أتر

ابتكارات النازحين في سواقي القاش: كيف ازدهرت الزراعة البستانية

نشأ بابكر سيد أحمد (69 عاماً) في السواقي الجنوبية بمدينة كسلا، التي أفنى فيها والده ربيع عمره. خلال جيلين، عاشت الأسرة حالةً من الاكتفاء، فقد كانوا يزرعون الموالح والفواكه وأصناف الخضروات بمواسمها المختلفة، ويُربّون الأغنام والخراف والدواجن والأبقار، ويأكلون منها ويشربون من إنتاج هذه وتلك، ومن ثم يذهب فائضها إلى السوق لتغطية احتياجاتهم الأخرى. ومع مضيّ السنوات والتوسّع السكّاني والعمراني، تحوّلت واجهات السواقي على الطرق الرئيسة إلى أراضٍ سكنية، وبعد أن كان يسكنها مزارعو السواقي، جذب إليها نقاء الجو ووفرة الخدمات والهدوء سكاناً من غير المزارعين، كما يُخبر سيد أحمد في حديثه إلى «أتَـر».

استقبلت كسلا منذ بداية الحرب، موجاتٍ من النازحين من الخرطوم والجزيرة، وقد انخرط جزء منهم في الزراعة بالسواقي على جانبي القاش، ونقلوا خبرات وتقنيات مختلفة في الزراعة، لكن أنشطتهم كما شهد سيد أحمد قد اقتصرت على الزراعة قصيرة الدورة فقط، مثل زراعة الخضروات، دون الفواكه التي تطول دورات إثمارها.


تُعَدُّ الزراعة البستانية (السواقي)، على ضفتي نهر القاش الموسمي في مدينة كسلا، من الأنشطة الزراعية التقليدية والمهمة التي أسهمت في تطوير المنطقة، وتُروى بساتينها ومَزارعها من نهر القاش، الذي ينبع من المُرتفعات الإريترية ويمرّ عبر مدينة كسلا خلال موسم الفيضان.

تاريخياً، أُسِّس مشروع القاش الزراعي في عام 1870 خلال فترة الحكم التركي المصري للسودان، بهدف تنظيم مياه النهر واستغلالها في الزراعة. في عام 1925، جرى تطوير نظام الري والزراعة الحالي بواسطة شركة أقطان كسلا أثناء الحكم الثنائي للسودان، ما أسهم في زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية مثل القطن والذرة والقمح والفول السوداني.

وتُعتبر بساتين السواقي المحيطة بنهر القاش من المعالم السياحية البارزة في المدينة، ومحطة جاذبة للزوّار بجمالها الطبيعي وتنوّع محاصيلها. وتؤدّي هذه البساتين دَوراً مهماً في الاقتصاد المحلي من خلال توفير فرص عمل للعمّال الزراعيين واستقرار الأمن الغذائي.

وبطبيعة الحال، لا تقتصر الزراعة البستانية على الخضروات وحدها، فقد اشتُهرت أسواق كسلا وطرقاتها بعدة أنواع من الفواكه المزروعة محلياً، مثل الموز والبرتقال، والمانجو. ومنذ البداية، اعتمد مزارعو السواقي الجنوبية والشمالية على زراعة الفواكه التي تطول دورة إنباتها حتى الإثمار، فاتجهوا لزراعة البرتقال والقريب فروت والليمون والجوافة ولا سيما الموز الذي تصّدرت الولاية إنتاجه لفترة طويلة، قبل أن تهبط للمرتبة الثانية في البلاد في إنتاج الموز بعد أن أزاحتها ولاية سنار منذ عقد ونيف. «بُرتكان كسلاوي» بصوت جهور ترِنّ هذه العبارة في أسواق بيع الفاكهة والخضروات في جميع بقاع السودان، ويتميز بلونه الأخضر المائل إلى الاصفرار وبحجمه المستدير الذي يشبه في تكويره فاكهة اليوسفي.

على مرّ السنين، شهدت الزراعة البستانية في كسلا تطوّراً ملحوظاً، وأُدخلت تقنيات زراعية حديثة وحُسّنت أنظمة الري لزيادة كفاءة استخدام المياه. وأنشِئت وحدات لبحوث الخضر في محطات البحوث الزراعية بالمنطقة، ما ساعد في تطوير إنتاج محاصيل الخضروات وتحسين جودتها. وتوارثت العمل في سواقي كسلا أكثر من خمسة أجيال، كما يفيد أصحابها «أتر»، معظمهم قدموا من شمال السودان قبل الاستقلال، ناقلين خبراتهم في الزراعة البستانية.

أسهم النزوح في نقلة من ناحية استحداث طرق الزراعة والري وزراعة محاصيل لم تكن تُزرع من قبل – إما لعدم تسويقها أو غيابها عن قاموس الثقافة الغذائية للمنطقة – مثل الكوسة، والبقدونس، والملفوف وغيرها

اتجه عددٌ من نازحي الخرطوم إلى العمل في بساتين نهر القاش وسواقيه، أما المُتمكّنون مادّياً منهم فاستأجروا بدَورهم سواقيَ وبدأوا العمل. أسهم ذلك في نقلة من ناحية استحداث طرق الزراعة والري وزراعة محاصيل لم تكن تُزرع من قبل – إما لعدم تسويقها أو غيابها عن قاموس الثقافة الغذائية للمنطقة – مثل الكوسة، والبقدونس، والملفوف وغيرها. ومع استقبال ولاية كسلا موجات نازحين من ولاية الجزيرة، بُعيد اجتياح قوات الدعم السريع في ديسمبر 2023، وتبعتهم مجموعات من ولاية سنار بعد سقوط بعض مدنها، اتجه المزارعون منهم إلى زراعة الخضروات، مُتّبعين نهجهم في مَزارعهم التي اضطرّوا لتركها خلفهم، وأدخلوا أنواعاً جديدة من التقاوي والأسمدة والمبيدات التي طوَّرت أصنافاً كانت موجودة لكن بجودة أقل وإنتاج أضعف. ووفقاً لرصد مراسل «أتَـر»، شهدت أسواق الخضروات في الولاية إنتاجاً ضخماً للجَزَر والخضروات الأخرى، ما أدّى إلى حالة من التوازن في السوق من حيث العرض والطلب، في ولاية تعاني ضغوطاً متزايدة في تلبية حاجة الأسواق من الخضروات والفاكهة، بالتناسب مع ازدياد الكثافة السكانية وخروج عدد من المناطق المُنتجة بسبب الحرب.

وبحسب المُزارع سعيد محمد، فإنّ ولاية كسلا قد سجّلت اكتفاءً تاماً من عدد من أصناف الخضروات مثل البصل والعَجّور والخيار، وتُستجلَب كميات قليلة من الفلفلية والشطة الخضراء وغيرها من بعض المناطق في القضارف والجزيرة وسنار. وقال مُحدّثاً «أتَـر» إنّ إنتاج ولاية كسلا يزوّد ولاية البحر الأحمر يومياً بما لا يقل عن أربع شاحنات «جامبو» من الخضروات.

استحدث المزارعون النازحون تقانات الزراعة والري لرفع الإنتاج وتحسين جودته، وأدخلوا تقنية الري بالتنقيط والري بالنوافير التي كانت تُستخدم فقط في بعض المشاريع الكبيرة، إضافة إلى أنظمة توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية، وإنشاء المشاتل والبيوت المحمية التي أحدثت نقلة في أساليب الزراعة ووفرت إنتاجاً عالياً في وقت أقل.

ستساهم هذه التقنيات، إضافة إلى التقاوي والأسمدة المستوردة، على نحوٍ أكثر فاعلية عند توطينها بالولاية التي تكتفي بالإنتاج الموسمي، وتُعوّض الفاقد الذي يُستورد بسبب اختلاف مواسم المناطق الأخرى في البلاد، ما يؤدّي إلى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية

متحدّثاً إلى «أتَـر»، يقول سعيد محمد سامي – وهو مزارع وخبير في مجال البيوت المحمية – إنّ هذا التوجّه أدى إلى زيادة الناتج من الخضروات التي كانت تحصل عليها ولاية كسلا في غير موسمها من الولايات الأخرى، وأحياناً تُستورَد من خارج البلاد. ورغم أن البيوت المحمية كانت موجودة منذ وقت طويل، إلا أنّ المُزارع المَحلّي لم يجرؤ على خوض التجربة إلا بعد انتشارها في الآونة الأخيرة عند المزارعين الوافدين من الولايات المنكوبة. ويرى سعيد أنّ ما حدث سيعود بفوائد كبيرة على المدى البعيد، وربما يجعل الولاية رائدة في تصدير الخضروات حال انتشار تقنية البيوت المحمية على نحوٍ أوسع.

ويرى المهندس الزراعي أحمد مدثر، أنّ هذه التقنيات، إضافة إلى التقاوي والأسمدة المستوردة، ستُسهم على نحوٍ أكثر فاعلية عند توطينها بالولاية التي تكتفي بالإنتاج الموسمي، وتُعوّض الفاقد الذي يُستورد بسبب اختلاف مواسم المناطق الأخرى في البلاد، ما يؤدّي إلى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية. ويؤكّد في حديثه إلى «أتَـر»، أنّ زراعة أكثر الأصناف استهلاكاً، مثل الطماطم، في غير موسمها باتّباع تقنيات البيوت المحمية، ستكون أقل كلفة للمزارع والمستهلك على حدّ سواء.

وبحسب متابعة مراسل «أتَـر»، يشهد سوق غرب القاش بكسلا وسوق حلفا الجديدة نموّاً واسعاً وانتشاراً لمحلات التقاوي والأسمدة وشركات خدمات الطاقة الشمسية والبيوت المحمية.

تَختصِر الشتول الجاهزة الوقت والجهد والمال، بدلاً عن دفن التقاوي وانتظار الإنبات وما يتبع ذلك من حراسة ومراقبة من الأمراض والحشرات

متحدثاً لـ «أتَـر»، يقول محمد عبد الله الجعلي، صاحب أحد مشاتل الخضروات في كسلا، إنه في السابق كان يشتِل الخضروات لمَزارعه أو عند الطلب لمُزارعين آخرين، لكن مع التوجّه الجديد للمزارعين الوافدين أصبحت مشاتله لا تكفي الطلب من الشتول، وهذا ما شجّع على إنشاء مشاتل تتسلّم من المزارع التقاوي التي يرغب في شتلها ثم يتسلّمها شتولاً. «وفّرت هذه العملية وقتاً وجهداً كبيراً للمُزارعين، فبدلاً عن دفن التقاوي وانتظار الإنبات وما يتبع ذلك من حراسة ومراقبة من الأمراض والحشرات، تَختصِر الشتول الجاهزة الوقت والجهد والمال»، يقول الجعلي.

خاض عبد الرحمن عوض سعد، تجربة توطين صناعة مدخلات الإنتاج الزراعي بإنشاء مصنع للأسمدة العضوية، وهو الذي فقد بسبب الحرب مصنعين في الخرطوم بحري، وقدّر خسارته فيهما، بما يقرب من المليار جنيه سوداني. ورغم هذه الخسارة الفادحة يقول عوض في حديثه لـ «أتَـر»، إنه أثناء استمرار الحرب وصلت إلى ميناء بورتسودان ماكينتان لتصنيع سماد (كومبوست)، وهو السماد العضوي الأكثر انتشاراً واستهلاكاً، كان قد طلبهما سلفاً لتركيبهما في مصنعَيه بالخرطوم. وفور وصولها نَقَلَهما إلى مدينة كسلا وباشر إنشاء مصنع للسماد العضوي بالولاية، وتبعته بعد ذلك عديد من المصانع الصغيرة. ويأمل سعد أن يعوّض فاقد إنتاج المصانع المتوقفة بسبب الحرب وتوقف الاستيراد.

وعند استفسار مراسل «أتَـر»، عن أسعار بعض الخضروات في مدينة كسلا خلال جولته على مواقع الإنتاج، علم أن سعر كرتونة الطماطم يتراوح بين 12.000 و15.000 جنيه، أما الفلفلية فقد بلغ سعر الأردب منها (جوالان صغيران) 60.000 جنيه، وسجّل أردب الباذنجان (الأسود) سعراً يتراوح بين 35,000 و40.000 جنيه، وبلغ سعر أردب الخيار 25.000 جنيه، بينما سجّل أردب البصل الأحمر 150.000، ويُذكر أن الأخير قد ارتفع سعره بسبب اقتراب انتهاء موسم زراعته في الولاية.

لكن لم يكن الأمر يسيراً على إطلاقه، فقد واجَه المزارعون النازحون بعض التحدّيات. منها ما شهدته تجربة المزارع يس عبد اللطيف، الذي نزح من منطقة شرق النيل بولاية الخرطوم، إذ حدّث «أتَـر» بأنه قد عانى من صعوبة الحصول على أراضٍ قريبة من مناطق التسويق، فالمناطق البعيدة ترفع تكلفة الإنتاج بسبب الترحيل وارتفاع تكاليف العمالة، ما دفعه إلى استئجار ثلاثة أفدنة في حلفا الجديدة التي تتميّز بسهولة التسويق، إذ يشتري التجّار من المُزارع مباشرة.

على الرغم من التحديات التي تُواجه الزراعة في المنطقة، مثل التغيّرات المناخية وتأثيراتها على تدفّق نهر القاش، ما زالت الجهود المُستمرّة لتطوير القطاع الزراعي وتحسين البنية التحتية للري، تُسهم في استدامة الزراعة البستانية في كسلا وتعزيز دَورها في الاقتصاد الوطني.

Scroll to Top