
«انتو زمن جيتو قعدتو هنا استأذنتو من منو؟ بدّيكم أسبوع وتقوموا من هنا طوالي»
هذه «أمنية»، تروي ما حدث معها وهي تبني «عشّتها» على قارعة الطريق بمنطقة «سَلّومة» ريفي الفاشر.
أمنية محمد، شابة عشرينية نزحت من الفاشر حي الثورة جنوب، بعد القصف العنيف لقوات الدعم السريع تجاه الحي الذي تسكن فيه، وتُخبر «أتَـر» بأنها بعد سقوط قذيفة على منزلهم تحرّكت مع شقيقتها وأطفالها قاصدتَيْن سَلّومة، رغم أنه لا يُوجد أي قريب لهما هنالك، لكنهما اضطرّتا بسبب سوء الأوضاع لخوض تجربة النزوح صوب المجهول بحثاً عن الأمان. وبعد إقامة قصيرة مع نسابة أختها، اختارتا بناء بيت صغير بالقرب من روضة المنطقة، وذلك بعد بحث حثيث عن مكان بالمدارس القريبة لمحل إقامتهما وأطفال شقيقتها.
نوتة
منطقة سَلّومة هي مجموعة قرى وأحياء صغيرة تقع جنوب غرب مدينة الفاشر، منها «سَلّومةْ عبد الرحمن سعيد» على اسم مؤسّسها الشيخ عبد الرحمن سعيد، و «سَلّومةْ دار برّا» إلى الجنوب، وغيرهما. وقد كانت المنطقة في الماضي محدودة جداً، لكنها اتسعت بفعل النزوح. منذ حرب 15 من أبريل، وتمدّدها في ولايات دارفور الأخرى، مثلت ولاية شمال دارفور وجهة للنازحين من بقية ولايات دارفور التي اجتاحها الدعم السريع.
والخدمات في منطقة سلومة ضعيفة جداً، قياساً بعدد النازحين إليها في الآونة الأخيرة، باستثناء مركز صحي افتتحته منظمة أطباء بلا حدود في الفترة الماضية، وقد سَدَّ جزءاً من الحاجة الصحية والعلاجية في المنطقة إلى حدّ أن موقعه صار يسمى الآن «سلومةْ أطِبّا».
يعتمد السكّان في قُوتهم على زراعة محاصيل الغلال والتمباك والفول السوداني بمقادير قليلة، ويمرّ بسلّومة وزمزم وجفَلو «وادي أم قِضِيبو». ولا يوجد بسلومة سوق، لذا يتبضع الناس من سوق جَفَلو. ووسيلة التنقّل في سلومة هي الدواب، التي يقودها أطفال يُفَّع من سّن 8-12 سنة. ويعتمد الناس في الحصول على المياه للشرب والاستخدام المنزلي على الآبار والحفائر بعد الخريف.
في البداية عادت أمنية إلى الفاشر وجلبت لوحَي زنك للسقف، بينما تبرّعت لهما إحدى السيدات بـثلاث حزم من القصب لتغطية أطراف راكوبة صغيرة، لكن عند تخطيطهما المبنى قَدِم إليهما شيخ الحي طالباً منهما الكفَّ عن البناء والمغادرة، مُتعلّلاً بأن المكان ساحة عامة، وأنّ أمر المغادرة مُقرَّرٌ باستشارة أهل الحي.
رفضت أمنية وشقيقتها مغادرة المكان: «ليس لدينا مكان آخر، وطلبنا من شيخ الحيّ أن يبحث لنا عن مكان آخر، وإلا فإننا سنبقى هنا، لأن الساحة ملك للحكومة لا له. وهي ليست مهيأة لإقامة إنسان، لكنها الحرب!».
وتضيف بنبرة أسى: «أما الحمّامات فتوجد في منطقة بعيدة عن موقعنا الحالي، وأقرب واحدة في المدرسة. ولأننا نازحون خارج مراكز الإيواء، لم تُقدِّم لنا أية جهة شيئاً».

نازحات في سَلّومة يحتطبن ويجمعن عشبة التمليكة لوجبة العشاء
تصوير: مراسلة أتر
تضطرّ أمنية للذهاب إلى المدرسة لقضاء حاجتها خلال ساعات النهار، لكنّ ذلك يَصْعُبُ في الليل، لذا تفضّل عدم شرب الماء ليلاً. تقول: «يقضي معظم سكان هذا المكان حاجاتهم ليلاً في العراء. ومعظم السيدات يستحمِمْنَ بعد المغيب داخل بيوتهن الصغيرة، أو يضطررن للذهاب إلى العام برفقة أخريات».
تشكو أمنية من صعوبة الحصول على المتطلّبات الخاصة بالنساء، لما يعانين من ضيق ذات اليد، مع غياب تامّ للمنظمات أو الجهات الخيرية التي تقدّم بعض المتطلبات، «لأن معظم المنظمات أو الخيرين يختارون نزلاء دُور الإيواء، والتسجيل هناك مقنّن، والتوزيع مُحكَم ومخصّص للنازحين فقط. أما هنا فلا أحد يلبي النداء! منظمة واحدة فقط، أعطتنا ماء شرب، لكن ناس الحِلّة أصروا على أن ينالوا من الماء مثلنا أو لا ننال شيئاً، فاخترنا تقسيم الحصّة بين الجميع حتى لا تضيع علينا».
أربعة أشهر ونصف، قضاها نازحو سَلّومة على طرقات حلة الشيخ عبد الرحمن سعيد، يُكابدون الحياة بحثاً عن الأكل والشرب في بيوت لا تقي من حرّ الصيف أو برد الشتاء الذي آذن بالدخول مع مطلع شهر نوفمبر الجاري، بينما يشتدّ قصف الدعم السريع على الفاشر مع الحصار المُحكَم على المدينة من الخارج واشتداد أزمة النقد، ما أثّر بدَوره على القدرة الشرائية للمواطنين.

مأوى من القش والقصب والثياب في إحدى ساحات سَلّومة
تصوير: مراسلة أتر
تمتلئ صواني الفول المدمّس وتَفرغ مرات خلال اليوم الواحد. تخبر بائعته «أتَـر» بأنّ المشترين يسمّونه «مُسكّن ألم” لأنه يسدّ الجوع بسرعة، والفول رخيص الثمن وسريع التحضير وفي متناول اليد، خصوصاً مع موسم «الدَّرَت». هكذا، يتناول بعضهم الفول السوداني وجبةً خلال اليوم، والذي بات وجبة كثير من النازحين حتى داخل دُور الإيواء.
وروَتَ إحدى النازحات لـ «أتَـر»، وفضّلت حجب اسمها، كيف جعلن من «التمَليكة»، وهي عشبة تنمو على الوديان في فصل الخريف، وجبة رئيسة لشهرين على التوالي: «عندما نذهب للاحتطاب نجمع الأعشاب أيضاً ثم نعود ونسلقها لوجبة العشاء، ونُغطّي ما تبقى منها لإفطار اليوم التالي، ثم نعود من جديد لتكرار نفس الشيء. وعند حصاد الملوخية تحوّلنا إليها، ورغم أن المعروف عند أهل دارفور أن الملوخية تُؤكل بالعصيدة أو الكِسرة، لكن لضيق ذات اليد اخترنا الأرز مع الملوخية، لقلة تكلفته مقارنة بأسعار الغِلال».
منذ أبريل 2024، اشتدّت وطأة الصراع العسكري بين الجيش وحلفائه من القوات المشتركة وقوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة في مدينة الفاشر؛ حاضرة إقليم دارفور وآخر حصن للجيش السوداني بالإقليم، مع تكثيف هجمات الدعم السريع على المدينة تزامناً مع التدوين المُمنهج تجاه المرافق العامة وبيوت المواطنين، ما أجبر أكثر من ثلثي مواطني الفاشر على النزوح إلى المحليات والولايات الآمنة. واستوعب معسكر زمزم وأحياؤه المختلفة حوالي نصف مليون نازح، وهو الذي يضمّ عدداً مقارباً لعدد الذين نزحوا خلال حروب دارفور وصراعاتها منذ مطلع الألفية. توزّع النازحون الجُدد بين دُور الإيواء والساحات العامة ومباني المؤسسات في أوضاع إنسانية شديدة القسوة، بينما انسحبت أغلب منظمات المجتمع المدني من الولاية بسبب اشتداد وطأة المعارك، تاركةً تلبية النداءات الإنسانية لغرف الطوارئ وبعض الجمعيات الخيرية ذات الدعم المحدود الذي بالكاد يكفي لإقامة مطابخ جماعية في دُور الإيواء فقط، ليبقى كلّ من بنى في الساحات وحيداً أمام مصيره.

تضطر بعض النازحات إلى المقيل تحت الأشجار والعودة إلى رواكيبهن عند مغيب الشمس
تصوير: مراسلة أتر
هذه الأعمال شاقّة بالقدر الذي لا تقوى عليه معظم السيدات اللائي اخترن صنع بيوتهن من ثيابهن وجوالات البلاستيك من أجل سترة الحال، فهي لا تقي شدة البرد أو هجير الحرّ
فتحية النور، نازحة بَنَتْ مأواها في إحدى الساحات بقرية «سَلّومة دار برّا»، وهي من أحياء معسكر زمزم للنازحين، وقد أخبرت مراسلة «أتَـر»، بأن تسجيل القادمين الجُدد يأتي بعد إكمال تسجيل المقيمين داخل المراكز، وتضيف: «ما زلنا ننتظر وعود لجان التسجيل، رغم أنه قد جرى تسجيلنا قبل فترة، لكن بعد تغيير اللجنة بلجنة أخرى، ألغت الجديدة التسجيل ووعدت بإجراء عملية مسح جديدة من قِبل جهات أكثر اختصاصاً».
وعن إجراءات التسجيل، تقول نازحة أخرى، فضّلت حجب اسمها، إنه يتعيَّن إحضار جميع أفراد العائلة، وإلا جرى استبعادهم بسبب الغياب من القائمة وبالتالي حرمانهم من تلقي المساعدة. وأضافت أن شقيقَيْها يعملان بالزراعة، لذا لا يستطيعان الحضور خلال ساعات النهار، «لذلك تعذَّر عليّ تسجيلهما في بادئ الأمر، لكن نجحتُ في تسجيل أحدهما بعدها، وما زلتُ أحاول تسجيل الآخر»، أخبرت «أتَـر» بسعادة.
أما عن طرق بناء البيوت، فقد أخبرت مبروكة عوض «أتَـر»، بأنهن يفزعن في الصباح الباكر إلى مزارع التمباك شمال المنطقة لجلب قصب البناء، وهي أعشاب صغيرة تنمو بفعل الطبيعة داخل المزارع. «لكن الأمر لا يحدث بسهولة، وندخل في كثير من الأحيان في مشادّات كلامية مع أصحاب المزارع، إذ إنهم يمنعوننا تارةً ويسمحون لنا بجمع القصب تارة أخرى».
لا تكتفي النسوة بذلك، بل يمضين إلى غابات أشجار «العُشَر» للاحتطاب وجلب أعواد البناء. وتقول مبروكة: «هذه الأعمال شاقّة بالقدر الذي لا تقوى عليه معظم السيدات اللائي اخترن صنع بيوتهن من ثيابهن وجوالات البلاستيك من أجل سترة الحال، فهي لا تقي شدة البرد أو هجير الحرّ»، مضيفة أنهن يذهبن إلى الشوارع للبقاء تحت ظلال الأشجار حتى مغيب الشمس.
هكذا حال الفارّات من جحيم القصف بالفاشر. نساء تركن بيوتهن، مخلّفات وراءهن كلّ ما يخصّهنّ بحثاً عن أمل للأمان في ساحات القرى والفرقان على امتداد محليات شمال دارفور المختلفة وحلّالاتها، يواجهن مصاعب الحياة وقلة الحيلة خارج دُور الإيواء، وليس أيسرها رعباً الجوع والفقر وسوء التغذية وانهيار النظام الصحي حول مدينة محاصرة لمدة ستة أشهر.