
شندي: مهجرو شرق الجزيرة يصلون بعد رحلة شاقة
منذ أن بدَّلَ أبو عاقلة كيكل موقعه في الحرب، بغتةً، من قائد في صفوف الدعم السريع، تُنسب إليه عملية اجتياح أجزاء من ولاية الجزيرة، حتى تسليم نفسه للجيش في الـ 20 من أكتوبر، وترفيع رتبته العسكرية وتسميته بطلاً، لم تعد شرق الجزيرة بمدنها وقراها وحلالاتها مثل ما كانت عليه قبل هذا التسليم.
فوراً، اجتاحت الدعم السريع المنطقة، في معارك وُصفت بالانتقامية، ارتُكبت خلالها مجازر بشعة بحق المواطنين والأهالي بعد أن كبّدت الجيش خسائر فادحة، وقُتل قائد المنطقة في معركة تمبول الأخيرة، وأُجبر الأهالي على إخلاء مناطقهم وقراهم فخرجوا يهيمون بالآلاف، أطفالاً ونساءً وعجزة، إما سيراً على الأقدام في رحلة متاهة شاقة فقد فيها العديدون ذويهم، أو بمركبات النقل الكبيرة، عبر طرق محفوفة بالخطر والخوف وانقطاع الاتصال في جوف البطانة، إلى مدن الفاو والقضارف وحلفا أو شندي.
طوال خمسة أيام، كان فيها حافظ متوتراً وقلقاً على مصير أسرته في إحدى قرى شرق الجزيرة، يُحاول التوصل لمعلومة بسلامة القرية، في ظل انقطاع شبكات الاتصال عن المنطقة، بما في ذلك خدمة «ستارلينك». وبعد محاولات عديدة فاشلة وجد فرصة نادرة للتحدث مع أخيه وقرَّرا إخراج الأسرة إلى شندي التي جاء إليها نازحاً هو الآخر من مدينة الدندر قبل أشهر قليلة: «الأنباء متضاربة، ولا أعرف كيف ومتى ستصل الأسرة. ربما تحركوا أو لا»، يقول مضطرباً لـ «أتَـر».
وفي الأثناء، تصل تدفقات نازحي شرق الجزيرة لسوق شندي ومنطقة العبور، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء مع بوادر دخول فصل الشتاء القاسي، دون الإعلان عن مراكز دعم وايواء جديدة.
وصلت أسرة حافظ ضمن الواصلين، بعد رحلة مضنية ليومين كابدت فيها جميع صنوف العذاب. يقول والد حافظ لـ«أتر»: «لم نتخيل أن نترك بيوتنا. خرجنا كأننا في يوم القيامة، كل منا، والحلة جميعها أهل وأقارب، يدبر حال سبيله وناس بيته وحده ولا يلتفت خلفه». ثم يضيف حسيراً: «تركتُ زرعي على مشارف الحصاد، وأطلقت سراح بهائمي حتى لا تموت جوعاً. أحمد الله أنني نجوت بأسرتي».
ووجدت انتهاكات الدعم السريع بحق مواطني شرق الجزيرة إدانات واسعة، ما زالت تُصدرها القوى السياسية الوطنية ومنظمات حقوقية وأخرى تنشط في المجتمع المدني، إزاء ما وصفته بالمجــازر البشـعة التي ارتكبت في مواجهة المواطنين الأبرياء العزل. وقالت لجان مقاومة مدني بولاية الجزيرة في بيان طالعته «أتر» إن قوات الدعـم السـريع ارتكبت مجـزرة شنـيعة وموجات انتهـاكات واقتحامات فاجـعة بحق الأهالي غربي الجزيرة وشرقيها.
وفي حديثها لـ«أتر» تقول رانية محمد صالح من منطقة الصُفُر غربي شندي، إن أسرتها استقبلت نحو 20 أسرة قادمة من منطقة تمبول: «تحولت القرية لدار ايواء كبير، عشرات النساء والأطفال باتوا في ضيافتنا والجميع يتكاتف من أجل تخفيف معاناتهم دون تلقي العون من أية جهة».
حلفا الجديدة، الفاو، كسلا: وصول نازحي تمبول والأعداد تتزايد
نتيجة للاشتباكات التي تجري بشرقي الجزيرة، تشهد منطقة حلفا الجديدة تدفقاً كبيراً للنازحين الهاربين من مناطق تمبول والقرى حولها بسبب تدهور الأوضاع الأمنية هناك. ووفقاً لسلطات محلية حلفا الجديدة، جرى فتح العديد من دور الإيواء لاستيعاب الوافدين، باستخدام مرافق مثل المدرسة المصرية، والعمدة أحميدي، والزراعية، والتعاونيات، وحوش الثروة الحيوانية، واستراحة الرأي.
وقد أفاد المدير التنفيذي لمحلية حلفا الجديدة يوم الأحد، أن عدد النازحين قد بلغ 4,800 شخص، مع استمرار توافد مزيد من العائلات. ووسط هذه الظروف، تأكّد وجود أربع حالات إصابة بالكوليرا بين النازحين القادمين من منطقتي الصباغ وتمبول، ونقلوا إلى مستشفى العزل في حلفا الجديدة لتلقي العلاج.
من جانب آخر، يبذل أهالي محلية نهر عطبرة جهوداً كبيرة لاستقبال النازحين وتقديم الدعم لهم؛ إلا أن العديد من الأسر، خصوصاً في المدرسة المصرية بمحلية حلفا الجديدة، تعاني ظروفاً إنسانية صعبة، إذ تتكدس أكثر من 200 أسرة، بما يعادل 1,100 فرد بينهم 300 طفل، دون مأوى كافٍ أو حماية من الظروف الجوية القاسية.
في سياق متصل، وصل عدد كبير من الجرحى المدنيين إلى مدينة كسلا لتلقي العلاج بعد تعرضهم لإصابات خطيرة خلال رحلتهم من شرق الجزيرة إلى كسلا. ويُعزى ذلك إلى الأوضاع الأمنية المتدهورة وصعوبة التنقل في ظل الظروف الحالية. وفي هذا السياق، أُطلقت حملة للتبرع بالدم مساء السبت، وتبرع العديد من المواطنين في كسلا لدعم الجرحى وتوفير احتياجاتهم الطبية.
الأزمة الإنسانية في شرق السودان، تتفاقم بسبب الضغط المتزايد على المرافق الصحية، إذ يؤدي تدفق النازحين والجرحى إلى إرهاق البنية التحتية الصحية. وتشهد المنطقة أيضاً تفشي وباء الكوليرا وانتشار الحمى النصفية، مما يزيد من تعقيد الوضع الصحي والإنساني.
وبحسب تقارير المتطوعين من منطقة الفاو، يوجد أكثر من 200 ألف نازح قدموا من شرق الجزيرة يعيشون أوضاعاً حرجة نتيجة نقص الإيواء والغذاء ومياه الشرب. الأوضاع الصحية في المنطقة تتدهور مع ظهور الأمراض بين النازحين، ما يستدعي ضرورة تقديم مساعدات طبية عاجلة.
وفي مناطق حلفا الجديدة المختلفة، يتوزع النازحون بأعداد كبيرة: في منطقة 6 عرب، وبلغ عددهم حوالي 7,080 شخصاً، وحوالي 4,000 نازح في منطقة 5 عرب، وفي منطقة 7 عرب يوجد حوالي 4,500، وسجلت منطقة 8 عرب الجملون 1,705 نازحين.
الأعداد الكلية في مدينة حلفا الجديدة تفوق ما يُرصد في القرى المجاورة، ما يضع ضغطاً متزايداً على الموارد والخدمات المتاحة.
القضارف: فردوس الماء المفقود
ظل أهل القضارف وعبر سنوات طويلة، يعانون من شح المياه ويتطلعون لذلك اليوم المشهود الذي تُحل فيه المشكلة حلاً جذرياً. ومع تعاقب الحكومات ظل إنسان القضارف يُمنّي نفسه بوجود معالجات وحلول جذرية، تُنهي معاناته، من أجل إيجاد مورد مياه مستقر يؤمن له حاجته من الماء.
لو أتيت إلى القضارف زائراً أو مقيماً فيها، فلا بد لك من رحلة بحث صباحية عن «كارو» عربة يجرها حمار، والظافر من يفوز بعد شد وجذب، من أجل الحصول على ماء يسد رمق اليوم.
متحدثةً إلى «أتر» تقول إيلاف محمد نور، وهي إحدى مواطنات القضارف، إنه منذ زمن طويل جداً ومواطن القضارف يعاني من انعدام المياه أو شحها، وكل حكومة تأتي تَعد بحل الأزمة، لكن للأسف كل فترة يزداد الأمر سوءاً.
وتنظم هيئة مياه القضارف جدول توزيع المياه، ونصيب كل حي بمعدل يتراوح من ٥- ١٠ ساعات تقريباً في الشهر.
لذا اتجه أهل المدينة إلى الحلول الفردية، بشراء المياه من العربات المتجولة «الكارو»، مع العلم أن هذه المياه مع مرور الزمن وكثرة الاستخدام لا تصلح للشرب؛ لأنها مياه آبار مالحة، وقد تسببت في انتشار أمراض الفشل الكلوي. «لو زرت مستشفى أمراض وجراحة الكلى سوف تصاب بالحيرة والدهشة من كمية المرضى»، تقول إيلاف.
ومع ذلك وصل سعر جوز الماء إلى ما بين٣٠٠٠ و٥٠٠٠ جنيه، وكان يباع بـ ١٠٠٠ جنيه.
واتجه المقتدرون من سكان الولاية إلى حفر الآبار الارتوازية للتخفيف عن أنفسهم، لكن هذا الحل يتجاهل خطورة انتشار مثل هذه الآبار على الغطاء الأرضي، وقد يؤدي إلى اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، خاصة مع عدم إدراك كثير من المواطنين الطريقة الصحيحة لحفر الآبار والعمق المناسب لها. وترتفع تكلفة حفر هذه الآبار كلما زاد العمق لذلك يتوقف الحفر بمجرد ظهور المياه في بعض الأحيان، وعادة تحفر بعمق ١٥ إلى ١٨ متراً.
للأسف معظم مياه الآبار في ولاية القضارف غير صالحة للشرب، ورغم ذلك فإن معظم سكان القضارف أصبحوا يستخدمون هذه المياه لسهولة الحصول عليها وشح المياه العذبة .
تخرج نجاة، وهي مواطنة من القضارف، كل صباح في رحلة البحث عن صاحب «كارو» يوفر لها حاجة بيتها من الماء، حتى وإن كان غير صالح للشرب، ومع تزايد أعداد النازحين جراء توسع رقعة الحرب شحت المياه. «ما نخاف منه أن نستيقظ يوماً ولا نجد ما نسد به رمقنا حد الموت»، تضيف نجاة متحدثة إلى «أتر».
ووصل سعر برميل الماء إلى ما يعادل إلى ١٠٠٠٠ ألف جنيه مع شح آبار المياه وصعوبة الحصول على الماء نفسه من أصحاب عربات «الكارو»، الذين يقضون نصف يومهم في صفوف تعبئة الماء، أو يخرجون مع خيوط الفجر الأولى إلى مصادر المياه خارج المدينة، ومن ثمّ يدخلونها مع ساعات الصباح الأولى وكلما زادت معاناتهم زاد سعر الماء.
متحدثاً لـ «أتر»، يقول المدير العام لهيئة مياه القضارف مصطفى إبراهيم مصطفى، إن كمية المياه المنتجة للولاية محددة، وتوفر الهيئة 29.9% من الاحتياج الكلي لمواطنين مدينة القضارف، لكن بطبيعة الحال لا يفي بحاجتهم من المياه. وعدد إبراهيم العوائق التي تواجهه هيئة المياه قائلاً إنها تتلخص في أن شبكة المياه قديمة إضافة إلى التسريبات والكسور، فضلاً عن مشكلات فنية متعلقة بالتصميم، فـ«تصميم الشبكة شجري ولا يكفي لتوزيع المياه».
وقال إن معظم البلاغات تتمحور حول انعدام الماء، لذا وضعت الجهات المختصة المتمثلة في الحكومة خطة لحل أزمة المياه تتكون من حزمتين: الأولى بأن تصل الطاقة التصميمية لمحطة المياه الرئيسية إلى ٧٥٠٠ متر مكعب من المياه النقية في اليوم، ومعالجة الخط الناقل للمياه ١٠٠ ملم بطول ٦٥ كيلومتراً. أما الحزمة الثانية فبمعالجة الشبكة الداخلية لمدينة القضارف، وإجمالي طولها يبلغ حوالي ١٧٠٠٠ كيلومتر.
وتعتمد الولاية بأكملها على موردين للمياه: سطحي يتمثل في المياه القادمة من نهري عطبرة وسيتيت وروافدهما، وجوفي من الآبار الجوفية، لكنها شحيحة بسبب الطبيعة الجيولوجية للمنطقة، إضافة إلى مشكلات متعلقة بنوعية المياه وزيادة تركيز العناصر فيها.
أبو كرشولا: حصاد الأرواح بدلاً عن الذرة
رغم أن مدينة أبوكرشولا الواقعة جنوب كردفان، ما زالت تحت سيطرة القوات المسلحة، لكنّ حصار قوات الدعم السريع، شلّ الحركة منها وإليها. وقد استقبلت المدينة منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، عدداً كبيراً من النازحين من أنحاء مختلفة من ولايات كردفان والخرطوم.
انقطعت شبكة الاتصالات العامة منذ ستة أشهر. أما شبكة المياه التي تعمل بالطاقة الشمسية، فقد توقفت بحجة انقطاع رواتب العمال. ويضطر المواطنون إلى جلب المياه من الآبار والدوانكي، وتُباع الباغة بسعر ثلاثة آلاف جنيه. وبسبب الحصار المضروب على المدينة، ارتفعت السلع بما فيها الأدوية بسبب صعوبة الترحيل وفواتير العبور.
تفشت الملاريا بالمدينة، وتباع حبوبها بأربعة آلاف جنيه، أما الحقن فبلغ سعرها 18 ألف جنيه.
متحدثاً لـ «أتر»، يقول مدثر حسن، وهو تاجر عمومي بأبو كرشولا، إنه صرف مليار جنيه ليجلب بضاعته عبر مدينة العباسية مروراً بأبوجبيهة من ولاية النيل الأبيض، وأضاف أنه دفع مبالغ مختلفة مرة لقوات الدعم السريع وأخرى للقوات المسلحة، وكذلك للجيش الشعبي لتحرير السودان جناح الحلو. وما زاد الطين بلة شح النقد؛ فبعد أن مضى الخريف وتوقفت الخيران عن الجريان، توفرت البضائع لكن انعدم الكاش، ليدخل السكان في حلقة مفرغة، تبدأ بالندرة وتنتهي بالركود.
تسببت الأوضاع الأمنية وانغلاق طرق الولاية في ضعف الموسم الزراعي هذا العام. كانت أبو كرشولا قبل الحرب تمد بورصة محاصيل الأبيض، إذ تنتج المرأة الواحدة عشرين جوالاً من الفول السوداني وخمسة قناطير من السمسم، إضافة إلى الثمار والمنتجات الغابية مثل التبلدي والصمغ والفحم. وتسبب الحصار في أن تصبح ثمار المنقا التي كانت تنقل إلى الخرطوم وغيرها من ولايات السودان، وجبة للأغنام.
متحدثاً لـ «أتر»، يقول تاجر محاصيل، طلب عدم ذكر اسمه، إنه لم يزرع هذا العام وقد تخلّف كثير من التجار عن شراء المحاصيل الزراعية، كما أنه لم يسلم من ضرائب الحكومة المحلية بفرض ضرائب على محله. «تركت الزراعة حرفتي منذ أربعين سنة، والآن أجلس في ظل شجرة أصارع الحياة وهذيان الحمى، ولو فطنت الحكومة المشغولة بالحرب، إلى مسألة الوقود والتقاوي، لكان عاماً ناجحاً عموماً»، يضيف متحدثاً لـ «أتر».
وبسبب الجوع باع كثير من المواطنين بهائمهم بأسعار بخسة من أجل الزراعة وشراء بعض الحاجيات الملحة. ويُقدّر سعر ذكر الأبقار (بعمر سنة) في الخريف بـ 50 إلى 65 جنيهاً، ليترفع نهاية العام إلى ما بين 500 و700 ألف جنيه، والأكبر حجماً يصل إلى مليار ومائتي ألف جنيه، وعلى هذا الحال يتوقع أن يكون الحصول على اللحوم الحمراء حلماً صعب المنال.
بطبيعة التركيبة السكانية في المنطقة، هنالك تخوفات على الدوام من نشوب الصراع بين مجموعتي البقارة والنوبة. وشهدت المدينة مقتل سبعة أشخاص من أسرة واحدة، بعد الاستيلاء على أبقارها. ومع تبادل الإغارات وانتشار العصابات، يُقتل المزارعون في المشاريع أو يُأخذ حصادهم عنوة تحت تهديد السلاح، وأحياناً تجور المواشي على المساحات الزراعية، وبدلاً عن حصاد الذرة تُحصد الأرواح.