
نشرت جريدة «البيان» الإماراتية في العام 2003 كلمة مضيئة للمرحوم محمد إبراهيم نقد عنوانها «المجتمع المدني العربي يواجه خطر التحوّل إلى شاهد زور»، كانت مفتاحاً من مفاتيحه التي غَمُض على بعضنا وقتها لأي قفل صُنعت، حتى جاء ضحى الغد وبرزت عورتنا «رحط أمّك». وكتب محمد في كلمته محذّراً من الخُلعة أمام «المجتمع المدني» الذي جاء جديداً في عقد التسعينيات، كأنه إعادة اختراع العجلة أو في عبارته «التهاب الغدّة النكافية» وكان عندنا «أب عديلات» متعدّد الأشكال والصور. وجرّد المرحوم محمد منها: «الجمعيات الأدبية، الأندية الرياضية الثقافية الاجتماعية، أندية الخريجين، أندية العمال، الأحزاب السياسية، الحركة النقابية، حركات المزارعين والطلبة والنساء والشباب، اتحاد الصحفيين، اللجان الشعبية للدفاع عن الحريات، اللجان القومية للتضامن مع شعب مصر، كينيا، العراق، الكنغو، الروابط الأدبية في عطبرة وسنار وكوستي والأبيض ومدني، التجمع النقابي، التجمع الوطني الديمقراطي، مجالس الآباء والأمهات، الروابط القبلية والإقليمية، تضامن قوى الريف، اتحاد الكتاب، الجمعيات الخيرية».
لكن ميّز المرحوم محمد ما جَدَّ على مخدّة «المجتمع المدني»، فهو، على عكس «أب عديلات» اللِّيلنا، نسيج في شبكة مراكز ومؤسسات عالمية داعمة مُموّلة. نقل المرحوم محمد عن الدكتور حيدر إبراهيم قوله: «انحرف كثير من المنظمات عن أهدافه وأصبح ميداناً لصراعات داخلية قائمة على أسس ذاتية وشخصية، وهي خصومات لا ديمقراطية في الأسباب ووسائل إدارة الصراع، تُميّزه هذه المنظمات بصراع المكانة والوجاهة والامتيازات المادية والمعنوية. وغالباً ما تتحوّل ديمقراطية هذه المنظمات إلى تحكّم شلّة نافذة تستولي على فائض القيمة المتمثلة في المال والسفر والعلاقات العامة، إنها حضرية ونخبوية، وهذا يعني أن العضوية محصورة وقليلة التأثير، وأولويات المموّلين قد تؤثر في تحديد الأولويات الوطنية والمحلية، إضافة إلى أن أساليب العمل التي يتوقعها الممول حرمت المنظمات من ابتداع طرائق جديدة. الوضع الحالي لمنظمات المجتمع المدني لا يبشر بمستقبل واعد».
وضرب المرحوم محمد لهذا الجنس مثلاً اجتماعاً لمنبر المجتمع المدني لجبال النوبة والنيل الأزرق، انعقد في نوفمبر 2002 في فندق بكمبالا، بدعوة من منظمة عموم إفريقيا وترتيب منظمات العدالة الإفريقية لحقوق الإنسان وتمويل وكالة التنمية الدولية البريطانية. وتساءل المرحوم محمد: من هم مندوبو المنبر؟ وما هي المنظّمات التي انتدبتهم؟ وقد تعذّرت مشاركة طرف من الحركة الشعبية لتحرير السودان التي منعت كذلك منظمات المجتمع المدني العاملة في مناطق سيطرتها من الحضور.
جاء المرحوم محمد كذلك مما قرأ بمبادئ قيل إنها تحكم نشاط المنظمات غير الحكومية، فهي بحسب هذه النصوص: «تزاول نشاطها في حيّز محدود، وليس لها دَور سياسي مباشر؛ لا تُعنى بتغيير الحكومات، إنما تضغط كيما تَحترم الحكومات حقوق الإنسان؛ ممنوعة بحكم تكوينها وقانون تسجيلها من الفعل السياسي والتغيير السياسي؛ يلتزم العاملون فيها الحياد والابتعاد عن النشاط الحزبي أو الحزبي الصارخ؛ يلتزم مركز المنظمة التمويل وكورسات التدريب ومرتبات المتفرغين»؛ وقارَن هذه الأوجه للحيادية بمانفستو ليبرالي جديد في الواقع شهدت عليه مجلة «الإكونومست». وجاء كذلك من مجلة «الإكونومست» بحقيقة أنّ منظمة أوكسفام تلقّت من الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي في العام 1999 حوالي 24 مليون جنيه إسترليني من جملة ميزانيتها البالغة وقتها 98 مليون جنيه إسترليني. ومن مجموع 120 منظمة غير حكومية كبرى رصدت الإكونومست مالها، تعتمد 111 منظمة كلياً على الحكومات، فهي إذن ليست منظمات حكومية بأي معنى دقيق. وعند «الإكونومست»، صوت الرأسمالية الناضجة منذ العام 1843، العلّة أن المراكز الرأسمالية أوكلت لهذه المنظمات مهام رعاية المعيشة، أو قل إعادة إنتاج قوى العمل، في الهامش الكوني. ذلك في محلّ الدولة التي قامت لتفكيك حواجزها الجمركية وقوامتها المالية والاقتصادية صامولة صامولة جيوش وبنوك وصناديق استثمارية ومنظمات مجتمع مدني دينها الليبرالية الجديدة.
بعضُ أصول كلمة المرحوم محمد في أصيل الاتحاد السوڤييتي، وهو يترنّح ترنّحه الأخير حتى انحلال وثاقه في أواخر العام 1991. ولم تَغِبْ عنه بطبيعة الحال شخصية «المنشقّ» من العالم السوڤييتي التي اندثرت مع اندحاره، وكان شغلها أن ترثه، والله خير الوارثين. عادت الدكتورة شيلا فتزباتريك، مؤرّخة الاتحاد السوڤييتي المرموقة، إلى هذه الشخصية في كلمة من وحي كتاب للدكتور بنجامين ناتانز في عدد أكتوبر من «عرض لندن للكتب». و«المنشقّ» السوڤييتي مولودٌ للربيع السوڤييتي الذي أعقب الحقبة الستالينية، نجمٌ لامعٌ في السماء الغربية بل طاهرٌ مقدّسٌ متى أعلن مظاهرته للنظام السوڤييتي، لكنه قليل الشعبية وسط مواطنيه السوڤييت، بالكاد يعرفونه، أو مواطنيه من روس ما بعد الاتحاد السوڤييتي. وجاء ناتانز بإحصاءٍ من العام 2013 يقول: لم يتعرّف سوى واحد من كلّ خمسة مواطنين روس على أي من مشاهير المنشقّين السوڤييت من حقبة الحرب الباردة. وكانوا بحسب ناتانز، وما عرفته عنهم الدكتورة فيتزباتريك، شخصيات مخالفة وذات عقائد مكينة، وإن لم تكن على الدوام منطقية، تحفزهم خصومة غريزية أو تكاد مع السلطات السوڤييتية، لكن ليس الأمريكية أو الغربية بطبيعة الحال، أشهرُ طباعهم – وإن عرّفوا أنفسَهم ديمقراطيّين – تسفيهُهم التام لرأي عامة الناس، وتصيّدهم الصراع مع السلطات تصيّداً صبيانياً، وعلى كلّ حال شديدة الصفوية، ملؤهم الثقة بالنفس والتأفّف من سنن مَن هم حولهم، وشاغلهم قضايا الكون، فما مطابخ موسكو الضيقة دي، تقوم منظّماتهم السياسية لتفشل، فليس من طبع أحدهم العمل الجماعي بحقّ، اختفوا من سجلّ التاريخ يوم اختفى الاتحاد السوڤييتي. لم يقبل ناتانز نسب «المنشقّ» إلى تراث الانتلجنسيا الروسية الراديكالية ما قبل الثورة البلشفية. وقال: بينما توجّهت الانتلجنسيا الراديكالية في القرن التاسع عشر إلى الشعب وشَغَلَهَا التحريض وسطه؛ اكتفى المنشقّ بالحديث إلى من يشاركونه الرأي في حلقات خاصة، كانت مدار عالمه. ومتى خرج إلى العالم خرج برسالة إلى الصحافة الغربية. من ذلك ما شهدت الدكتورة فتزباتريك في موسكو السبعينيات، قالت تكرَّر مشهدُ وقوفِ مجموعات صغيرة من جنس «المنشقّ» بغرض الاحتجاج عند مكتبة لينين، يحملون بوسترات تنادي بالحرية وحقوق الإنسان، لكن باللغة الإنجليزية، جمهورهم كاميرات مراسلي الصحافة الغربية، ومتى ما حضر هؤلاء والتقطوا الصور إياها انفضّ السامر. فضّل هذا الجنسُ السياسي تسمية نفسه «اناكوميسلياشي»، مفكّر مستقل من غير التيار السائد، والله بِدِّي الجنة.