أتر

بعد استبدال العملة: أزمة السيولة النقدية توقف سبل الحياة

يملك عبد الرحمن العوض، متجراً صغيراً جنوب مدينة الدامر. وقد خلع ابنُه الأصغر محمد، عباءة الأفندي ونسيَ الوظيفة الحكومية التي فقدها بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل، وأصبح مساعداً لوالده في الدكان، ويملك حساباً بنكياً ساعده ووالده على تلافي الأزمة الكبيرة في استبدال النقود القديمة. عبد الرحمن يسأل ابنه يومياً عن الأوراق النقدية الحية التي كان يملكها قبل استبدال العملة، ويشعر بالمتعة وهو يربطها في رُزم، مُتعجّباً كيف أصبحت بداخل هاتف ابنه، وأنه فقد السيطرة عليها على نحوٍ غريب. هذه أول الحكايا التي تعكس الفجوة الكبيرة بين عالم التقنية المالية والتجار التقليديين في نواحٍ مختلفة من السودان.

ورصَد مراسل «أتَـر» بولاية نهر النيل، كثيراً من المواطنين في الدامر وعطبرة، يُعانون في فتح حساب بنكي، وتوريد أموالهم للبنوك، ولم تكن الأحوال مُرضية بالنسبة لهم، إذ لا يتجاوز مقدار الكاش الذي يمكنهم سحبه من البنك 200 ألف جنيه في اليوم؛ واستهجن كثيرٌ منهم التعامل الفظّ من حرّاس الفروع، وهم أفراد نظاميون من الشرطة وأحياناً جنود من الجيش. هذا فضلاً عن الاكتظاظ الكبير للجمهور في فروع بنك الخرطوم، ما استدعى توفير خيام (صيوانات مناسبات) بالشارع، لكي تقي هجير الشمس.

لم يكن باستطاعة مُراسل «أتَـر» تصوير الحال بالكاميرا، أو استطلاع المواطنين علناً، نسبة للقيود الأمنية المفروضة على المدينة؛ لكن في الأحاديث الجانبية يَسري تذمّر واحتجاج بسبب المُحاباة و(الواسْطات)، والبطء الشديد في تقديم الخدمة، إضافة إلى ظهور تجارةٍ لاستبدال العملة خارج النوافذ الرسمية بمُقابل مُعيّن، أثناء الأيام التي قرَّرَتْها السلطات للاستبدال. وقد اضطر البعض للدفع فعلاً مقابل استلام فئة الألف جنيه الجديدة.

انتهت المدة المُعلنة لاستبدال العملة بخيرها وشرّها، لكن بعدها برزت أزمة الكاش داخل أسواق الولاية، وأصبح هناك من يبيع الكاش مقابل بنكك: مليون جنيه (مليار بالقديم) مقابل 900 ألف جنيه، وتلك تجارةٌ راجت بين عمال محطات الوقود في الولاية، ولا يُعرف إن كان ذلك بعلم المُلّاك أم لا.

جولة داخل سوق الدامر

تعاني تجارتنا من الكساد بسبب شحّ النقد، ونحن مقبلون على موسم مهمّ وهو شهر رمضان المعظم. أصبحنا نفرح إذا ظهر أمامنا زبون للشراء حتى لو كان يحمل 100 ألف جنيه فقط!

نصر الدين مجذوب، جزّار مشهور في سوق الدامر، أخبر «أتَـر» بأن حركة الزبائن نفسها أصبحت متدنية جداً بسبب انعدام السيولة: «شخصياً لا أملك إلا هاتف ربيكا – هاتف بسيط يُستخدم في أغلب الأرياف لسهولة استخدامه – وأستخدم حساب ابنتي في المحلّ، ويُصوِّر الزبائن إشعار الدفع بعد أن أعطيهم الرقم لإرساله في هاتفها، وفي ذلك قد تحدث حالات احتيال أحياناً، لذلك لا أتعامل إلا مع من أعرفهم إلى حدّ كافٍ، وفي الأغلب تكون شبكة الإنترنت متدنّية، وتطبيق بنكك لا يعمل بسهولة في أوقات مُتعدّدة خلال اليوم».

عادةً ما يشتري مجذوب حِمْلان الضأن من الرعاة، الذين يُلزمون المُشتري بالدفع نقداً، ويقولون: «قروشي بَشيلا في مُخلايتي دي». يقول مجذوب: «أستطيع تفهّم ذلك الأمر لأن الهاتف بالنسبة للرعاة هو للاتصال بالآخرين فقط، وفي الغالب لا يمتلكون هواتف ذكية تحتاج إلى مصدر طاقة وشبكة إنترنت وشحن مستمر، ولا خبرة لهم في التعامل التقني مع تطبيقات جديدة».

أما مصطفى الدعّاك، وهو تاجر محاصيل انتقل من سوق أم درمان بعد أن دُمِّر ونُهبت محلاته التجارية وبدأ العمل من جديد من مدينة الدامر، فإنه يشكو بدَوره من كساد تجارة المحاصيل، خاصة مع تزايد المعارك والاشتباكات في غرب البلاد، ما حدّ من حركة وصول المحاصيل الواردة من هناك، خصوصاً الكركدي والتبَلدي والعرديب، التي ارتفعت أسعارها، لأنها باتت تصل إلى ولاية نهر النيل في رحلة طويلة ومُرهقة ومُمتلئة بالاستقطاعات والرسوم الكبيرة من أطراف متعددة. يخبر مصطفى «أتَـر»: «كذلك تعاني تجارتنا من الكساد بسبب شحّ النقد، ونحن مقبلون على موسم مهمّ وهو شهر رمضان المعظم. أصبحنا نفرح إذا ظهر أمامنا زبون للشراء حتى لو كان يحمل 100 ألف جنيه فقط!».

لا تملك إدارة المرور بعطبرة والدامر حساباً بنكياً لكي يدفع عن طريقه المواطنون رسوم ترخيص المركبات والتجديد، ويتعامل معهم بعض أفراد شرطة المرور بحساباتهم الشخصية تسهيلاً للدفع، لتُجرى بعدها معالجة خاصة بالإدارة للتوريد في حساب خاص

وقد روى محمد، وهو طالب جامعي وافد إلى الولاية مع عدد من أقرانه، لمراسل «أتَـر»، أنهم اضطروا لرهن هاتف أحدهم بعد تناولهم وجبة دسمة في مطعم، لأن تطبيق بنكك انهار فجأة، وهم جميعاً جيوبهم خاوية من أي أوراق نقدية. يقول: «كنا نفضّل الجوع على هذا الموقف المحرج الذي وقعنا فيه».

وفي ظل الأزمة، قد تسهم الحلول الفردية في حلّ الضائقة. من ذلك أنّ موظّفاً في بنك النيل بادر بتقديم خدمة للنساء كبيرات السن على نحو خاص، وجمع منهن مدخراتهن التي كن يحفظنها للأيام السوداء وعمل على استبدالها لهن. متحدثاً لـ «أتَـر»، يقول الموظّف محمد الشيخ: «حصلت على كثير من الثناء والدعوات، وهذه أقل خدمة يمكنني تقديمها من أجل مجتمعي الصغير».

مرافقون ومرضى بداخل المستشفى التعليمي بالدامر، ذكروا لـ «أتَـر»، أنّ إدارة المستشفى تُصر حتى اللحظة على الدفع نقداً لبعض الخدمات والرسوم. كذلك لا تملك إدارة المرور بعطبرة والدامر حساباً بنكياً لكي يدفع عن طريقه المواطنون رسوم ترخيص المركبات والتجديد، ويتعامل معهم بعض أفراد شرطة المرور بحساباتهم الشخصية تسهيلاً للدفع، لتُجرى بعدها معالجة خاصة بالإدارة للتوريد في حساب خاص. وبحسب استطلاع مراسل «أتَـر»، فإنّ جهات حكومية مختلفة في ولاية نهر النيل ليست لديها حسابات بنكية رسمية، وعلى المواطنين تدبير أمرهم للدفع لهم نقداً.

وكيل لشركة سيقا للدقيق، أخبر «أتَـر» بأنهم باتوا يعانون في الدفع للعمّال من العتّالة ومساعدي المخازن، لأنّ أغلبهم يطلبون أجرهم نقداً ويتوقّعون الحصول عليه ما إن يجفّ عرقهم من مناولة جوالات الدقيق المرهقة. «لم يبقَ أمامنا سوى أن نطلب جزءاً من مستحقاتنا نقداً من عملائنا»، يقول.

البنك المركزي

مصدر من بنك السودان المركزي، عزا شحّ السيولة في البنوك إلى سياسات البنك، التي توجّهت إلى دعم المجهود الحربي، لذا فقد اتجه التمويل كله للحكومة بدلاً عن الجمهور؛ وأكّد في حديثه لـ «أتَـر»، أنّ ضعف الوعي المصرفي لدى المجتمع السوداني هو سبب آخر للأزمة، فمعظم الجمهور ليست لديهم حسابات مصرفية، وهذا يعني أن معظم الكتلة النقدية خارج إطار الجهاز المصرفي، وليست لدى البنوك ودائع كافية لإعادة توظيفها لمصلحة الاقتصاد القومي، هذا إضافة إلى عمليات النهب والسرقة والتخريب التي طالت البنوك منذ نشوب الحرب، وبها أموال المُوِدعين، ما زعزع الثقة في البنوك بما فيها بنك السودان نفسه.

لو احتاج أحدهم إلى شرب كوب قهوة بـ 500 جنيه سيضطرّ إلى دفع 1000 جنيه ولا يوجد متبقٍّ، ومثل ذلك في المواصلات

ويقول المصدر إنّ البنك المركزي شرع في استبدال العملة من فئتي 500 والـ 1000 عبر الحسابات المصرفية لحماية المُودعين والسيطرة على الكتلة النقدية وإدخالها للبنوك، لكنه لم يُلزم البنوك بتطوير تطبيقاتها إلا في منشور بتاريخ 6 ديسمبر، أي قبل بدء عملية الاستبدال بأربعة أيام فقط، لذا سيطر بنك الخرطوم على معظم ودائع الجمهور عبر تطبيقه «بنكك»، وظلت شرائح واسعة من المجتمع السوداني تتعامل بالكاش فقط.

ويقول إنّ تحديد سقف للسحب النقدي بـ 200 ألف جنيه غير كافٍ لتسيير مصروف الحياة اليومية، كذلك فإنّ عدم طباعة فئة الـ 500، وطباعة فئة الـ 1000 بكمية لا تكفي للاستبدال جعل أعلى فئة للتداول 1000 وأدناها فئة 200 أو 100 (ما زالت فئتا الـ 100 والـ 200 القديمتان ساريتين)، وهذا ما ضاعف أسعار السلع، فلو احتاج أحدهم إلى شرب كوب قهوة بـ 500 جنيه سيضطرّ إلى دفع 1000 جنيه ولا يوجد متبقٍّ، ومثل ذلك في المواصلات، لأنّ فئتي الـ 100 والـ 200 جنيه غير متوفرتين على نحوٍ كافٍ، وحملُ كميات كبيرة منهما في حدّ ذاته معضلة، إذ تحتاج إلى جوالات.

ويرى المصدر، وهو خبير مصرفيّ عمل في مجال الرقابة المصرفية سنين عدداً، أنّ حل أزمة شحّ النقد يكمن في ربط التطبيقات مع بعضها عبر BBAN، وربط التطبيقات داخلياً مع بعضها البعض بواسطة شركة السودان للخدمات المصرفية الإلكترونية EBS، وهي شركة مساندة لبنك السودان، وبإمكانها القيام بدَور المقاصة الإلكترونية لتُسهّل التعامل بين تطبيقات بنكك وأوكاش وفوري وغيرها. ويقترح الخبير المصرفي التعجيل بذلك، بالاستعانة بخبراء من شركات في بعض الدول مثل الصين أو الهند، مُستشهداً بتجربة الصومال التي عانت من حرب أهلية شاملة، لكنها استطاعت ربط بنوكها المحلية بـالـ BBAN، وبات بإمكان المواطن الصومالي إجراء تحويلاته من أي مكان دون أن يحتاج إلى هاتف ذكي أو إنترنت، إنما يحوّل بهاتف عادي. ويتعجّب الخبير المصرفي من إصرار السلطات المالية في السودان، على تكلفة المواطن بشراء تلفون ذكي واشتراك في الإنترنت، مع أنّ هدف التحول إلى مجتمع إلكتروني معمول به في جميع دول العالم، ويقول إنّ التعامل واستبدال العملة عبر التطبيقات مشروع وطني كبير يتعيّن على البنك المركزي الضغط في اتجاه تبنّيه.


بحسب وكالة سونا للأنباء، فإن ستة مصارف أكملت الربط الشبكي فيما بينها، ويُتوقّع أن يُدشّن خلال الأيام المقبلة.

ويرى الخبير المصرفي أنّ استقرار الخدمات البنكية واستدامتها وشمولها يُمكن أن يكون في إطار الشمول المالي بتوفير الخدمات المصرفية في جميع أقاليم السودان وقراه وبودايه، ويُشدّد على ضرورة ربط البنوك وتفعيلها ماكينات الصرف الآلي، لتتمكّن من التعرّف على العملة الجديدة، وتفعيل نقاط البيع التي كانت تعمل قبل الحرب، وإكمال طرق نظم الدفع الإلكتروني بواسطة الـ BBAN.

أما بالنسبة للمناطق التي لم يجرِ فيها استبدال العملة، وأغلبها تحت سيطرة الدعم السريع فيرى الخبير المصرفي، أن الاستبدال فيها سيكتمل بالتوجّه صوب السلام وإنهاء الحرب، ويضيف أن إجراء عملية الاستبدال في مناطق دون أخرى مؤشر للانفصال، فلا يمكن أن يكون لدولة واحدة أكثر من عملة، فضلاً عن أن التعامل بالعملة الجديدة في ظل الحرب يعرقل عملية التبادل التجاري بين الولايات الآمنة وغير الآمنة، ما يُعرّض حياة المواطنين لخطر الجوع والإفلاس والعجز عن قضاء الحاجات.

حظر الحسابات

لم تجرِ خطوة حظر الحسابات منذ وقت مبكر أثناء الحرب، وقد أتاح ذلك إجراء عمليات تحويل ضخمة دون أن يتحرّك بنك السودان ليحظر أو يراقب حركة حسابات مليارية نشطة، وبعضها استُخدم في الابتزاز ودفع الفدية لمختطفين وأسرى من قبل قوات الدعم السريع.

وكان بنك السودان المركزي قد أصدر قراراً في ديسمبر 2024، قضى بحظر وتجميد أرصدة 43 شخصاً اتُّهموا بالانتماء إلى قوات الدعم السريع. واستند القرار إلى خطاب موجّه من النيابة العامة لجمهورية السودان – لجنة التحقيق والتحري في جرائم الحرب والانتهاكات. وأتى القرار بعد مرور شهر على قرار مماثل أصدره البنك المركزي في نوفمبر الماضي، وجّه بموجبه المصارف السودانية بتجميد الحسابات الخاصة بأفراد قوات الدعم السريع والشركات التابعة لها، كما وجّه البنك المركزي المصارف بتجميد حسابات القادة وأفراد قوات الدعم السريع.

لكن خطوة حظر الحسابات لم تجرِ منذ وقت مبكر أثناء الحرب، وقد أتاح ذلك إجراء عمليات تحويل ضخمة دون أن يتحرّك بنك السودان ليحظر أو يراقب حركة حسابات مليارية نشطة، وبعضها استُخدم في الابتزاز ودفع الفدية لمختطفين وأسرى من قبل قوات الدعم السريع.

يقول الخبير المصرفي، إنّ إجراءات الحظر المصرفي من مهام البنك المركزي، لكنّ عدم استقلالية البنك المركزي فتحت الفرصة لكثيرٍ من النافذين للتدخّل في سياسته، رغم أنه مخوّل له قانوناً حظر أي شخص أو شركة تخالف الضوابط والأسس.

ويقول إنّ السودان من الدول المُوقّعة على قانون غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ولديه تشريعات ونيابات ومحاكم للتحقّق من مصدر الأموال لكنها غير فعّالة، ويضيف أن أنظمة البنوك السودانية غير متطوّرة في مكافحة غسل الأموال والتحقّق من مصادرها، لذا أصبح السودان ونظامه المصرفي بيئة خصبة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وحول تعويض خزائن المواطنين الخاصة في البنوك التي يحتفظون فيها بوثائق مهمة ومقتنيات ثمينة مثل المجوهرات والذهب، إضافة إلى تعويض خسائر البنوك نفسها بعد النهب والتدمير الذي تعرّضت له؛ فيمضي الخبير المصرفي قائلاً إنّ هناك تأميناً يشمل خزائن البنوك التجارية والأمانات وودائع الجمهور والمساهمين في رؤوس أموال البنوك، ويجري تعويض أصحاب الودائع عبر آليات مختلفة مثل الاحتياطي النقدي القانوني أو السوق المفتوحة، أو تكوين المخصّصات.

وكان بنك السودان المركزي قد أصدر تعميماً يخصّ الضوابط المؤقتة لمعالجة خسائر الحرب وتكوين مخصّصات التمويل في يوليو 2024 بواسطة إدارة الرقابة المصرفية، مثلما حدث لبنك الاعتماد الدولي وفي حرب العراق والكويت.

Scroll to Top