
يقع «دار فوز كافيه» على الطريق الرابط بين مدينة بويالي واستقبال معسكر كرياندنقو للاجئين بيوغندا. يقدّم المقهى خدماته في المساء للاجئين من السودانيات والسودانيين ومن الجنسيات الأخرى التي يتشارك معها السودانيون المكان، وقد أُسّس فيه منتدى دوري نصف شهري قدّم أكثر من خمس ندوات في موضوعات تهمّ مجتمع اللاجئين، ليتبادل بعده الحضور نقاشات واسعة حولها، ثم تعقبها عروض موسيقية وغنائية وشعرية.
استجابت «أتَـر» لدعوةٍ إلى حضور منتدى بعنوان: «مناهضة خطاب الكراهية»، أعقبته مناقشات وحفل موسيقي. في الأثناء استطلعت «أتَـر» الحضور بشأن تأثير المقهى والمنتدى على تكوّن المجتمع السوداني في كرياندنقو، وعن تجارب العمل بما يعين في مواصلة الحياة خلال وضعهم الإنساني الاستثنائي بوصفهم لاجئين ولاجئات، وعن الدروس المستفادة من التجربة مقرونة بسؤال المستقبل في سودان ما بعد الحرب.
نوتة
تقع مدينة بويالي «Bweyale» في مقاطعة كرياندنقو Kiryandongo غرب يوغندا، على بعد 220 كيلومتراً شمال العاصمة اليوغندية كمبالا على طريق كمبالا – قولو. وقد استُخدمت منطقة كرياندنقو أول مرة لإعادة توطين اللاجئين في العام 1954، عندما طَلبت الإدارة الاستعمارية البريطانية من الحاكم المحلي لبنيورو، أن تنقل اللاجئين الفارّين من انتفاضة الماو ماو في كينيا إلى منطقة تيقمبا الواقعة في ما كان يُعرف ذلك الحين بمقاطعة مازيندي. منح حاكم مينورو الأرض لمدة تسعة وأربعين عاماً، ثم صارت هذه الأرض أثناء إدارة عيدي أمين جزءاً من مشروع كبير للزراعة والرعي، وما تزال آثارٌ منه باقية إلى اليوم في أسماء الأقسام الصغيرة في المعسكر. وقد أدى ذلك لأن تصير المنطقة ذات كثافة سكانية مُنخفضة. في العام 1990، أعلنت الحكومة اليوغندية رسمياً تخصيص الأراضي غير المأهولة بالسكان حول كرياندنقو، مناطق لإعادة توطين اللاجئين. في حرب جنوب السودان، جرى توطين اللاجئين من قبيلة الأشولي الهاربين من هجمات الجيش الشعبي لتحرير السودان، من منطقة بارجوك في جنوب السودان، بمنطقة كرياندنقو بعد وقت وجيز قضوه في منطقة كيتقم في مازيندي. وقد انضمّ إليهم عدد من الأشولي اليوغنديين النازحين قسراً، من المناطق المتأثرة بحروب جيش الربّ في كل من منطقة قولو ومنطقة كيتقم. وُظّف معسكر كرياندنقو أيضاً بوصفه محطة انتقالية للنازحين الذاهبين إلى معسكرات أخرى.
ترى سلمى سليمان، وهي من اللاجئات الشابات وتعيش في معسكر كرياندنقو، وكانت بجنوب السودان قبل وصولها إلى يوغندا، أنه خلافاً لمجتمعات اللجوء الأخرى، يتحرك اللاجئون السودانيون في جماعات، وتخبر «أتَـر»: «بناءً على تجربتي، لاحظت أن مجتمعات اللجوء الأخرى تكون مترابطة اجتماعياً لكنها لا تتحرك في جماعات. على العكس منها، يحاول السودانيون دائماً أن يخلقوا أجواء جماعية، اجتماعية وثقافية، ولا ينفصلون عن طريقتهم في ممارسة حياتهم».
في يوغندا، رغم أنهم ما زالوا في مرحلة التعافي من الصدمة، تؤكد سلمى، أن السودانيين والسودانيات اكتشفوا أنهم قادرون على ابتكار برامج وخلق مساحات آمنة، وأنشطة ثقافية ومنتديات فكرية ومنابر سياسية، وفي هذا كله تظهر قدرتهم على التكيف مع أحوالهم الجديدة. وترى أن الناس عموماً، على الرغم من وجود القوانين المقيدة لممارسة النشاط السياسي في البلاد، يستطيعون أن يجدوا منافذ لتبادل المناقشات في السياسة بوجه أو بآخر.
لاحظت أن مجتمعات اللجوء الأخرى تكون مترابطة اجتماعياً لكنها لا تتحرك في جماعات. على العكس منها، يحاول السودانيون دائماً أن يخلقوا أجواء جماعية، اجتماعية وثقافية، ولا ينفصلون عن طريقتهم في ممارسة حياتهم
وعلى النحو ذاته، تُخبر أمل هارون «أتَـر»: «جئنا إلى بويالي، وبدأنا في تكوين معالم ثقافية واجتماعية تشبه سوداننا، وهي بالطبع لن تشبه ما تركناه وراءنا بالتمام، لكنها تخفف عنّا وتُهوّن علينا هذا المصاب، فقد فتحنا مطاعم وكافيهات وخلقنا مساحات تأوينا مثل هذا المقهى، نأتي إليها لنبتهج قليلاً حيث نجد السودانيين والأغاني السودانية، ونجد القهوة والضحكة والونسة. وفي النهاية تختمها ببكية وأنت راجع».
تشير رمزية التسمية «دار فوز» إلى تاريخ المقاومة السودانية الباكرة للاستعمار، حيث كان مكاناً يجتمع فيه قادة الحركة الوطنية ضد الاستعمار والكتاب والفنانون، حيث كانوا يجتمعون في «دار فوز» بأم درمان بوصفه مكاناً للسمر والطرب ومساحة آمنة لمناقشة وتداول الشأن السياسي المرتبط بمقاومة الاستعمار. تستلهم التسمية «دار فوز» من تاريخ الحركة الوطنية في عشرينيات القرن الماضي الظروف والملابسات التي نشأت فيها الحركة الوطنية. وعلى الرغم من الفارق الزماني والمكاني بين «دار فوز» تلك، وهذه القائمة حالياً في مدينة بويالي اليوغندية، إلا أنّ ما يجمع بينهما هو استمرار التحديات والمهددات السياسية والقبضة الأمنية الماثلة في البلدين، مما اضطرّهم للتخفّي عن أعين الرقيب.
داخل المقهى ترى جداريّتَيْن، على الأولى خارطة السودان وبداخلها آلة الربابة الموسيقية، وكُتب فوقها: «الشرف الباذخ. نتمنّاك موحّد»، وتحتها عبارة تنضح فطنة: «ما بجيب سيرة الجنوب». والجدارية الأخرى لخليل فرح، الشاعر والملحّن والمغني السوداني الأشهر في زمان «دار فوز الأولى»، ومن أبرز روّادها، وأحد قادة المقاومة الوطنية للاستعمار. تعمل في المقهى شابة اسمها «فوزيّة»، وقد حوّره رواد المكان إلى «فوز» تماشياً مع الاسم التاريخي.

اجتمعنا على المحبة بلا سابق معرفة أو ميعاد، مجموعة من الشباب أصبحوا من أقرب الناس إلينا، واتفقنا على لجنة لتسيير المنتدى بعد الاتفاق على تسميتها بالانتخاب. ينعقد المنتدى كل أسبوعين من الخامسة مساءً وحتى التاسعة، يكون النقاش عادةً حول كتاب أو ورقة علمية، وتعقبه قراءات شعرية أو فاصل غنائي أو كلاهما
يقول علي البخيت، وهو مالك المقهى وأحد مؤسسي المنتدى: «صار دار فوز ملاذاً آمناً للمثقّفين والأدباء، ونعمل على أن يكون ملاذاً للمجتمع السوداني في مدينة بويالي».
يُخبر البخيت «أتَـر» بأنّ فكرة استضافة المقهى لمنتدى فكري، ثقافي واجتماعي، قد جاءت مبادرةً من رواد المقهى الشباب. ويمضي في وصف تفاصيل تأسيس المنتدى، والهدف منه، وشكل التنظيم المتبع قائلاً: «لنناقش من خلاله مشكلاتنا ونسعى نحو المستقبل، لنا وللبلد. اجتمعنا على المحبة بلا سابق معرفة أو ميعاد، مجموعة من الشباب أصبحوا من أقرب الناس إلينا، واتفقنا على لجنة لتسيير المنتدى بعد الاتفاق على تسميتها بالانتخاب. ينعقد المنتدى كل أسبوعين من الخامسة مساءً وحتى التاسعة، يكون النقاش عادةً حول كتاب أو ورقة علمية، وتعقبه قراءات شعرية أو فاصل غنائي أو كلاهما».
وشاهداً على تكوّن العلاقات في المكان وتعرُّف اللاجئين على بعضهم البعض في مساحة سودانية عامة على أرض يوغندية، يصف علي البخيت رواد دار فوز بأنهم «أهل يتفقدون بعضهم البعض عند غياب أحدهم، ويذكرون بعضهم البعض بالخير، وحتى الأغاني صارت مرتبطة بوجود الناس في المقهى، وصاروا جزءاً من موسيقاها ومتعتها».
يستهلّ الشاذلي ميرغني حديثه إلى «أتَـر» شاكراً لمنتدى دار فوز ما يقدّمه وما يعنيه لروّاده وأنه جمع بينهم. والشاذلي مهندس زراعي ولاجئ يعيش في بويالي منذ 2017، ويعمل مزارعاً. ومن واقع معايشته للمكان ورصده لما يجمع بين السودانيين من قضايا، يتلمّس بدَوره ملامح تكون مجتمع سوداني في المنطقة قائلاً: «نستطيع معاً أن نُكوّن وطناً جديداً يتحقّق من خلال وجودنا هنا ويسعنا كلّنا».
يحاول الشاذلي أن يستكشف طريقاً يعيد ترميم الوجدان السوداني الممزق، ويرى أن وجود السودانيين في معسكر كرياندنقو يمكن أن يتيح لهم مساحة للتعرف على بعضهم البعض أفراداً ومجتمعاتٍ على نحو أقرب، بعيداً عن الصور المتخيّلة التي كان يحملها كل مجتمع عن الآخر.
يخبر «أتَـر»: «لا يختلف وجودي هنا في بويالي عن وجودي في السودان، إلا بأني سوداني في بلد غير السودان، لكني لم أشعر هنا بغربة، وأمارس عملي بلا عوائق».
متداعياً بصوت متهدّج يقول محمد التجاني: «عندما جاءت الحرب غيّرتنا كلنا، وهذه نقطة بداية لنا كي نتّحد». محمد فنّان راب شاب كان يسكن في شارع الأربعين بأم درمان، ومثل كثير من أهل السودان، مرّ برحلة نزوح قاسية أفضت به إلى يوغندا ومعسكر كرياندنقو، وقد تشتت أهله أيضاً بين مدن النزوح داخل السودان وخارجه. وعلى رغم كل شيء، ما زال يحمل رسالة السلام والوحدة والصمود والأمل، ودائماً ما تراه في معسكر كرياندنقو، حاملاً مكبّر صوت صغير وهو يتفاعل مع موسيقى الراب، ويحثّ من حوله على الصمود وأن يحوّلوا صدمتهم إلى مصدر قوة بدلاً من أن يَدَعُوها تَكسِرُهم.
وعن تجربته في المعسكر يقول محمد: «عندما جئت إلى هنا وجدت حميمية شديدة، وراحة وقدرة على التواصل مع ناسي كلهم بالعربي، وبعض الناس هنا يواجهون مشكلات كبيرة في اللغة والتواصل. لكن مع ذلك تجد أيضاً أنك تنازع منازعة شديدة في العيشة والتفكير في المستقبل. أتمنى أن يكون مستقبلنا كلنا أفضل، وأن نكون أقوياء».
ويمتدح التجاني وجود المنتديات والكافيهات في المعسكر وارتياد اللاجئين لها وجلوسهم معاً وتعارفهم وانسجامهم، ففي فضاءاتها تلتقي المجتمعات والثقافات، ويجد الشباب مثله منفذاً للتعبير عن مواهبهم، إذ يغني محمد للمساواة والوحدة والسلام. يقول: «إنها رسالة كبيرة، يحاول كثير من الناس أن يوصلوها، لكن علينا أن نوصلها عبر المايك لا السلاح».