تزامَن إقلاع طائرة رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من مطار بورتسودان مساء 3 سبتمبر الماضي، إلى العاصمة الصينية بكين، مع تمدُّد الدعم السريع في ولاية سنار، ومع اشتباكات في مدينة الفاشر، ما دفع المراقبين إلى التكهّن بأن الدافع الرئيس وراء الزيارة هو التسليح، لا سيّما وأن النميمة السياسية تتحدّث عن فرْض بعض الدوائر الإقليمية حصاراً على واردات السلاح إلى الجيش السوداني.
وسط ضرورات التطورات الميدانية، غفل الناس عن حدثٍ بحجم قمّة المنتدى التاسع للتعاون الصيني الأفريقي «فوكاك»، الذي دُعِي الفريق البرهان على إثره لزيارة الصين بصفته رئيساً لمجلس السيادة الانتقالي، وقد شمل وفدُه كلاً من وزير الخارجية المكلف السفير حسين عوض، ووزير المالية الدكتور جبريل إبراهيم، ووزير الطاقة والنفط المكلف محيي الدين نعيم محمد سعيد، إضافة إلى مدير عام منظومة الصناعات الدفاعية ميرغني إدريس.
نوتة
عُقدت القمة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي «فوكاك» في بكين في الفترة من الرابع إلى السادس من سبتمبر الماضي. وظلّت تنقعد بانتظام كل ثلاثة أعوام تبادلياً بين أفريقيا والصين، حيث استضافت السنغال القمة الأخيرة في داكار في العام 2021، التي بدأ فيها جنوح الصين إلى تنويع سياستها الاستثمارية في أفريقيا للتماشي مع التوجهات الدولية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ومجابهة التغيرات المناخية استجابةً لمخرجات مؤتمرات الأطراف المعنية بتغيّر المناخ بالوصول إلى الحياد الكربوني «صفر كربون».
وتأتي القمة الحالية بعد بدء تعافي الاقتصاد الصيني من جائحة كورونا، وانفتاحه مجدداً لتعزيز استثماراته في أفريقيا. وأعلنت بكين عن حزمة من الاستثمارات والمشاريع، من المزمع أن يجري تنفيذها خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، تُقدّر بـ 50.7 مليار دولار، وتهدف إلى توفير ما يربو على مليون وظيفة لسكان أفريقيا.
تعتزم الصين خلال 36 شهراً قادمة، أن تنفذ عشر مبادرات للشراكة مع أفريقيا. تأتي التنمية الخضراء في مقدّمتها، وتصطحب في معيّتها تغطية عدة مجالات في التعلم المتبادل بين الحضارات وازدهار التجارة والتعاون في سلسلة الصناعة والاتصال والتعاون الإنمائي والرعاية الصحية وإحياء المناطق الريفية ورفاهية الناس.
ويبدو في ذلك أن الصين قد أبدت تخلّياً عن تمويل المشاريع الضخمة للبنى التحتية، بخلاف ما قدّمته لأفريقيا خلال العقدين الماضيين، لتستبدلها بمشاريع استثمارية للتكنولوجيا المتقدمة الخضراء أو ما أطلق عليها «المشاريع الجميلة»، إذ تركّز حديث الزعيم الصيني «شي جين بينغ» عن مقدّرات بلاده في استثمارات الطاقة المتجدّدة، وعن أن أفريقيا ستُمثل سوقاً لاستثماراتها وتبادلاتها التجارية. ويرى المراقبون أن ذلك قد يرجع إلى أن القارّة السمراء باتت تُشكّل وجهة مثالية لمبيعات التكنولوجيا الخضراء الصينية «منخفضة التكلفة»، في وقت تمتلك فيه الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أو ما تعرف باسم «دول الشمال»، طاقة فائضة من هذه التقنيات الخضراء. وفي ظلّ حاجة أفريقيا الماسّة إلى سدّ فجوة عجز الحصول على الطاقة، تمثل تقنيات الطاقة الشمسية طوق نجاة للأفارقة، إذ يفتقر ما يزيد عن 600 مليون إنسان في أفريقيا إلى إمدادات الكهرباء، وهو ما يمثل حوالي 43% من سكّان القارة، يقع غالبيتهم في دول جنوب الصحراء.
ومع تصاعد طموح الصين لاستغلال موارد القارّة، تمضي مشاريع تعدينها على قدم وساق، إذ تتجه بكين إلى استخراج المعادن المستخدمة لصناعات الطاقة النظيفة، وهي تقود صناعة السيارات الكهربائية التي تتكوّن بطارياتها من معادن النيكل والكوبالت والنحاس والليثيوم والحديد والألمونيوم وغيرها، فضلاً عن أن هذه المعادن تعدّ مكوناً رئيساً لصناعة الألواح الشمسية وتوريبنات طاقة الرياح.
يأتي ذلك متساوقاً مع توجّه الصين إلى تعزيز المصالح الجنوبية الجنوبية، في شراكة مع دول الجنوب الجغرافي التي عانت ويلات الاستعمار الغربي، مُغازِلةً في ذلك الزعماء الأفارقة، بأنّ ماضي شعوبهم في حركات النضال والتحرر، يُمثّل أرضية مشتركة لانطلاقهم نحو مستقبل متحرّر من الهيمنة الغربية.
نوتة
يلعب موقع السودان الجيوسياسي دَوراً لوجستياً في تأمين التجارة بين الصين وأفريقيا، باعتبار ما يمثله من بوابة شرقية آمنة للقارّة الأفريقية، ومعبراً مهما في البحر الأحمر لصادرات الصين ووارداتها، فضلاً عن أهميته في تنفيذ حلم «طريق الحرير»، أو ما يُعرف باسم «مبادرة الحزام والطريق» التي يمثل ساحل البحر الأحمر معبراً مهمّاً لأجل تحقيقه، ما يجعل السودان مركزاً مهماً لتتموضع به الصين لا سيما مع الفرص الضخمة الخاصة بالطاقة المتجددة في السودان.
بادرت الخرطوم لتكون من أوائل الدول العربية والأفريقية التي تُقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، إذ يعود ذلك إلى الرابع من فبراير للعام 1959م، وهما في ذلك يذكران في أدبياتهما معاناتهما جراء الاستعمار البريطاني، وكيف نفّذ غوردون باشا في ستينيات القرن التاسع عشر حملات عسكرية في الصين عُرفت باسم «حرب الأفيون الثانية»، قبل أن ينتقل إلى السودان في مهمة استعمارية أخرى، ليَلقى حتفه على أيدي أنصار المهدي في معركة تحرير الخرطوم في السادس والعشرين من يناير 1885م.
وقد شهدت تسعينيات القرن الماضي تطوّراً مُهماً في العلاقات السودانية الصينية، وذلك بُعَيد توقيع المؤسسة الصينية الوطنية للنفط اتفاقاً مع الحكومة السودانية لتطوير صناعة النفط، ما جعل من الصين مطوِّراً وفاعلاً رئيساً لصناعة البترول وتصديره في ظلّ غياب المنافسين الدوليين إبان العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على السودان، لتمثّل خير شريك للحكومة السودانية حينها، وتُسهم بقوة في نمو وانتعاش الاقتصاد السوداني. بَيْد أن الصين، وفي أعقاب انفصال جنوب السودان في يوليو 2011، قد فقدت نصيباً ضخماً من استثماراتها في السودان، ما أثر سلباً وأدى إلى انخفاض المصالح المشتركة نتيجة نقص التبادل التجاري بين البلدين.
التبادل التجاري بين السودان والصين
المصدر: مرصد التعقيد الاقتصادي (The Observatory of Economic Complexity - OEC)
ولعل ما شهده السودان من ثورة شعبية في ديسمبر من العام 2018 أفضت إلى إسقاط نظام عمر البشير، وما أعقب ذلك من فراغ دستوري وحالة من انعدااستقرار السياسي وتعدّد مراكز صنع القرار، كان له دَور في عدم خلق مبادرات لتطوير العلاقة مع الصين.
ومع الأخذ بعين الاعتبار مشروع حكومة الفترة الانتقالية (أغسطس 2019 – أكتوبر 2021) بقيادة عبد الله حمدوك، لإعطاء الأولوية لإعادة توطيد العلاقات الدولية مع الحكومات الغربية، في ما بدا لمحلّلين استشرافاً لعهد جديد يُعلي من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويُلزِمُ صاحبها بقطيعة مع حلفاء النظام السابق، في ما يشبه قرباناً يقدّمه لصانع القرار الغربي، وهو ما جرى تحقيق بعض غاياته حينما رُفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
غير أنّ الانقلاب على القوى المدنية في 25 أكتوبر 2021، من قبل الشريك العسكري، وما تبع ذلك من اندلاع حرب أبريل، وانفراد الجيش بإدارة شؤون البلاد؛ قد باعد من جديد بين السودان والدول الغربية، التي سارعت إلى فرض عقوبات على الأفراد المتحاربين، طال بعضُها مؤسسات تابعة للجيش السوداني بذريعة أنها تغذّي الحرب.
يأتي «فوكاك» التاسع في توقيت حرج للدولة السودانية وسيادتها، فالسودان بحسب الوكالة الدولية للطاقة، يعدّ من أكثر الدول الأفريقية التي تمثل فرصاً واعدة للاستثمار الأخضر. ومع التوجه العالمي نحو الطاقة النظيفة والابتعاد التدريجي عن إنتاج الطاقة الملوّثة عن طريق حرق الوقود الأحفوري، تأتي الطاقة الشمسية في مقدمة مصادر الطاقة النظيفة حول العالم. إنّ معدل الإشعاع الشمسي الوارد إلى الأرض خلال ساعة ونصف فقط، يكفي للوفاء باستهلاك العالم كلّه من الطاقة لمدة عام كامل، بحسب الوكالة الدولية للطاقة.
نوتة
ولعلّ تعدد المناخات والتضاريس في السودان يؤدي دوراً مهماً في تعدّد موارد الطاقة المتجددة. إنّ الرقعة الجغرافية الواسعة التي تغطيها الأراضي الصحراورية وشبه الصحراوية في وسط السودان وشماله، فضلاً عن موقعه المداريّ، تُسهم بقوة في ازدياد معدّلات الإشعاع الشمسي. ويتراوح متوسط ساعات الإشعاع الشمسي في مختلف مناطق السودان إلى ما يُقدّر بـحوالي 3664 ساعة سنوياً، وهي بذلك قادرة على توليد ما يصل إلى 15 قيقا واط (15.000 ميقا واط) من الطاقة خلال العام الواحد في الظروف المثالية. فضلاً عن 1.5 قيقا واط أخرى يمكن للسودان أن يتحصّل عليها عن طريق الطاقة المتولّدة من حركة الرياح. وهما في ذلك يفوقان الاستهلاك الحالي للسودان للكهرباء، ويُقدّر بحوالي 14.8 قيقا واط سنوياً، بحسب بيانات العام 2022. إنّ حاجة السودان إلى زيادة موارد الطاقة ملحّة جداً، إذ أن متوسط نصيب الفرد السوداني من الكهرباء يُعدّ من الأقل عالمياً، ويُقدر بـ 456 واط، في مقابل متوسط عالمي يُقدر بـ 3.606 واط، ما يؤثر سلباً على معدلات التنمية ومكافحة الفقر والتطوير والصناعة والخدمات وأوجه النهضة عامة.
وعليه، فإن تطوير صناعة الطاقة الشمسية يمثّل طوق نجاة للسودانيين لتحقيق نهضتهم وتعويض ما فقدوه من مصادر للطاقة في أعقاب انفصال الجنوب، وما أصاب سدود السودان من تهالك وانخفاض في الكفاءة لتراكم الطمي، فضلاً عن التعقيدات الهيدروسياسية التي لحقت بالمنطقة ومن شأنها تعطيل إنشاء سدود جديدة للحصول على الطاقة الكهرومائية في ظلّ التوجهات الجديدة لدول حوض النيل بإنفاذ اتفاقية عنتيبي.
تنتوي الصين، التي تمتلك 80% من سوق صناعة الألواح الشمسية حول العالم، ابتداع حزام شمسي في القارة الأفريقية، بهدف إنتاج الطاقة الشمسية على طول دول جنوب الصحراء، ما يصبّ في تحقيق أهداف الصين وأفريقيا بتوليد 300 قيقا واط (300.000 ميقا واط) حتى العام 2030.
وفي سعيه لأن يحذو حذو دول أفريقية أخرى طوّرت شراكاتها مع الصين في مجال تطوير محطات إنتاج الطاقة الشمسية، أعلن الرئيس التنفيذي للمجموعة السودانية للطاقة والتعدين «المهندس» أنس أحمد البدوي، عن نجاحهم في توقيع عدد من الاتفاقيات مع المجموعة الصينية لهندسة الطاقة (CEEC) في مجالات الطاقة الشمسية والتعدين وغيرها من المجالات، بقيمة 30 مليون دولار. وقد أشار إلى أن مشاريع الطاقة الشمسية المزمع إقامتها ستغذي السودان بحوالي 1.5 قيقا واط/ ساعة، وهو ما يمثّل 10% من الاستهلاك الحالي للكهرباء في عموم البلاد، ويهدف في الوقت ذاته إلى تحقيق مساعي الوصول إلى انبعاثات كربونية صفرية. يُذكر أن المجموعة الصينية ذاتها قد وقّعت اتفاقيات إقليمية في المنطقة للغرض ذاته، كان من ضمنها اتفاق لإنشاء محطة ضخمة للطاقة الشمسية في المملكة العربية السعودية.
البرهان والرئيس الصيني شي جين بينغ – 6 سبتمبر 2024 – بكين - المصدر: وكالات
وفي سياق متصل للشراكة الخضراء، وليس بعيداً عن سيطرة الصين على صناعات الطاقة المتجدّدة لبطاريات السيارات وهياكل الألواح الشمسية وتوربينات الرياح، وُقّعت عدة اتفاقيات بين الشركة السودانية للموارد المعدنية وشركات «نورينكو» الصينية، ليس بغرض التنقيب عن الذهب فحسب، لكن لتوسيع الشراكة في ما يختص بالمسح الجيولوجي للتنقيب عن «الحديد والنحاس» أو ما باتت تُعرف بالمعادن الخضراء، لما يمثّلانه من مواد خام رئيسة لصناعات الطاقة المتجدّدة. وبذا تستمر الصين في نسج خيوط تمدّدها في القارة، فقد باتت تسيطر على مناجم الكوبالت في الكونغو الديموقراطية والليثيوم في زيمبابوي وغينيا وتنزانيا.
يأمل السودان في أن يلعب ميناء سواكن دوراً بارزاً ضمن مبادرة الحزام والطريق، والتي طرحها الرئيس الصيني في عام 2013، والتي تهدف إلى بناء شبكة للتجارة والبنية التحتية تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا على طول طرق التجارة القديمة لطريق الحرير وما وراءها / الرسم: موقع البنك الدولي
تعهّدت الصين، على لسان القائم بأعمال سفارة الصين في السودان «تشاينغ شيانغ»، بالإسهام في إعمار السودان بعد الحرب. لا تشترط الصين، بخلاف غيرها من قوى جيوسياسية، معايير سياسية وحقوقية، لكن هذه الشراكة محفوفة بالمخاطر. إذ إن سياسة الصين التمويلية قد تقود إلى الانزلاق في مستنقع القروض التي من شأنها أن تقود إلى تنازلات استراتيجية وسيادية في المستقبل، ما يفرض على حكومة السودان ضرورة خلق تناغم مع الأطراف الدولية المختلفة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، من خلال المزاوجة بين الدعم الصيني والتعويضات المستحقّة من الدول الغربية ذات المسؤولية التاريخية عن الانبعاثات الكربونية، والتي قد تعهّدت خلال السنوات الماضية بتقديم مساعدات وتعويضات واستثمارات في الطاقة المتجددة للبلدان الأفريقية الفقيرة، ويأتي السودان في مقدّمتها من حيث التضرر المناخي.