أتر

محمود: نازحٌ على طبيعته

يتعيّن على النازح أن يقابل الإحسان بأحسن منه والسوء بالتجاهل والكلمات الطيبة. وهذا التحدي ليس مجرد خُلق حميد يُشكر من يتّصف به، ويجري تجاهل من لا يشمله، لا يوجد تجاهُل هنا، من الضروري أن تكون منتبهاً، يجب أن تكون مثالياً بلا عيب حتى لا تسقط في مآسٍ اجتماعية

يَستيقظ محمود في الصباح الباكر ويحمل بضاعته إلى طاولته التي تبعد عن مسكنه بضعة أمتار، يرتّب البسكويت والحلاوة وعلب السجائر على الطاولة، ثم يجلس على كرسيّه بعد أن يرسم حوله دائرة صغيرة للتفاعل الاجتماعي.

في أيام النزوح هذه، سياسة محمود الأساسية هي الحذر الاجتماعي، عليه أن يكون يقظاً فلا يتدخّل في شأن غيره، كما يتعيّن عليه أن يتجاهل باستمرار جميع محاولات التدخّل في شأنه، ويجب أن لا يستثمر في الناس بحجم كبير، فقد يجري فهمه – على الأرجح – على نحو خاطئ، وعليه أن يتجاهل السوء وينتظر كثيراً قدوم الخير. وهذا بالضبط ما يقوم به محمود يومياً، يجلس في مكانه قرب طاولته منتظراً أن يمرّ الناس به ويتبادلون البسكويت والعملات من الفئات الدنيا وكثيراً من التحايا الضاحكة الصغيرة.

قبل 15 أبريل 2023، كان محمود علي أحمد كوكو يعيش في أم درمان، أمبدّة، وبعد اندلاع الحرب، تشتّتت أسرته في جغرافيا واسعة بين أم درمان والشمالية.

غادر محمود بيته في أم درمان ليس هرباً من النيران، ولكن بحثاً عن لقمة العيش بعد أن كان يعمل في ورشة حدادة تابعة لمستشفى بحري. تنقّل محمود على طول مناطق شمال السودان. وصل إلى دنقلا أولاً وتابع النيل جنوباً حتى استقر به الأمر في قرية ودحامد بولاية نهر النيل.

نوتة

ود حامد هي منطقة تضمّ عدداً من القرى، وتقع جغرافياً في ولاية نهر النيل على الشاطئ الغربي للنيل في منتصف الطريق بين أم درمان وشندي. تاريخياً أسّست ود حامد قبيل الفترة المهدية، وتسكنها مجموعات بشرية تنتسب إلى قبائل الجعليين والشايقية والهواوير والقريات وبعض المجموعات الأخرى.

في شهر مايو 2023 وصل محمود إلى ود حامد، واستطاع الحصول على مسكن كان مهجوراً، ورغم أن مسكنه يفتقر إلى الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء، لكنه كان كافياً تماماً ليرسل في طلب بناته وأحفاده في أم درمان للّحاق به إلى ود حامد.

مع انفجار الحرب واشتعال القتال في الخرطوم، من ثمّ وصول الاشتباكات إلى ولايات أخرى، ثمّة بعض المناطق التي ما زالت آمنة، لكنها لم تسلم أيضاً من هذه الأزمة، فقد وصلت الحرب إلى القرى الصغيرة على هيئة توتّرات هائلة في المجتمعات، التي يواجه فيها النازحون تحدّيات وضغوطاً اجتماعية كبيرة وسط مجتمعات الحرب المتوترة.

يعتقد محمود أنه تُفرض على النازح ضغوطٌ جديدةٌ ومُستمرّة، وأهّمها أن يكون أحسن خلقاً من أهل المنطقة، لذا يتعيّن عليه أن يقابل الإحسان بأحسن منه والسوء بالتجاهل والكلمات الطيبة. وهذا التحدي ليس مجرد خُلق حميد يُشكر من يتّصف به، ويجري تجاهل من لا يشمله، لا يوجد تجاهُل هنا، من الضروري أن تكون منتبهاً، يجب أن تكون مثالياً بلا عيب حتى لا تسقط في مآسٍ اجتماعية.

هذه المثالية المُرهقة التي تُطلَب من النازح قد تبدو غير آدمية، لا يوجد إنسان مثالي بهذه الطريقة، وإذا وُجد فأغلب الظنّ أنه ليس إنساناً على طبيعته.

منزل محمود

«إذا إنت نازح، بشوفوك ما زول»، يقول محمود، المشكلة الأساسية تكمن في «نازح» هذه بالذات، حتى أنه لا يعتقد أن هذا التمييز له أبعاد عنصرية مرتبطة بالعرق والجنس، لكون أصوله ترجع إلى جبال النوبة، المشكلة ليست عنصرية، بل المشكلة كلها في كونك نازحاً مهما كان جنسك.

علّق محمود كثيراً على شباب القرية، يعتقد أنهم «متشدّدون» بعض الشيء، وربما كلمة «تشدّد» هنا أقرب لمعنى «التوتر» حسب أسلوبه في التعبير. يلحظ محمود نظرات المارّين به، يقيس خفّة التحايا، ومدى التوتر في نبرة الصوت، وبالطبع يلاحظ النظرات المفتّشة التي تحاول إيجاد شيء ما لا يلاحظه في ذاته.

في فترة الحرب هذه وفي المناطق الآمنة، صار يُطلق على النازح كلمة «دعّامي»، في إشارة لمنسوبي قوات الدعم السريع، وهذه الكلمة بجانب كونها وصفاً لئيماً للنازح، لكنها في نفس الوقت تستبطن توتر المجتمعات من الأفراد الذين يأتون من مناطق دخلتها قوات الدعم السريع.

هذه المجتمعات متورّطة في شكوك مستمرة من كون النازح في حقيقة أمره متعاوناً، مخبراً، أو حتى منسوباً كاملاً لقوات الدعم السريع. «الكلمة معناها انت مع الدعّامة سوا»، كما يقول محمود.

ورطة الشكوك المستمرة هذه ليست حصراً على الأفراد العاديين، ولكنها تشمل أيضاً مؤسسات الدولة بما فيها قوات الأمن.

يحكي محمود أنه حضر قبل فترة قصيرة أمام طاولته أفراد من الاستخبارات، وقالوا إن لديهم معلومة أن هناك «دعّامة» يسكنون في هذا البيت، قال لهم إن هذا مسكنه، وأخبرهم أنه ليس من «الدعّامة»، رحلوا عنه وبعد فترة حضر غيرهم بنفس تلك الشكوك، وأخبرهم نفس الرد «ما دعّامي»، ولمرة ثالثة أيضاً.

في نهاية الأمر، تعوّد محمود على هذه الكلمة: «دعّامي»، أحياناً يسأله بعض المارّة والمسافرون عن بيت فلان في القرية، فيجيبهم ببساطة: «والله ما عارف، أنا دعّامي ساي في البلد دي»، ويضحك.

محمود يضحك في الحالين، يضحك أثناء ساعات الأُنس مع صديقه «سعادة اللواء»، ويضحك أيضاً عندما يسمع ما لا يعجبه، لأنه – في تقدير محمود – يُفرَض على النازح أن يكون مثالياً بلا ملامح.

في هذه القرى، لمحمود صديقٌ يعتبره أخاً، وهو لواء شرطة متقاعد نازح من الخرطوم، اللواء عادل السماوي، في البداية كان يمرّ بطاولة محمود ويتبادلان التحايا، ومن ثم صار يجلس معه قليلاً ويتبادلان أطراف الحديث. أثناء حديثهما وجدا الأرضية المشتركة؛ بالطريقة التي يجدها السودانيون في العادة كافيةً ليعرف أحدٌ ما الآخر. خدم محمود في الشرطة لفترة في كادُقلي، وخدم عادل أيضاً في نفس المنطقة، حاولا تذكّر ملامحهما معاً في كادقلي، لكن لم تسعفهما الذاكرة. «يمكن ما اتعرّفنا الوقت داك، لكن اشتغلنا سوا»، قال محمود، وكان هذا كافياً.

رغم خطوط الحذر والهواء المتوتر في القرية، إلا أنّ محمود يقول إن الناس هنا طيبون جداً: «طيبين لمن غلط». عدَّد محمود الأشخاص الذين عاملوه بلطف ونفسٍ طيّبة بعد وصوله إلى ود حامد، منهم أحد جيرانه الذي تكفّل بمعيشته هو وأسرته طوال شهر رمضان، حاول تجاوز ذكر اسمه، وألمح إلى أن جاره لا يريد أن تُسمّى يمينه لأمر فقط كان لوجه الله.

ذكر أيضاً أحد شباب ود حامد المعروفين اسمه «محمد عمر الطاهر» ساعده في مسكنه وأحضر له الأعواد والمشمّعات لبناء الغرف.

ذكر محمود أن مندوبي الإغاثة، قد سجّلوا اسمه أربع مرات، شهراً بعد شهر، ولم يستلم شيئاً غير ذلك الجوال، «اصبروا شوية» يقولون له، وهو يحادث نفسه أنه يجري خداعه وأن المساعدات تذهب إلى اسم غير مكتوب في الورقة التي سُجّل فيها أربع مرات. «الحمد لله»، يقول محمود.

وذكر أنه عندما وضع طاولته وبدأ في البيع، كان هناك كثيرٌ من الناس الذين كانوا يشجّعونه بالشراء منه، ولم يشعر بأيّ شيء في البداية، لكن مع الأيام بدأت الأمور تزداد صعوبة. «البيوت دي كلها فيها ناس متضايقة وزهجانة»، يقول محمود.

«الحمدلله»، يقول، ثم يكرّرها مراراً وهو يصف حالته المعيشية في هذه الفترة بينما يبدو عليه الأسى. «الفترة دي ضاغطة شوية»، يستعرض كيف يجري تدبير الأمور، في أيام كثيرة تعيش أسرته على وجبة واحدة فقط في اليوم.

من فترة إلى أخرى، يُرسل له إخوانه بعض المصاريف، المال القليل الذي يُدخله محمود في شراء البضاعة. «أرفع بيها التربيزة»، لأن طاولة الخشب هذه يتآكل رأس مالها باستمرار مع الأيام.

منذ بداية الحرب، وحتى هذه اللحظة، حصل محمود على مساعدات إغاثية مرّة واحدة فقط، وهذه المرة كانت عبارة عن جوال زنة 25 كيلو من الدقيق الأوكراني المقدّم عبر برنامج الغذاء العالمي، هو لا يذكر جيداً، لكنه متأكد أن هذا الجوال لم يستمر لمدة أطول من 15 يوماً.

ذكر محمود أن مندوبي الإغاثة، قد سجّلوا اسمه أربع مرات، شهراً بعد شهر، ولم يستلم شيئاً غير ذلك الجوال، «اصبروا شوية» يقولون له، وهو يحادث نفسه أنه يجري خداعه وأن المساعدات تذهب إلى اسم غير مكتوب في الورقة التي سُجّل فيها أربع مرات. «الحمد لله»، يقول محمود.

يعتقد محمود أن هذه التوترات الاجتماعية ليست هي النقاط الأهمّ في قصة النازح، فكل إنسان قادر على رسم حدوده واحترام حدود غيره، لكن حسب رأي محمود، فإن الصفة الأكثر وضوحاً في النازح هي «الحوجة»، يتكلّم وهو يشير إلى جيرانه من النازحين الذين وصلت «حوجتهم» إلى مرحلة غير قابلة للوصف.

Scroll to Top