أتر

الشّمس: محاولة أخيرة في مقامرة الزراعة

في ولاية نهر النيل، المَتمّة، ظلَّ الري بالاعتماد على بوابير الجاز «مضخّات الجازولين»، هو الخيار الوحيد للمُزارع لوقتٍ طويل، وهذا الخيار الوحيد لم يكن سيّئاً في اعتقاد المهندس الزراعي محمد أحمد جعفر، الذي يُعلّل ذلك بأن قُدرة البوابير وكفاءتها كانت كافية على الدوام، لريّ مساحات واسعة تمتدّ لعدة أفدنة. كذلك لم تكن تكاليف الصيانة الدورية التي قد يحتاج إليها البابور في الموسم الزراعي أمراً يفوق طاقة المُزارع، وفي مقدوره أن يُديرها جيداً ضمن تكاليف المواسم الزراعية، ومنها تكلفة وقود الجاز نفسه التي ظلّت مقبولة لسنوات طويلة، حتى جاء الوقت الذي حرّرت فيه الحكومة السودانية الانتقالية سعر الوقود والجازولين في العام 2021، ما أدّى إلى ارتفاع سعره، ومن هنا يرصد محمد جعفر كيف بدأ الري بالجاز يُمثّل مشكلة معقّدة في حسابات المُزارع.

عمل محمد جعفر في السابق في عدّة مؤسسات، أهمها الشركة العربية للإنماء الزراعي، وله خبرة 8 سنوات في القطاع المطري و10 سنوات في القطاع المرْوي. يُدير محمد جعفر حالياً عدداً من الأراضي الزراعية الخاصة بأسرته في منطقة ريف ود حامد، المتمة بولاية نهر النيل.

كان الريّ بالجازولين مُجزياً في حسابات المُزارع قبل تحرير سعر الوقود، لكن اليوم قد تصلُ تكلفة ريّ محصول البصل – الذي يُشتَهر به ريف ود حامد – إلى 40% من التكلفة الكلية لزراعته

متحدثاً لـ «أتَـر»، يقول جعفر، إنّ الريّ بالجازولين كان مُجزياً في حسابات المُزارع قبل تحرير سعر الوقود، لكن اليوم قد تصلُ تكلفة ريّ محصول البصل – الذي يُشتَهر به ريف ود حامد – إلى 40% من التكلفة الكلية لزراعته. تُشكّل هذه النسبة العالية أزمةً بالنسبة لهذا المحصول أكثر من غيره، وذلك بسبب تعقيدات عدة مُرتبطة بالسوق، ما قد يؤدّي إلى نسبة أرباح تقلُّ عن 20% في بعض الأحيان مع نهاية الموسم. لذا فإن تكاليف الجازولين مع عدم استقرار السوق، تجعل نشاط الزراعة في هذه المناطق نوعاً من المُقامرة، إذ يمكن للمُزارع أن يربح أكثر مما يتوقّع، وفي حالات كثيرة تكون خسارته من أشدّ الكوابيس ظلمةً. لكن رغم هذه التكلفة العالية للجازولين، تدبّر المُزارعون أمورَهم، مُتمسّكين باحتمالات الربح القليل الذي يكفي معيشة أسرهم.

بعد حرب 15 أبريل 2023 في السودان، تأثّرت الزراعة في المتمة وفي ريف ود حامد على نحو كارثي، فقد تعثّرت الأسواق وتغيّرت الطرق التجارية في غرب السودان، وفي مناطق تجارية وحيوية أخرى. أدّى هذا إلى هبوط سعر المحاصيل وخاصة البصل، الذي انحدر سعره إلى 5 آلاف جنيه فقط  للجوال الواحد، كما صاحب ذلك ارتفاعٌ كبيرٌ في سعر الجازولين إلى درجة تُهدِّد سبلَ عيش المُزارعين الذين تبيَّن لهم أنّ الاعتماد بالكامل على بوابير الجاز في الري لم يعد خياراً يُمكنهم التعايش معه، خاصة بعد تذبذب توفره، ومن هنا بدأوا في توجيه أنظارهم نحو خيار ثانٍ وهو الري بالطاقة الشمسية.

نوتة

منذ زمن بعيد، في ولاية نهر النيل كانت المَزارع والأراضي الزراعية تُروى باستخدام السواقي، والساقية هي آلة ميكانيكية مصنوعة من الأخشاب، وتُشغَّل بواسطة حركة دفع الأبقار، وكانت الأراضي الزراعية قرب النيل تُسمّى برقم الساقية، مثل “الساقية 24” التي توجد في منطقة ود حامد، المتمة.

اختفت السواقي منذ ستينيات القرن الماضي بسبب قصورها عن ري أراضٍ زراعية واسعة، إضافة إلى التطوّر الطبيعي، لتحلّ محلها “البوابير” أو المضخّات الميكانيكية التي تعمل بالجازولين. كان أشهر هذه البوابير هو “ليستر” المصنوع في إنجلترا، وحتى وقت قريب استمر تذمّر المُزارعين من أن بوابير اليوم المصنوعة في الصين والهند لا تُضاهي نصف جودة “ليستر” الإنجليزي الذي ما عاد يُستورد إلى السودان.

ظهرت الطاقة الشمسية الزراعية في المتمّة أوّلَ مرة قبل الحرب، لكن كانت لدى المُزارعين شكوكٌ كبيرةٌ حيالها، خاصة أن تكلفتها عالية وكانت تُقدّر بحوالي 1.5 مليون جنيه في عام 2020؛ كذلك ظهرت شكوك أخرى مُتعلّقة بقُدرتها على ضخّ المياه. ويَعتقد بعض المُزارعين أنها أقل قدرة من بوابير الجاز، كما توجد تفاصيل ميكانيكية وفنية أُخرى تُثير شكوكهم، وهم الذين اعتادوا على صيانة بابور الجاز بسهولة وسرعة نسبةً لأعطاله الواضحة والتي يمتلك فيها أغلب المُزارعين خبرةً جيدة، بينما يرى المُزارع في ريف ود حامد أنه قد يجد صعوبة أكبر في صيانة أعطال محركات الكهرباء التي تعمل بالطاقة الشمسية، وقد تستغرق وقتاً ومجهوداً ومالاً.

يقول محمد جعفر، إنّ هناك إقبالاً كبيراً على الطاقة الشمسية في ريف ود حامد هذه الأيام، وأسباب الإقبال قد تكون واضحة بسبب تكلفة بوابير الجاز، لكن يوجد عددٌ من الأسباب الأخرى التي ساعدَتْ في زيادة الإقبال عليها؛ منها أنّ المُزارعين استطاعوا التعرّف على مزايا الطاقة الشمسية على نحو أوسع. وينسب جعفر الفضلَ في ذلك للمُزارعين الرواد في المنطقة الذين اتجهوا إلى الطاقة الشمسية مُبكّراً، وبذلك قلّصوا الشكوك لدى غيرهم من المُزارعين. ومن تلك الأسباب أيضاً أنّ المُزارعين قد توصّلوا إلى حساب تكلفة الطاقة الشمسية بالنسبة للموسم الزراعي. ويُقدِّر المُزارع أنه رغم تكلفتها العالية في هذا الموسم، إلا أنه يمكن تعويضها في الموسم القادم أو الذي يليه، ما سيُؤدّي إلى حصوله بعد موسمين على نسبة ربح عالية بسبب تقليص تكلفة الجازولين، وهذا الأمر سيُعزّز من قُدرته على المنافسة في السوق، لأنه يَملك طاقةً شمسيةً مقارنة بالمُزارع الذي لا يزال يعتمد على بوابير الجاز. كذلك مثّلت الجهات المُموِّلة مثل البنك الزراعي وشركات تزويد الطاقة الشمسية التي تقدم برامج تقسيط بالتعاون مع البنك الزراعي عنصراً مهمّاً في إقبال المُزارعين وحصولهم على الطاقة الشمسية.

اليوم في ريف ودحامد، تُكلّف وحدات الطاقة الشمسية المتوسطة الحجم ذات الـ 12 لوحاً 550 وات، مع مضخة كهربائية بقدرة 5.5 حصان تكفي لري 8 أفدنة، حوالي 6.5 مليون جنيه، وهذا مبلغ عسير على أغلب المُزارعين في المنطقة. يُقدّم البنك الزراعي فرع ريف ودحامد، خدمات تمويل للمُزارعين للحصول على وحدات الطاقة الشمسية، وتأتي هذه الخدمات عبر برنامج التمويل الأصغر بسقف تمويل يصل حتى 6 ملايين جنيه، أو عبر تمويل أكبر يُساوي قيمة الرهن لدى البنك، ويُشرف على هذه الخدمات قسم الاستثمار في البنك الزراعي.

يواجه التمويل عدة تحدّيات، أشدها أهمية أن الأراضي الزراعية في حالات كثيرةٍ تكون غير مُقنّنة، أي ليست في الملكية الشخصية للمُزارع، وذلك لأن أغلبها وُزّع بطريقة أهلية في الميراث على الشيوع، من دون تسجيلها باسم المُزارع الحالي

منصف محمد خير، وهو رئيس قسم الاستثمار في البنك الزراعي فرع ريف ودحامد، يُخبر «أتَـر» بأن خدمات تمويل الطاقة الشمسية الزراعية قد بدأت في شهر أغسطس من العام الماضي، وقد أجاز بنك السودان المركزي سياسة الطاقة الشمسية في موجهات منح التمويل المصرفي للعام 2024م. يقول منصف إن هناك 54 مُزارعاً حصلوا على التمويل في ريفي ود حامد حتى الآن. ولكي يحصل المُزارع على التمويل، يتعيّنُ عليه أن يتقدّم بطلب للبنك، مع إرفاق عدد من المستندات، أهمّها تلك التي تُثبت ملكية الأرض الزراعية أو عقد إيجار لها لفترة لا تقل عن ستّ سنوات.

ويرصد منصف ما يُواجه هذا التمويل من تحدّيات أشدها أهمية، أن الأراضي الزراعية في حالات كثيرةٍ تكون غير مُقنّنة، أي ليست في الملكية الشخصية للمُزارع، وذلك لأن أغلبها وُزّع بطريقة أهلية في الميراث على الشيوع، من دون تسجيلها باسم المُزارع الحالي. وفي هذه الحالة يَنصح منصف بأن يسجّل المُزارعون جمعيات زراعية لها حقّ إدارة هذه الأراضي.

في ريف ودحامد، يوجد عددٌ من مزوّدي وحدات الطاقة الشمسية للمُزارع، ومكاتب وشركات. وإحدى هذه الشركات يُديرها صاحبها وهبي مبارك. يقول وهبي، مُحدّثاً “أتَـر”، إنّ الطلب على وحدات الطاقة الشمسية في المتمة وريف ود حامد عالٍ جداً، لدرجة عجْز المكاتب عن تلبية هذه المشاريع وتنفيذها، ويُضيف أن بعض هذه المكاتب التابعة لشركات توجد مقارها الرئيسة في مدن مثل شندي، قد استلَمَتْ بالفعل دفعات من الأقساط المالية من المزارعين عبر برامج التقسيط في الشركات؛ ويقول إن هذه الشركات تتّصل ببعضها أحياناً لتُمرّر لبعضها المشاريع التي عجزت عنها.

في السابق كان محمد جعفر يملك 6 بوابير جاز، تعمل على ريِّ مساحاته الزراعية، والآن لديه 3 وحدات طاقة شمسية وبابور جاز واحد، لا يزال في حاجة إليه، اثنتان من وحدات الطاقة الشمسية حصل عليهما عبر تمويل البنك الزراعي، وواحدة عبر التمويل الذاتي. يقول إن تكلفة خدمات التمويل عبر البنك تزيد عن التمويل الذاتي بحوالي نسبة 21.6%، النسبة التي يصفها  بـ “البسيطة” مُقارنة بفترة السماحية للتسديد للبنك، إذ يجري السداد للبنك على سنتين مقسّماً على 4 دفعيات كل 6 أشهر.

في هذه الأثناء، ما زال القليل من الجدل يدور بين المزارعين عن جدوى الطاقة الشمسية في الزراعة على المدى الطويل، ومن الواضح بحسابات بسيطة أنها تُقلّل التكاليف الزراعية، ومن ثم تزيد الأرباح وترفع من قدرة المُزارع على المنافسة في أسواق المحاصيل، وربما بطريقة ما تُغيِّر في معادلات السوق وأسعار المنتجات بالنسبة للمواطنين.

يرى محمد جعفر، أن أكبر مشكلات المزارعين حالياً في ظل الحرب هي التسويق، فالطاقة الشمسية وحدها ربما لن تُقدّم حلولاً مباشرة للسوق؛ رغم أنها تُوفّر قدرةً أكبر على الري، ومن ثمّ قدرة أكبر على زراعة مساحات كانت بوراً أيامَ الجاز.

لكن محمد جعفر يحكي أن المُزارع في المتمّة عموماً، يجد نفسه تحت ضغوط  تُجبره على تقليص المساحات المزروعة في الموسم رغم قدرته على تكاليفها، إذ لا ينبغي أن يستثمر في كميات كبيرة من المحاصيل التي – للأسف في حالات كثيرة – قد تبور في الأسواق مثل أرضها التي كانت بوراً، ما يُؤدّي إلى انخفاض سعرها إلى درجة تُلامس قيمة تكلفتها، ويُضاعف من الخسائر في مُقامرة الزراعة.

من شأن عدم استقرار الأسواق وانسداد بعضها، ودخول الوسطاء والسماسرة، أن يضع المُزارع في مواجهة موازنات صعبة بين أرضه وتكاليف الزراعة من تيراب وحرث وسماد وريّ وغيرها، ورغم تكاليف الطاقة الشمسية، تبقى حتى الآن أفضل محاولة في مقامرة الزراعة في ظل ظروف السودان المتقلبة، التي لا تُقهر.

Scroll to Top