انتقال الخبرات والتعاليم بسهولة.

الصناعات الجديدة

لم تكن الدبة ذات حظّ سابق في الصناعة، لكنها برزت مع تضييق الخناق على مناطق التصنيع. فبعد سقوط مدني، تأثرت خيارات التصنيع التي كانت الدبة تحاول التوجّه إليها. ومع توفر المواد الزراعية والمحاصيل والطلب الكبير في السوق على سلعة الزيت، بدأت المعاصر في إنتاج الزيوت عبر استثمارات محلية، خاصة مع قدوم بعض التجار من القضارف والنيل الأبيض. ومع وفرة محصول السمسم في السوق، ظهرت معاصر الزيوت التي سعت لتغطية الاحتياجات التي لا تغطيها أسواق متنقلة، خاصة مع قطع طريق كوستي وربك وانتقال العمليات العسكرية إلى جبل مويا. انتعشت هذه الصناعة بفضل التوفر الكبير لمحصول السمسم، خصوصاً وأن حصاد السمسم في النيل الأبيض وغيرها من المناطق شهد إنتاجاً عالياً. ومن المتوقع أن تتوسع الصناعات الزيتية في مطلع العام الحالي نتيجة للعرض الذي يتلقاه السوق. كذلك دخلت صناعات أخرى مثل المسابك والقشارات، التي ظهرت مؤخراً بسبب توفر عدد من المحاصيل التي يمكن الاستفادة من فائض إنتاجها.

كيف تبدو الدبة مستقبلاً!

مثلما أتاح لها موقعها الجغرافي أن تكون على الدوام في قلب حركة التجارة والاقتصاد في واقع السودان، فقد أتاح لها مكانة مهمة أيضاً في عالم متخيل، هو عالم لعبة الڤيديو «Armored Warfare»:

«عادت الحرب من جديد إلى السودان حيث تحاول قوى مرتزقة متعددة السيطرة على واحدة من آخر محطات الطاقة الشمسية الكبيرة المتبقية في العالم – محطة الدبّة. يَستخدم هذا المرفق المتطور تقنيات لم تعد متاحة، وينتج طاقة كافية للمنطقة بأكملها. وإضافة إلى موقعه على نهر النيل، فهو ليس أساسياً فحسب، بل لا يمكن الاستغناء عنه أيضاً. تُدرك العديد من الشركات ذلك، ومن المتوقع أن تكون المعارك على هذه المحطة شرسة بشكل استثنائي. خريطة الدبة الصحراوية واسعة جداً ومقسمة إلى ثلاثة أجزاء بواسطة نهر النيل في الجنوب الشرقي وقناة اصطناعية في الشمال الغربي، ويمكن عبور كل منهما بسهولة نسبياً. توجد ضفتان والمحطة نفسها، وتقع في المنتصف. كلتا الضفتين مفتوحتان إلى حد ما مع الغطاء الوحيد الذي توفره الكثبان الرملية المتدحرجة للصحراء الكبرى جنباً إلى جنب مع بعض القرى الصغيرة».

كتب مصممو اللعبة هذا النص عندما أضافوا إليها خريطة الدبة لأول مرة في العام 2020، لكنه حال اللعبة كلها يصف أحداثاً تجري في العام 2028، فأي مستقبل ينتظر الدبة في عالم تمزق حاضره الحرب؟

Scroll to Top