أتر

الزراعة المنزلية: شيءٌ ما يُثمر

«الزراعة الأيام دي ناكل من خيراتها الحلوة (شمّام وعنكوليب)، وبعد أيام حنخُشّ على البطيخ. الباميا بتنتج بكثافة وبرضو الخُدرة، أما الأسود فعملنا منو سَلَطة عجيبة أمبارح، ومنتِج بغزارة.. دايرين نزرع تاني رِجْلة وجرجير. الطماطم والشطّة الخَدرة معَسَّمات في مكانهم. أها نسيت، التِّبِش إنتاجو برضو غزير وكذلك الكركدي»

هذه رسالة تُشبه جوّابات الزمن العتيق، من بابكر الوسيلة إلى صديقه الذي أقام في ضيافته بالقضارف وهو في طريق عودته إلى كرري بأم درمان. كان يسأله عن زراعته المنزلية، كما يسأله عن أهل بيته. يقول الوسيلة إنّ أحواض الخُدرة والباميا والجرجير كانت أكبر باعث على استمرارية الحياة في زمن الحرب.

انتشرت في الآونةِ الأخيرة الزراعة المنزلية في ظلّ ارتفاع أسعار الخضراوات، لصعوبة ترحيلها من مناطق الإنتاج إلى مناطق الاستهلاك، ولانعدام الأمن. لا يكاد يَخلو فناءُ منزلٍ في محلية كرري شمال أم درمان من أحواض الباميا والجرجير والخضراوات الزاحفة كالقرَع والعَجّور.

تحوّل كثيرٌ من العائدين إلى منازلهم في كرري من مُستهلكين إلى مُنتجين. ربما ساهم ارتفاع الأسعار في تنامي هذا الوعي المُحدث. هؤلاء الناس، مثلما كانوا في حاجة إلى ابتكار أساليب جديدة للبقاء؛ كانوا في حاجة أيضاً إلى رؤية شيء ما يُثمر.

كان أغلب العائدين يعتمدون في نفقتهم على مدخراتهم التي أنهكها التجوال، إضافة إلى التحويلات المالية التي تأتيهم من أقاربهم من المُغتربين. كان عليهم استنطاق هذه المساحات الصامتة من المنازل

عاد الأستاذ التيجاني عبد الرحمن إلى منزله في ود البخيت بعد رحلة طويلة من النزوح، وقرّر الاستقرار في بيته أياً كانت المآلات. بدأ بزراعة الخضراوات: الباميا والعَجُّور والقرع والفلفلية والجِرجير والخُدرة، في جوّ أشبه بعزلة الراهب جريجور مِندِلْ في دَيره الذي اكتشف فيه قوانين الوراثة. كان الحي خالياً من السكان، إلا من قلة قليلة يتقاسمون الطعام والشاي والقهوة ويتبادلون الأفكار.

متحدثاً إلى “أتَـر”، يقول الأستاذ التيجاني، إن أغلب العائدين كانوا يعتمدون في نفقتهم على مدخراتهم التي أنهكها التجوال، إضافة إلى التحويلات المالية التي تأتيهم من أقاربهم من المُغتربين. كان عليهم استنطاق هذه المساحات الصامتة من المنازل. أرسل إليه شقيقه البذور (التواريب) من عطبرة، وشرع فوراً في غرسها وتعَهَّدَها بالرعاية حتى بدأت تُؤتي أُكلها. فاض إنتاج القرع عن حاجته، حتى إن بعض جيرانه أشاروا عليه ببيع الفائض لتجار الخضراوات، لكنه رفض الاقتراح وفضّل توزيعه على جيرانه؛ بخلاف صاحب السوبر ماركت الذي يقطن بالقرب من التيجاني، فقد وجد في بيع الخضراوات بديلاً لدكانه الذي انخفضت مبيعاته حتى اضطرَّ إلى تغيير نشاطه.

أصبحت فكرة الزراعة المنزلية نقطةَ تحوّل أساسيّة في الاقتصاد المنزلي، فكرة انتقلت من شخص إلى آخر حتى أصبحت أسلوب حياة في ظروف معقدة.

بقي سامي يوسف شهورَ الحرب العشرين بمنزله بود البخيت، وقال إنه بعد نزوح الغالبية من سكان المنطقة، دخلت كثيرٌ من السلع في بند الكماليات، وانخفض الطلب عليها حتى كاد ينعدم. وكان قد غيَّر نشاط دكانه أولاً إلى تصنيع الزبادي وبيعه، ثم بدأ في زراعة الخضراوات للاستهلاك الذاتي، لكنه فوجئ بغزارة إنتاجها من القرع والباميا والأسود، فبدأ في تسويقها، في حين كانت زوجته تبيع المُتبقّي منها من المنزل. يقول سامي في حديثه لـ «أتَـر»، إنه ظلّ يعتمد على مبيعاته من الخضراوات لتسعة أشهر منذ مارس 2024 إلى نهاية العام.

أصبحت فكرة الزراعة المنزلية نقطةَ تحوّل أساسيّة في الاقتصاد المنزلي، فكرة انتقلت من شخص إلى آخر حتى أصبحت أسلوب حياة في ظروف معقدة.

على سبيل المثال، بدأ فتحي علي، زراعة الخضراوات بإيعاز من جاره سامي. في زيارة عادية، اقتلع سامي قطعة من بلاط حوش جاره، وغرس محلها بذرتَي باميا، ما عدَّه صاحب الدار تخريباً؛ لكنه بعد أيام اقتلع البلاط كله وغَرَسَ مكانه مزيداً من بذور الباميا والقرع والعجّور والأسود. لقد أعجبته المساحة الخضراء في بيت جاره فحذَا حذوه؛ هو الآن يبيع البذور ويُقدِّم نصائح لبقية العائدين عن طرق تحضير التربة، وتوقيت زراعة كل نوع ونحو ذلك من الحزم التقنية.

لم ينزح عمر عبد الهادي، بدوره، من أم درمان، إذ ظلّ يتنقل من بيت الأسرة الكبيرة في الحارة الثامنة بالثورة، ومنزل أسرته الصغيرة في ود البخيت. هو رجل أمدرماني أنيق يُحبّ الزراعة وتربية الحيوانات المُنتِجة، لكنه لم يجد مساحةً كافيةً في بيته الصغير، فاستأذن جاره أن يسمح له باستغلال المساحة الخالية من حوش منزله فأذِن له.

أحضر عمر الطمي من ضفة النيل القريبة من مسكنه، وشرع في تحضير التربة، فجهّز الأحواض والسَّرَابات وبدأ يرمي التواريب ويرويها انسيابياً؛ ويُحدّث «أتَـر»، أن سبب التفكير في الزراعة المنزلية كان ترويحياً في المقام الأول لملء وقت الفراغ بمشروع مُفيد، ولأنه يُحبّ الخضرة والجمال؛ ثم بدافع الاكتفاء الذاتي من الخضروات. وينوه عبد الهادي إلى ضرورة بذل مزيدٍ من الجهود الإعلامية لتبصير الناس بضرورة الزراعة المنزلية وجدواها، مُقترحاً إقامة جمعيات لهذا الغرض على مستوى الأحياء، وتبنّي الشباب لمثل هذه المشروعات، إضافة إلى جمعيات على مستوى المحليات لنشر ثقافة زراعة الأشجار المُثمرة بالشوارع داخل الأحياء مثل المانجو والليمون والنخيل.

ويَخلُص عبد الهادي إلى أن التجربة أكسبته معرفة بكيفية زراعة الخضراوات، وكذلك معرفة مواقيت زراعة كل نوع منها؛ ويقول إنه تبادل المعلومات مع كثيرٍ من المُنتجين، وكانوا مُتعاونين عبر مدّه بمعلومات كثيرة كان يجهلها. وعن مصدر التواريب، يقول إنه تحصَّل عليها من الأسواق المحلية ومن بعض المُسوِّقين عبر «فيسبوك».

وعن مواقيت زراعة كلّ نوع من الخضراوات، يروي أن هناك مواقيت صيفية ملائمة لزراعة الباميا والخُدرة والرِّجلة، إلى جانب أنواع أخرى؛ وهناك مواقيت شتوية تُزرع فيها الطماطم والفجل والعجّور والشمار والفلفلية والشطة الخضراء والجرجير والكوسة والجزر، وغيرها من الخضروات.

عبد العزيز مبارك من القلة التي لم تُبارِح المكان، وبقي في منزله القريب من ضفة النيل. المنزل الذي تُزيِّن أشجار النخيل حيّزاً مقدّراً من مساحته. يقول إنه اضطرّ لنقل الماء باستخدام (درداقة) لسقاية أشجار النخيل عند انقطاع المياه عن الشبكة العامة بعد القصف الذي تعرّضت له محطة المنارة بحي الحتّانة، وأفضى إلى خروجها عن الخدمة لوقت طويل. وكان قد زرع بجانب أشجار النخيل بعض الخضراوات: مثل القرع والشطة الخضراء والفجل والباميا، التي تُمثّل القاسم المشترك في أغلب تجارب الزراعة المنزلية؛ إلا أنّ تجربة عبد العزيز تختلف عن غيرها، باستخدامه الأسمدة العضوية التي يُعالجها بالماء قبل تجفيفها لتقليل تركيز المادة القلوية بها، لتكون صالحة للاستخدام. ويَنتُج عن هذه الطريقة مردود مذهل يظهر في مذاقات الخضراوات المُنتَجة.

Scroll to Top