
“أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة”.
من أغنية «نار الضلع» للفنانة مروة الدولية
فما الكُونِكا إذن؟ تَجمَع اللفظةُ، في أغنية القونة المشهورة، بين دلالات المكان والوظيفة والحال، وهذا مصدر بلاغتها، فهي موقعٌ كبيرٌ لتجميع مياه الصرف الصحي جنوب الخرطوم جوار حي مايو. وكان الحي – منذ نشأته في حوالي 1970 في خلاءٍ خالٍ من الجِيرة جنوبَ ما كان يُعرَف بـ «الحزام الأخضر» سوى قرية عِدْ حسين – ملاذاً لطالبي المأوى ممن تقطّعت بهم السبل في بطن المدينة. وقام أوّل أمرِه، كما قامت ديوم الخرطوم في عصرٍ سلف، فوق النّزع الجبريّ على موزاييك قومي/ لغوي؛ ففيه حي قُورُو، وحي تِبِن، وحي عرب، وحي مساليت، وحي نوبة، وحي فور، وحي القرعان، وحي فلّاتة. واستمرّ «عشوائي» لمّا يكتمل تخطيطه السكني، ولمّا يخترقه سلطان الدولة بحقّ، حتى اليوم، تكتظّ في مساحته المحدودة بأربعين كيلومتراً مربعاً حوالي مليون نفْس بحسب الإحصاء السكّاني لعام 2008. ونشأت في حي مايو أول مدرسة ابتدائية في العام 1973، ثم تلتها أخرى، وظلّ هذا حاله حتى العام 1989. ثم تولّت منظّمة الدعوة الإسلامية أمر التعليم فيه صدَّاً للتبشير المسيحي وتعميراً لإخاء «إسلامي» في حزام الخطر هذا؛ المهمّة التي شارك فيها الدكتور عبده مالك عالم سيمون مستشاراً، فتوسَّع التعليم المدرسي حتى صارت المدارس حوالي الستّين مدرسة (الانتباهة، 5 أكتوبر 2021). ومن هذه المهمة خرج الدكتور سيمون بكتاب تناولنا بعضاً من درسه في الحلقة الأولى من هذه السلسلة.
اجتمعت في مايو نفوسٌ من مصادر شتى، الجامعُ بينها أنها فائضٌ بشريّ في مدينةٍ شحيحة الموارد، رصَد منها الدكتور كمال محمد جاه الله الخضر (مركز البحوث والدارسات الأفريقية، جامعة أفريقيا العالمية) ضمن عمل ميداني في العام 2008/2009: عمّال المنطقة الصناعية الخرطوم الذين كان يأويهم كرتون الخرطوم 3 جهة الصهريج في شارع الغابة؛ عشش فلاتة الذي صار بالإعمار الجديد حي النزهة، كرتون سوبا الكبير والذي كان يضمّ العمالة المهاجرة التي جرى تشغيلها مؤقتاً في تشييد مباني مستشفى سوبا الجامعي والأبحاث البيطرية وكلية علوم الغابات والمراعي ومرافق حكومية أخرى في مواقع أخرى في العاصمة وجرى ترحيلهم إلى مايو في 1972؛ كَمْبو بُرّي الذي كان يضمّ عمّالاً في الهيئة القومية للكهرباء؛ متفرّقين من عشوائيات نشأت في جهة سباق الخيل واللاماب.
كذلك توسّع حي مايو أيّما توسُّع بالنازحين من الجفاف والتصحّر الذي أصاب إقليمَي كردفان ودارفور ضمن جفاف حزام الساحل في 1983-1985 والحرب المتطاولة في جنوبي السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ودارفور، فانضمّ إلى فائض الحضر فائضٌ أعظم من الريف الحربي إلى جانب أقوام مهاجرين من أقاليم حربية مجاورة، من يوغندا وأفريقيا الوسطى والكنغو الديمقراطية وتشاد. رصَد الدكتور كمال محمد جاه الله الخضر، وهو عالم لسانيات، بين مجتمع مايو حوالي 99 جماعة قومية، و60 لغة (منها 7 من مجموعة وسط وغرب أفريقيا، 28 من مجموعة جبال النوبة، 5 من المجموعة الدارفورية، 11 من مجموعة جنوب السودان، إلى جانب العربية).
أما دلالتا الوظيفة والحال، فإنهما بلاغة غليظة، الكُونِكا بحيرة للصرف الصحي، تُخمِّر الفضلات البشرية، وساكنُها لا لزومَ له، «كلبة ميتة» كما تنعته الأغنية، فهو كما الكُونِكا ذاتها؛ إخراجُ المدينة الذي هو جزءٌ منها لكن لا موقعَ له في هذا الكلّ. تختفي الفضلات البشرية تحت الظروف الحضرية الميسورة في جُبٍّ غامضٍ متى ما انبجست من الجسد البشري سِيد الشِّي، فالجالسة على الكابنيه تضخّ الماء بدفع محبس لامع على الغائط الذي لا تكدِّر ناظرها به وتغتسل، فينحدر به الماء النقيّ في أنبوب يزعج منه صوته، ويعود الكابنيه بملء الماء نقياً على بياض سوى ربّما ما قد يلحق بالسطح الأملس من قذارةٍ تنظُيفها من عهدة شخصٍ آخر في ساعةٍ غير. ولذلك، فهو على مستوى التجربة اليومية لا يشكّل جزءاً من هذا العالم ولا يبلغ مكاناً فيه. لكن، لا يختفي الغائط في واقع الأمر، ولا يغادر أرضاً ولا سماءً، فإنه من بيئة الكوكب كما الكُونِكا وساكنها، جزء من بيئة المدينة. واختفاؤه خدعة بصرية، أو بالأصح خدعة أيديولوجية، تُظهر غير ما تُبطن، الخدعة التي قال عنها المرحوم الإزيرق، كارل ماركس، إنها نصيبُ النظرة الأولى، ونصَح أن ارجِع البصرّ كرّتين كما في الأمر القرآني.
درَس الدكتور عبده مالك عالم سيمون أحوال مايو ضمن مستشاريته، وقال عنه في كتابه «على صورة من؟ الإسلام السياسي والتجربة الحضَرية في السودان» (دار نشر جامعة شيكاغو، شيكاغو/ لندن، 1994) إنه إقليمٌ «غير مرئيّ»، جُبّ عميق، قاطنوه «لا يقوون على البقاء خارجه لفقرهم وقسوتهم»، وهو «خلو من العمل بأجر، وتعيش أحياء بحالها في هذا الإقليم على عائد السرقة». جاء الدكتور سيمون بواقعةٍ من العام 1992، قال دمّرت القوى الأمنية طرفاً من مايو فأزالت آلاف الرّواكيب والعشش، ذلك بعد محاولة متردّدة في أواخر عهد الرئيس الأسبق نميري لإزالة كامل الإقليم تصدّى لها جماعة بسلاح ناري مسروق من نقطة البوليس القريبة. شهد الدكتور سيمون على هِمّة غير المسلمين من مجتمع مايو في تعزيز ذواتهم بالدِّين، وقال إنّ أهل «كريم المعتقدات» بعبارة دستور جعفر نميري، ثم اتفاقية السلام الشامل للعام 2005، قد أقاموا شعائرهم كما اتّفق بضرب الطبول في الأزقة عند الغروب، فنافسَت أذان المساجد. ونقل الدكتور سيمون «انتشار الفتيات اليافعات في الشارع الرئيس أوّل المساء لبيع الخدمات الجنسية لأصحاب الدكاكين وصغار التجّار الذين جمعوا للتو حصيلة اليوم». كما نقل حركة طلاب المركز الإسلامي الإفريقي القريب في جماعاتٍ إلى ماخور معلوم، «البيت الأبيض»، لقضاء السهرة «حيث تساعدهنّ بنات اللاجئين من ضحايا عيدي أمين، جزار يوغندا، على إنفاق مال المنح السعودية السخية المبثوث من جوهانسبرغ إلى الجزائر لجذب شباب المسلمين إلى المركز.
واقتصادُ حي مايو عند الدكتور سيمون شبكة من المبادلات، لا إنتاج فيها: يدسّ رجل بضعة أوراق نقدية في كفّ امرأةٍ تلقاءَ زجاجة من العَرَقي المُعزَّز بحمض البطاريات فتعطيها زوجَها الذي يدسهّا هو الآخر في يد فتاةٍ ناهد هي ابنة الزبون الذي اشترى لتوّه الخمر مقابل الجنس، فتعيد الفتاةُ المالَ إلى أبيها الذي يشتري به خمراً مرة أخرى. يصبّ في هذه الشبكة ربما عائدٌ يفوز به الابن اليافع الذي استطاع بجاكة ماكرة شفشفة جالون بنزين أو جالونين من عربة البوليس، فيهبها والدته التي تشتري شاياً وسكّراً تبيعه المبشّرين الذين يبذلون جهداً عظيماً لهداية ابنها إلى الدِّين الحقّ. وربما انضمّ إلى فرقةٍ من الشبّان الذين يطوون المسافة عبر الخلا في مارشٍ قاصدٍ لهَمْبتة لوري عابر اضطرّ إلى التوقّف في نقطة تفتيش قصيّة.
يجتمع السّكارى والتائهون في مايو أول الليل لتبادُل اللكمات في طقسٍ يوميّ ينشغل بنتائجه الترزيّة صباحاً، فيخيطون الجلاليب المُدمَّمة وقد مزّقتها حرب الليل مرةً أخرى أسمالاً فوق أسمال. هذا بينما تنقل كارّو وأخرى حمولات البَنْقُو في السَّحَر تترصّدها فرقٌ من السماسرة في طرف الإقليم. توسّع الدكتور سيمون في مشاهد الدراما القاسية التي مسرحُها مايو، فهذا الصبيّ الكنغولي من كيسنغاني البعيدة انتظَر رفيقاً له شهوراً عدّة على وعدٍ بثلاثة جرامات من الزئبق الأحمر بنيّة تهريبها معاً إلى مدينة جدّة السعودية. وهذه المرأة تُجادل ابنتها حول مصير حفيدها ذي السنوات الستّ الذي طردته من العشّة قبل أربعة أشهر لأنه أصرّ على الالتحاق بالمدرسة. وهذا الرجل الذي ماتت زوجته للتوّ بالسلّ الرئوي هبَّ على غنماية ضالّة فكسَر عظم رقبتها بيديه العاريتين وخالته تجري مسرعة عبر الأزقّة تحمل إنجيلاً في يدها إلى فكي محترف تتوسّل إليه أن يكتب على كلّ من شهد الواقعة برهةً مؤقتةً من النسيان، خوفَ أن يَخرج للغنماية سيّدٌ يطلب الثمن.
البقاء المُجرّد هو كلُّ مقصد من التقى الدكتور سيمون، فالفتيات اللواتي احترفن الدعارة يبذلن جهوداً مُضاعفة لتفادي الالتهابات التي تُضرُّ أعضاءهن ومن ثم سلعة بيعهنّ. والشيخ النوباوي يحاول ما يستطيع أن يتذكّر أسماء أسلافه في لحظة صفاء نادرة مع مولود جديد. والراعي البقّاري لا يجد في جلبة مايو مثل هذا الصفاء لإكمال صلاته ولو أخلص. والتاجر الفلّاتي يطمس النهار بحثاً عن ورقة نقدية يظنّ أنه دسّها في شقّ في الزاوية الشمالية الشرقية من أوضة الجالوص المُتهالكة التي هي مفخرته. وبعض المتحذلقين يدّعون أنهم يستطيعون حفظ أسماء كلّ من وطأوا من النساء والصبية واتخذوا هذا السجلّ شهادةً على أنهم في أتمّ الصحة العقلية. وقال هؤلاء إن لمكان مثل مايو مغزىً ما وغرضاً، و «الله لن يجد مندوحة من التدخّل قبل الميقات المحدّد في الأزل بدافع الفضول وليس الغضب». وقال صبيّ نوباوي للدكتور سيمون في جماعة «إنّ الأميركيين متى ما ضاقت بهم الوسيعة في بلادهم سيجدون وطناً ثانياً في مايو»، رغم مصاعبه، فلِمَ إذن يصنعون أفلاماً سينمائية لا عدد لها عن حياة العشوائيات.
أَدْهَشَ الدكتور سيمون من مجتمع مايو قدرةُ أهل بعض البيوت على الحديث بلا انقطاع، لا يصمتون إلا لماماً، قصّة في ضَنَب قصّة، مختلقة ومعدّلة ومنحولة وواقعة، واستخرج من هذا الكلام المتّصل دليلاً على التفتّت الاجتماعي، والحكي محاولة لترميم هذا التفتّت في الوعي. أما قانون مايو الأول عند الدكتور سيمون، قانون الكُونِكا، فهو ليس العُصبة الإثنية أو العُصبة القبَلية أو العُصبة الدينية أو العُصبة الطبقية، وقد انحسر كلُّ تصوّرٍ للجماعة سوى مهارة عمومية في رصد كلِّ داخلٍ وخارجٍ بسلسلة من العيون، وإنما اهتبال كلّ فرصة لـ «الشَّلِب»، والانفتاح على كلّ سَهوة خاطفة في سجن الواقع، واختلاسها بقوّة لعقد تحالف مؤقّت مع هذا أو ذاك أو هؤلاء خارج الكُونِكا؛ بقصد تعزيز احتمالات «شلب» ناجح. وأقصى العلم الخداع، وأقصى الخداع أن ينجح في يومٍ ما فكي ماهر في تصميم «عمل» ما، يدسُّ به النوم العميق في عيون أهل البيوت الرخيّة في المدينة ريثما يتسنّى نقل جميع ممتلكاتهم.