
في بلدتَي أم بيّوض والدّاقوي المُتجاورتَيْن على مسافةٍ تستغرق نصف ساعة سيراً على الأقدام، وتتبعان إلى محلية التضامن بولاية جنوب كردفان، تحدّت المُزارعتان حوليّة وآمنة بيئتهما القاسية، وقسمتا زراعتهما الموسم المنصرم (الخريف) بين السمسم والذرة. في عدد سابق من «أتَـر» روينا قصة زراعتهما، والآن نروي قصة الحصاد.
تجلس آمنة في قُطّيتها على ضوء القمر، وهي تتأمّل في حصاد محصولها الذي تولّته بالرعاية لموسم كامل. تقول لـ «أتَـر» إنّ مقدار ما جناه المُزارعون والمُزارعات من الحصاد هذا الموسم ليس كما توقّعوا، بسبب عدم حصولهم على المبيدات الحشريَّة، وقد أضرَّت الأمطار بمحصول السمسم على خلاف محصول الذرة. تُوافقها حوليَّة الرأي، بأنها في البداية كانت تتوقّع نجاح محصول السمسم بالتحديد، إلا أنّ غزارة الأمطار قد أفسدت المحصول. بذلك، فإن محصولهما من الذرة قد فاق توقّعاتهما، بجانب الفول السوداني والويكة. وتُحدّث حوليّة مراسلة «أتَـر» قائلة: «في البداية كان محصول السمسم ينمو جيداً، إلا أننا لم نحصد منه ما تمنّينا. هذه السنة هي سنة ذرة فقط».
محلية التضامن بجنوب كردفان، هي محلية زراعية في الأساس، كأغلب مناطق ولاية جنوب كردفان، يعتمد معظم مُواطنيها على الزراعة لكسب العيش والغذاء، مع اعتماد جزئيّ على الرعي. يزرع سكّان المحلية في الخريف، ويُخزّنون الإنتاج لبقيَّة مواسم السنة. تحدُّها من ناحية الشمال ولاية النيل الأبيض، ومن الجنوب ولاية أعالي النيل في دولة جنوب السودان، وغرباً محلية العباسية، ومن ناحية الجنوب الغربي محلّية أبو جبيهة.
تُقدّر المساحة المزروعة، الموسمَ المنصرم، بحسب معلومات تحصلت عليها “أتَـر” سابقاً، من المكتب الزراعي لمحلية التضامن بمليون فدان، منها ستمائة ألف فدان داخل التخطيط، يملكها تجّارٌ لهم رؤوس أموال كبيرة، كان معظمها يُزرع في السابق، لكن هذا العام زُرِعَ منها 30٪ فقط بسبب الحرب، لأن أغلب الزُّرّاع من خارج الولاية. الأربعمائة ألف فدان الأخرى، تُوجد خارج التخطيط، وأغلبها لمواطنين ذوي دخل محدود، وقد زُرِعَ منها هذه السنة 50٪.
تحفُّ منطقتي “الداقوي” و”أم بيّوض”، في محلية التضامن، هضابٌ وسلاسلُ جبلية ممتدّة بحدّ البصر. وقد سَلِمت من نيران حرب 15 أبريل، بينما لا تزال تداعياتها تعصف بحياة المواطنين.
قصة الحصاد
سوف أذهب للحصاد معك، لكن حين تنضج محاصيلي ينبغي لكِ الحصاد معي
حصدت آمنة السمسم بعد خروج نوّاره، واشترَتْ الجوالات الفارغة والغرابيل. تأخذ آمنة ما يكفي من الطعام ليومين أو ثلاثة، وتذهب في رحلة إلى الحصاد بمُساعدة الأهل والجيران والمُزارعات الأُخريات، اللائي لم تنضج محصولاتهنّ بعدُ، أحياناً مُقابل المال، وعلى الأغلب تطوّعاً منهن، على خلاف المُزارعين من الرجال الذين يُحضِرون العُمّال من مناطق بعيدة لحصاد المحصول. تقول آمنة إنّ الواحدة منهن تقول مثلاً: «سوف أذهب للحصاد معك، لكن حين تنضج محاصيلي ينبغي لكِ الحصاد معي». كذلك تعمَدُ آمنة وحولية ورفيقاتهما وبعض الأهل إلى مساعدة أزواجهن في حصاد المحاصيل.
عادةً ما يكون حصاد المساحات الصغيرة بالأيدي، والمساحات الكبيرة بالآليات. أما حولية فقد حصدَتْ نصف محصولها بالمنجل، ونصفه الآخر بالآلة.
رغم التحديات، كان حصاد آمنة من محصولَي الذرة أعلى من السنة الماضية، وتتوقّع أن تُغطي إنتاجية الذرة حاجة محلية التضامن وتفيض عنها للولايات الأخرى، لكنها تتمنّى أن لا يترك المزارعون والمزارعات مجالاً للغفلة، وتُفضّل أن يظلّ محصول الذرة وعائده في ولاية جنوب كردفان وحدها، بسبب ما واجهتْه المنطقة من صعاب خلال السنتين الماضيتين. «قبل فترة قليلة كُنتُ أشتري ملوة الذرة بسعر باهظ جداً يصل إلى 9 آلاف جنيه من مكان يُعتبر مصدرَ زراعتها، وتَراوَحَ سعر الجوال منها في محلية التضامن بين 45 و50 ألف جنيه، أما السمسم فقد تراوح سعر جواله بين 110 و115 ألف جنيه»، تقول آمنة مُعرِبةً عن تخوُّفها من ارتفاع أسعار المحاصيل مرّةً أخرى.
وعلى الرغم من أنّ المزارعين لم يتحصّلوا على مُبيدات حشرية، إلا أنّ آفة “البودا” لم تُؤثّر على محصول آمنة من الذرة، فقد ابتكر المُزارعات والمُزارعون في جنوب كردفان طريقةً جديدةً لمُقاومة الآفات والحشرات، بأن يُبلّ نبات “الحرجل” في المياه لمدة يوم كامل، ثم يُرشّ على الزرع بواسطة السعف، وقد وجدوا تلك الطريقة ناجحة للغاية.
ورغم التحديات الأمنية والاقتصادية، تُصرّ آمنة على الزراعة في السنة القادمة أيضاً، وتُضيف أنها لن تترك أرضها أبداً حتى ولو ماتت في سبيل ذلك، وستزرع الذرة والفول والويكة في موسمها القادم الذي ستبدأ التجهيزات له من شهر أبريل. أما حولية فإنها ستزرع السمسم فقط في موسمه القادم الذي ستبدأ تجهيزاته من شهر مايو، وتُعلِّلُ ذلك بأنها تُريد التعويض عن قلّة حصادها منه هذه السنة.
وعلى الرغم من أنّ المزارعين لم يتحصّلوا على مُبيدات حشرية، إلا أنّ آفة «البودا» لم تُؤثّر على محصول آمنة من الذرة، فقد ابتكر المُزارعات والمُزارعون في جنوب كردفان طريقةً جديدةً لمُقاومة الآفات والحشرات، بأن يُبلّ نبات «الحرجل» في المياه لمدة يوم كامل، ثم يُرشّ على الزرع بواسطة السعف، وقد وجدوا تلك الطريقة ناجحة للغاية.
اعتمد المُزارعون في جنوب كردفان في الموسم المنصرم على أنفسهم دون دعم من البنك الزراعي، وكذلك يتوقّعون أنه لن يدعمهم السنة المقبلة، كما تخبر آمنة وحولية «أتَـر».
نصبر أنا ولا مهانة في الجَنَى
تملك آمنة أرضاً تنامت على مراحل: وَهَبَها والدها قطعة أرض، ووهبها عمّها أخرى، واشترت الثالثة من عملها الحر. أما حوليّة فقد اشترت أرضها جميعها بنفسها. الأموال التي تَجنيها آمنة من عائد الموسم تشتري بها ذهباً، وتحتفظ به حتى الموسم الذي يليه وديعةً لتَبيعه مرّةً أُخرى، وأحياناً لا تحتاج إلى ذلك، وأحياناً أخرى تشتري بمال المحصول بعض الماشية.
ترى آمنة أن الناس ليسوا سواسية، قائلة: «لسنا نساء الجلّابي»، أي أنّ الراحة ليست دائماً بمقدورهنّ، فهي تزرع وتُعدّ الطعام وتغسل الملابس. إنّه الصبر الذي تُحافظ به على استدامة أسرتها، إذ يؤدّي أي فرد منها عمله.
تستدعي آمنة مَثَلاً تعلّمته منذ الصغر «نصبر أنا ولا مهانة في الجَنَى»، أما حولية فتقول في ذات المعنى: «القلب حار، ولا بدّ من الصبر، ولا نعرف طريقة غير هذه»؛ وتضيف أنها تفرح عندما ترى حقولها، وتذهب لتفحّصها أكثر من مرة خلال النهار.
الناس في أم بيّوض والدّاقوي يأكلون من حصادهم، يَستيقظون باكراً، يُحمِّصون الفول السوداني على النار، ثم يُعِدّون الشاي الأحمر ليتناولونهما معاً، وكذلك يُحمّصون السمسم ثم يطحنونه مع إضافة قليل من السكر له، تقول آمنة: «ليصبح طعمه مثل الطحنيّة».
الناس في الدّاقوي عادة ما يَتناولون التقَليّة والنِّعيميّة في الإفطار، ثم تتجمّع النساء في بيت واحد، وكل منهن تأتي حاملة طعامها ليأكلنه معاً، وكذا يتجمّع الرجال والشبان في «الديوان». وفي الغداء عادةً ما يتناولون العدس والبامْبَي إضافة إلى الخضار. وفي يوم السوق، الاثنين من كُلِّ أسبوع يتناولون اللحم والرغيف. تقول آمنة بفخر: «كلّ حاجة ناكلها بننتجها من مكاننا إلا اللحم»، وتستدرك على الفور: «اللحم ذاتو حقّنا».
أما بالنسبة للزراعة الشتوية فتَزرع النساءُ الفاصوليا، والحِنيطير «اللّوبا عفن»، والطماطم، والعدسية، والعَجّور، ليَحصدن مرّتين في السنة.
في بيّوضة والدّاقوي، عندما يُسافر الطفل إلى ولاية النيل الأبيض بصحبه والدَيه، تُحمل الأم صُرّة وتضع بداخلها حفنة من التراب، تقول الواحدة منهن إنّ طفلها حين يبكي ويحنّ إلى موطنه، يشتمّ ترابَ بلده، فيهدأ قلبه ويتوقّف عن البكاء. إنه التراب ذاته الذي ينمو فيه النبات، وتخضرّ فيه المحاصيل.