
تحت سماءٍ ملبّدة بالأحزان، يعيش النازحون في الولاية الشمالية واقعاً قاسياً ومعاناةً لا توصف. أسر وأفراد يُواجهون تحدّيات حياتية تتجاوز حدود الفقد والخسارة، وتتجلّى معاناتهم في تجارب فردية وجماعية تعكس الألم. وبينما يحظى بعض النازحين بقطرات من الأمل، يعاني آخرون في ظلمات النسيان؛ بسبب سوء توزيع المساعدات الإنسانية، وبيعها في الأسواق، وأحياناً بسبب إهمال بعض المناطق البعيدة عن حاضرة الولاية دنقلا. هذه الفجوة الشاسعة تتجلّى بوضوح في العقبات التي تعترض وصول المساعدات الإنسانية إلى من يحتاج إليها.
نوتة
تتجه المساعدات القادمة من بورتسودان إلى دارفور، مروراً بالولاية الشمالية. وللولاية الشمالية – التي باتت إحدى وجهات النازحين – نصيبٌ منها. وبحسب OCHA تحتضن الولاية 10% من نازحي ولاية الخرطوم. وتستعد الحكومة السودانية لاستئناف تشغيل مطار دنقلا، ليكون معبراً لدخول المساعدات الإنسانية وتوزيعها. ورغم إعلان مفوضية العون الإنساني عن خطة، لتوزيع المساعدات على النازحين، إلا أن معاناة النازحين ما زالت تتفاقم بالولاية وأنحاء البلاد المختلفة.
سمية، النازحة من ولاية الخرطوم، تعيش في المدرسة التجارية بمدينة أرقو التابعة لمحلية البرقيق بالولاية الشمالية. بابتسامة تتخفى خلف عيونٍ مملوءة بالقلق، تتحدث لـ «أتَـر»، قائلة: «وصلتنا مساعدات من برنامج الغذاء العالمي، جوال دقيق 25 كيلو، وجوال سكر 5 كيلو، وملح وعدس. وسمعنا بتوزيع أموال على النازحين لكنها لم تصل إلينا، كأننا في عالم غير عالمهم، نعيش في دوّامة الجوع والمشقة. حتى الأمل الذي كنا نراه يتلاشى».
تحكي سمية بمرارة عما تعيشه من كابوس يومي، وكيف أن المساعدات التي تُوزَّع لا تكفي لإطعام أسرتها. تتذكّر الأيام التي كانت فيها مطمئنة على قوت أطفالها، وتقول: «قبل الحرب كنا نحلم بوجبة كريمة، والآن نعيش على بقايا الأمل».
«نرى المساعدات تُباع في سوق أرقو ونحن جائعون، وأصحاب المحلات يخبروننا بأن مصدر تلك البضائع المساعدات، فالمسؤولون باعوا كل شيء. نحن نعيش في دوامة من الجوع والفساد معاً»، تتحدث سمية بمرارة.
وصلتنا مساعدات كيلو دقيق واحد وكيس مكرونة. المسؤولون من التوزيع وهم موظفو المحليات، يرون أن من نزحوا إلى منازل الأسر في المنطقة لا يحتاجون إلى المساعدات، لكن حالنا لا يسرّ
وصلت فاطمة حي النور بمدينة أرقو في الولاية الشمالية قادمة إليها من ود مدني في ولاية الجزيرة، والآن تعيش في منزل عمّها. تُخبر فاطمة «أتَـر»، بأن الإغاثة لا تصل إلى النازحين في منازل أهليهم.
«وصلتنا مساعدات كيلو دقيق واحد وكيس مكرونة. المسؤولون من التوزيع وهم موظفو المحليات، يرون أن من نزحوا إلى منازل الأسر في المنطقة لا يحتاجون إلى المساعدات، لكن حالنا لا يسرّ»، تقول فاطمة، وتضيف والدموع في عينيها: «كيف نعيش في بيت ولا نحتاج؟ كأننا في غابة، لا أحد يسمعنا أو يهتمّ لأمرنا. أطفالنا يحتاجون إلى الغذاء، لكنهم يعاملوننا وكأننا غرباء في هذا العالم».
في دنقلا، حاضرة الولاية الشمالية، تُقدِّم المطابخ المركزية وجبات للنازحين، رغم أنها قد تتوقّف أحياناً. بينما في المحليات الأخرى، قد يتسبّب عدم انتظام وصول المساعدات في أزمات غذائية ودوائية، ويعيش النازحون دون أيّ دعم ملموس.
يتبع المطبخ المركزي في مدينة دنقلا لمنظمة «دنقلا بيتكم»، وهي مبادرة شبابية تكوّنت لتقديم العون والمساعدة الإنسانية للنازحين عقب اندلاع الحرب، ثم تحوّلت إلى منظمة.
يقول «أ. م» عضو المكتب التنفيذي للمنظّمة، إن المطبخ لم يكن يتلقى الدعم المالي من المنظمات الأخرى، فقد تمكّنوا في البداية من الحصول على دعم من الخيرين، بالتعاون مع تكايا في الخرطوم ومحلية كرري، لتوفير المواد التموينية للنازحين في مراكز الإيواء التي تتبع للمنظمة، وهي: مركز السرايا (الموقع الرئيس للمطبخ)، مدرسة مصعب بن عمير (وتجري عمليات التوزيع على بقية المراكز منها)، مركز الأهلية، ومركز الزهراء.
وقّعت «دنقلا بيتكم» عقداً مع المجلس النرويجي للاجئين ((NRC لمدة ثلاثة أشهر، التزم فيها بتوفير الدعم المالي للمطبخ. وكان المطبخ وقتها يوفر وجبتين يجري توزيعهما على جميع المراكز يومياً، لكن بعد انتهاء مدة العقد واجه المطبخ انقطاعاً في السيولة، وتوقف عمله لمدة ثلاثة أشهر (من يونيو حتى أكتوبر الماضي)، ما اضطر المنظمة إلى إعلان عن حاجة المطبخ إلى التبرعات عبر وسائط التواصل الاجتماعي.
تتضمّن المساعدات التي وصلت من برنامج الغذاء العالمي الدقيق والسكر والعدس والأرز والزيت وحليب بودرة للأطفال والملح والمكرونة والشعيرية، ولكن ما وُزِّع فعلياً على النازحين في الشهور الماضية من بداية شهر مايو 2023 وحتى الآن هو الدقيق والزيت والأرز والملح فقط
قدّمت الجمعية التكافلية في كندا الدعم المالي، وهي جمعية سودانية في كندا تدعم الأعمال الطوعية، ليعود المطبخ إلى العمل وتوزيع الوجبات في المراكز التابعة للمنظمة. ومنذ 20 أكتوبر الماضي، لم يتوقف توزيع الوجبات. يحدّث «أ.م» «أتَـر»، أن برنامج الغذاء العالمي يوزّع الإغاثات على النازحين كل شهر، عبر مراكز المنظمة، إضافة إلى الهلال الأحمر الذي وزّع أدوية مرتين في جميع المراكز بدنقلا.
«نحن على علم باختلاف أوضاع النازحين في المحليات الأخرى، وتبايُن الدعم المقدم بينهم ونازحي دنقلا، لكن ليس بيدنا حلول حالياً، بسبب تدخّل الموظفين الحكوميين في الأمر، وقد يؤدّي تدخل أعضاء المنظمة إلى تعرّضهم للعنف والاعتقال إذا سلّطوا الضوء على المشكلة، أو حاولوا توزيع المساعدات بأنفسهم إذا تحصلوا على دعم للمحليات الأخرى»، يضيف «أ.م» .
يقول أحد المتطوعين في محلية البرقيق، طلب حجب اسمه، إنهم لا يستطيعون مواجهة المسؤولين والمديرين الأكبر درجة في الوظيفة، فهم من يتحكّمون في التوزيع ويوجّهون المتطوّعين بمنح كميات أقل.
وأخبر «أتَـر» بأن المساعدات التي وصلت من برنامج الغذاء العالمي، تتضمّن الدقيق والسكر والعدس والأرز والزيت وحليب بودرة للأطفال والملح والمكرونة والشعيرية، ولكن ما وُزِّع فعلياً على النازحين في الشهور الماضية من بداية شهر مايو 2023 وحتى الآن هو الدقيق والزيت والأرز والملح فقط. كذلك لا تصل المساعدات على نحو منتظم، وأحياناً بمعدّل مرة كل شهرين. «لا نعلم أين تذهب بقية المواد عندما تصل؟ أحياناً نراها تباع في الأسواق العامة بأسعار زهيدة»، يضيف.
وأكّد أن آخر مرة وُزّعت فيها الإغاثات على النازحين بمختلف مراكز الإيواء بمحلية البرقيق كانت في شهر يوليو، وحتى الآن لم تصل مساعدات أو ربما وصلت ولم يجرِ توزيعها، فهم لا يملكون أدنى معلومة عن وصولها أو عدمه.
نوتة
كتب المبعوث الأمريكي إلى السودان توم بريليو، على حسابه بتويتر، أنّ الجهات الفاعلة في العمل الإنساني بالسودان تشعر بقلق عميق من استمرار مفوضية العون الإنساني (الحكومية) في منع تسليم شحنات الإغاثة الطارئة إلى جميع أنحاء السودان. فبين أغسطس وأكتوبر، منعت اللجنة 520 شاحنة من أصل 550 شاحنة إغاثة إنسانية من مغادرة بورتسودان لتوصيل الإمدادات المنقذة للحياة إلى الولايات في جميع أنحاء السودان. وحثّ بريليو مجلس السيادة الانتقالي على توجيه لجنة المساعدات الإنسانية لنقل المساعدات من بورتسودان ووصولها إلى الناس في جميع أنحاء السودان.
نزحت الشابة «ل.ع» من أم درمان إلى محلية البرقيق، واستقر بها الحال بدار إيواء المدرسة التجارية. تقول متحدثةً لـ «أتَـر»: «استلمنا حقائب بها فوط صحية، لكن الموظّفين انتقصوا منها، ويقولون: خلاص كده كويس!»، وتضيف: «نحن نعيش في ظل تجاهل تام، حتى الحقائب التي كان يجب أن تُمنح لنا، تجدهم يتعاملون معها وكأنها بضاعة للبيع».
ويتوقّع النازحون في مراكز الإيواء قدوم المساعدات بداية هذا الشهر، لكنها لم تأتِ، ينتظرون قدومها حتى ولو كانت ناقصة لا تكفيهم، لكن يمكن أن تقضي احتياجاتهم المؤقتة. ومنذ يوليو الماضي وحتى الآن لم يتلقوا أي نوع من الدعم. كل يوم يحلمون بأن يأتي الغد بالجديد، لكن كل شيء يبقى على حاله.