الصورة من تصوير: عبدالله مهدي بدوي
منذ إعلان قوات الدعم السريع، في 25 يونيو الماضي، سيطرتها على منطقة جبل مويا، الواقعة على الطريق القومي الرابط بين ولاية النيل الأبيض جنوبيّ البلاد وولاية سنار في الجنوب الشرقي منها، تضاعف الحصار على مدينتَي كوستي وربَك وسائر مدن النيل الأبيض، فالعمليات العسكرية شمالاً على الطريق الأسفلتي الوحيد الذي يربطها بالخرطوم ما زالت مستمرة، وغرباً تسيطر الدعم السريع على أجزاء واسعة من ولاية شمال كردفان.
ورغم إعلان الجيش تحقيق انتصارات في جبل مويا مطلع أكتوبر، مُنهِياً العزلة بين النيل الأبيض وسنار، إلا أنّ إغلاق كوبري دوبا؛ المخرج الوحيد على الجانب الشمالي الشرقي لولاية سنار، أبقى حالة الحصار على الولايتين، كما أخبر مصدر تحدث لـ «أتَـر».
من ناحية أخرى، دفع الحصار إلى اكتشاف طريق وعر على غرب النيل، خارج شبكة الطرق القومية، رابطاً بين ولاية «النيل الأبيض»، في جنوب البلاد، وولايتي «نهر النيل والشمالية»، في شمال البلاد وأقصى شمالها، في محاولة لفكّ الحصار على البضائع والمواطنين معاً. لكن حتى هذا الطريق تتضارب الأنباء حول إغلاقه من قِبل قوات الدعم السريع التي تسيطر على مناطق واسعة على الشريط الغربي للنيل.
يتكدَّس الناس والشاحنات والبضائع لأيام في انتظار اللحظة المناسبة لبدء رحلة شاقة في الطريق الترابي غير المطروق، والموازي للطريق القومي على الضفة الغربية من النيل الأبيض، وقد ظل مهملاً ومنسياً خلال العقود الماضية، شأن العديد من الطرق الترابية التي أظهرتها الحرب أو ابتدعتها.
تُعدّ اللحظة المناسبة لبدء الرحلة الشاقة على الطريق والمضيّ فيه خليطاً بين توقف الأمطار، وكثرة المسافرين، وزيادة عدد السيارات، وقبل ذلك كله رضا القادة الميدانيين من قوات الدعم السريع الذين يسيطرون على مساحات واسعة يمرّ بها الطريق.
وعلى هذه الرقعة الجديدة، نشأت سوق جديدة بقوة السلاح، رأسمالها الحماية؛ حماية الناس وهم يستخدمون الطريق؛ إذ يحصل هؤلاء القادة العسكريون والجنود على مبالغ مالية كبيرة من السيارات (يصل تراكمها إلى تريلونات الجنيهات) نظير سماحهم للشاحنات والبضائع والمسافرين باستخدام الطريق، ولا أحد من السائقين مستخدمي الطريق في مقدوره السؤال عن مستند مالي يثبت دفعياته، أما المسافرون فمقتنياتهم تظل عرضة للسلب.
نوتة
منذ بدء الحرب في السودان (أبريل 2023) فقد السودانيون إمكانية استخدامهم الآمن لكثير من الطرق القومية البالغ طولها نحو (12 ألف) كيلومتر. وبات من الصعب انسياب الحركة الطبيعية في طرق وسط البلاد، مثل التي تربط بين الخرطوم-ود مدني، وود مدني-سنار، وود مدني-كسلا، وكذلك طريق الخرطوم-النيل الأبيض الذي استعاض عنه الناس بالطريق الذي يبدأ من مدينة الدويم على الضفة الغريبة، ويتجه غرباً حتى منطقة أم سيّالة الواقعة في ولاية شمال كردفان، ومن أم سيالة يتجه شمالاً ليبلغ مدينة الدبّة في الولاية الشمالية، قاطعاً بذلك نحو 474 كيلومتراً.
إلى جانب هذه الطرق المعطّلة، هنالك طرق ما زالت تعمل، مثل طريق شريان الشمال الرابط بين أم درمان ودنقلا، وطريق أم الطيور الرابط بين الدامَر ومروي، وطريق التحدي الرابط بين الخرطوم وعطبرة وبورتسودان.
طريق قديم
يحتاج عابر طريق (الدبّة- النيل الأبيض) ما بين أربعة إلى خمسة أيام، وربما أقلّ إذا كانت الظروف مواتية. وبالنسبة للسائق «الهواري»، فإن هذا الطريق ليس جديداً، لكن الحرب والاضطرابات الشديدة أضافتا له سائقين وعابرين جدداً في سيارات جديدة. يقول الهواري متحدثاً لـ «أتَـر»: «في السنوات السابقة كنا نحو (12) سائقاً فقط بعدد (12) سيارة على هذا الطريق، أما الآن فهناك مزيد من الزملاء دفعتهم الحرب لاستخدام هذا الطريق».
وإذا كان الهواري وزملاؤه القدامى يملكون الخبرة الكافية في معرفة منعرجات الطريق، فإنّ السائقين الجدد بحاجة إلى أجهزة (GPS) وأجهزة التلفون الموصولة بالإنترنت لتحديد المسارات، وكذلك، التحدث إلى سائقين آخرين لمعرفة خلو الطريق من قطاع الطرق المسلحين.
من مدينة الدويم الواقعة على الضفة الغربية للنيل، تمضي المركبات غرباً في سهل طينيّ رمليّ حتى منطقة أم سيّالة في ولاية شمال كردفان، مروراً بمناطق الحُمُر والهَلبة. ويسعى السائقون – ما أمكن – إلى تجنّب مناطق الأعمال العسكرية النشطة أو المحتملة في المساحة الواقعة شمال النيل الأبيض وجنوب الخرطوم وأم درمان. ومن منطقة أم سيّالة تتجه المركبات شمالاً قاطعة مئات الكيلومترات، في مناطق رملية موحلة وغير مأهولة بالسكان إلا من قرى متفرّقة وبعض المحطات التي تقدّم الوجبات والشاي والقهوة والاستجمام القليل. ويمضي المسافرون على هذا الحال حتى يصلوا إلى منطقة «بوحات» في طريق شريان الشمال، ومنها إلى «الملتقى” في الولاية الشمالية، حيث نقطة التقاء طريق الأسفلت الذي يربطها بأم درمان.
يقول سائق شاحنة بضائع من مدينة الدبّة – فضّل حجب اسمه – إن الطريق «صعب وموحش ولو خلا من العمليات العسكرية»، ويضيف: «إلى جانب وعورة الطبيعة فإن كلفة استخدام الطريق تبلغ 5 ملايين جنيه، تُدفع متفرقة للعناصر العسكرية التي تسيطر على مبتدأ الطريق ومنتهاه، فضلاً عن النهب الذي تعرّضت له بعض الشاحنات أثناء دخولها إلى مدينة أم درمان».
مع ذلك، يكافح الجميع من أجل فكّ عزلة ولاية النيل الأبيض، ومن أجل ربط شمال البلاد بجنوبها رغم تداعيات الحرب الشائكة. وربما كان لهذا العمل قيمته الاقتصادية، والسياسية أيضاً.
متاهة بين طريقين
متحدّثاً لـ «أتر»، يروي أحمد آدم، وقد سافر عبر هذا الطريق معدّداً المناطق التي يمر بها: «يبدأ من أم سيّالة ثم أم أندرابة، ويصل إلى منطقة أم سيط ومنها إلى طريق شريان الشمال الرابط بين أم درمان والولاية الشمالية».
لكن لا يعلم آدم حتى الآن إذا ما كان هذا الطريق من النيل الأبيض ما زال متاحاً أم مغلقاً أمام المسافرين والبضائع. يقول: «الظروف متغيرة فيه، مثلاً تحرك أفراد من الجزيرة أبا ولم يصلوا، وشخص آخر وصل إلى مدينة الدويم، لكنه رجع بسبب إغلاق الطريق، فحاول سلوك طريق سنار، لكنه وجد كوبري دوبا مغلقاً بسبب الصيانة بحسب ما أفاده أحد أفراد الجيش».
يؤثر انقطاع شبكة الإنترنت في معرفة الطرق التي ما زالت متاحة للسفر، فلا أحد يعرف أياً من طرفي الصراع قد قرر إغلاق الطريق، لكن رغم تلك العوائق يؤكّد آدم تسلّل كثير من الناس عبر طريق النيل الأبيض – الدبة، بسبب احتياجهم إلى التنقل، خصوصاً الأفراد، فمن الدويم يتخذون طرقاً عبر مناطق «أم سيالة»، «أم أندرابة»، «الشقيق»، ومنها وصولاً إلى القرى المحاذية للدبة بالولاية الشمالية.
الطوف ببادية الكبابيش
إيذاناً بالتحرك جرى إطلاق رصاص في الهواء هذه المرة
وفقاً لأحمد آدم، فإن هنالك تفاهمات بين قوات الدعم السريع وقبيلة الكبابيش في مناطقها، أدت إلى تكوين طوف تقوم بتأمينه القبيلة، للبضائع والمسافرين، من منطقة «أم أندرابة» وصولاً لطريق شريان الشمال، ويستغرق يومين، ويحدث أحياناً أن يتوقف إذا قررت قوات الدعم السريع إغلاق الطريق.
يقول أحمد آدم: «يتحرك الطوف من منطقة «أم أندرابة»، التي تقع ضمن دار الكبابيش على طريق بارا- أم درمان، وبها سوق يقام كل يوم اثنين من الأسبوع، وتتجمع به جميع الشاحنات والمركبات التي تأتي من النيل الأبيض وشمال كردفان».
صادف آدم خمس مركبات سفرية قادمة من مدينة كوستي، متوقفة لمدة خمسة أيام في انتظار الطوف، ويقدر أن عدد المركبات والشاحنات قد تزايد عندما تحركوا، ليصل إلى قرابة مائة مركبة متنوعة من بضائع وماشية ومسافرين. «هناك شاحنات تعبر الطريق فارغة لتشحن بضائع الدقيق والسكر، ومختلف البضائع من مدينة الدبة إلى ولايات النيل الأبيض وشمال كردفان»، يضيف.
ما زال هطول الأمطار مستمراً في بعض مناطق السودان، ومع تقطع الطرق الرئيسة نتيجة للعمليات العسكرية، لجأ الناس إلى الطرق البديلة التي قد تطول مع الهطول. يقول أحمد آدم: «استغرقت الرحلة يومين، لوعورة الطريق بسبب هطول الأمطار، واتجهنا شمالاً قاطعين طريق بارا- أم درمان، حيث صادفتنا مركبات تتبع للدعم السريع، لكن لم يتعرّض أفرادها لنا، فالعربات محمية بواسطة سيارتين تتبعان للإدارة الأهلية لقبيلة الكبابيش، وبها أفراد يشبهون أفراد الدعم السريع هنداماً وتسليحاً، مهمتهم حماية وتسيير المركبات التي تمر عبر مناطقهم وتسجيل بيانات المركبات قبل يوم من بدء الرحلة، نظير مبالغ محددة، تبلغ للمركبات الكبيرة مليون جنيه سوداني، وللمركبات المتوسطة خمسمائة أو سبعمائة ألف جنيه سوداني، وتتحرك بحسب موجهات أفراد الحراسة الذين يستقلون المركبتين».
«هطلت الأمطار ولم تكن لدينا أغطية تقينا برد الليل، نرى من على البعد أضواء القرى الصغيرة الخافتة وأحياناً نتوقف عندها دون أن نعرف أسماءها، وأحياناً نتوقف بأماكن ليس بها سكان»، يواصل آدم: «بعد مسير ساعات، أوقفتنا مركبتا الحراسة في منطقة لا نعلم موقعها للمبيت، بعد أن أطلق أفرادها إشارات ضوئية، وبالفعل مكثنا ليلتنا هناك وكنا قرابة السبعمائة فرد منهم أسر وأطفال ونساء».
يبلغ سعر تذكرة السفر من مدينة كوستي إلى الدبة 250 ألف جنيه سوداني، كما أن هنالك مسافرين يلتقطهم السائقون من الطريق بمبالغ غير محددة.
«إيذاناً بالتحرك جرى إطلاق رصاص في الهواء هذه المرة. تحركنا عبر وديان كثيرة وكانت الوعورة هي سمة الطريق، حتى وصلنا منطقة «وادي المقدّم»، وهي قرية صغيرة على تخوم أم درمان والولاية الشمالية ضمن نطاق ديار قبيلة الهواوير، نما نشاطها التجاري مؤخراً متمثلاً في مطاعم ومحلات للمواد الغذائية، حينما أصبحت تمر بها المركبات في طريقها لمدينة الدبة، وقد مكثنا ليلتنا في «وادي المقدّم» التي تقع تحت سيطرة الدعم السريع، وبحسب سكانها فإنها غير بعيدة من مدينة أم درمان، إذ يجلبون منها البضائع».
يلاحظ أحمد آدم أن منطقتي «أم أندرابة» و«وادي المقدّم» رغم وقوعهما تحت سيطرة الدعم السريع عسكرياً، إلا أن الحياة فيهما آمنة، وتتوافر بهما خدمة ستارلينك، ويتحرك الناس فيهما بسهولة ويسر حاملين هواتفهم وأموالهم، ويتبضعون من المحلات المفتوحة، ولا يتعرض لهم أحد، وكذلك يتحرك فيها أفراد من قبيلة الكبابيش المسلحين.
ورغم التحذيرات من التعرض للنهب في الطريق بين منطقتي «الشقيق» و«أم أندرابة»، إلا أنهم سلموا من ذلك. وتستغرق الرحلة من «وادي المقدم» صوب طريق شريان الشمال، قرابة ساعتين وتنتهي عندها مهمة طوف الكبابيش.
لم يكمل أحمد آدم الرحلة مع المركبة المتجهة إلى مدينة الدبة، بل اتجه صوب «ود حامد» ومنها عبَر «أم سيط» و«حلة موسى» وبها نقطة ارتكاز تتبع لقوات الجيش مُنهياً رحلته في أم درمان.