
«أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة».
من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.
انتهى الدكتور سيمون، في تقصّيه أحوال الكُونِكا كما ظهرَت له في حي مايو بجنوب الخرطوم، إلى أنّ هذا مخزنٌ لفائضٍ من البشر لا مَوقعَ لهم في الإنتاج السلعي، فهُم تَكْأَتُه الزائدة، ولا عاصمَ لهم في الاقتصاد المعنويّ للمُجاملة، الذي هو تأمينُ أهل الخرطوم المدينة من مثل هذا التدهور الذي يَفتِك بالكينونة، بل نَضَا الإملاقُ أغلبَ السّتر عن اجتماعهم. وقال نشأَتْ وَسْطَهم روحيةٌ جديدةٌ، بدرجة أو أخرى، هي هُجنةٌ كذلك بين العقائد. فالمسلم لا يَقوَى على إسلامه، والمسيحيّ يتفسّخ إيمانُه، ومن يؤمن بالأسلاف ينشز عن احترامهم وقد هجروه. فلا يستطيعُ من يقوم عَيْشُه على مالِ «الشَّفْشَفة» الذي يَقْطُر قَطراتٍ متباعداتٍ، قطرةً وأخرى، في خيران جافّة من التبادل الأوّليّ، قزازة عَرَقي في مقابل وَطَرٍ أو بعضِه، تلقاء كمْشَة فول في محلّ دُلقان لتَلتِيق الجلّابيّة المَشْرُوطة؛ أن يُحافظ على فرز الفجور من التّقوى، وقد صارا قُرْصَاً من عجين الدُّوم جَفَّ. ومدارُ هذه الرّوحية الجديدة شفراتٌ وطلاسم من هُجنةِ ما سبق لجلب المنفعة الآن وفوراً، آندروس فوار، وليس في غدٍ منتظرٍ ويومٍ آخر. تُترجِم هذه الروحيّةُ المشروخةُ ما تَهشّم من حياةٍ وليس فيها ما يَجْبُر، فلا تَبلغ وظيفة «أفيون الشعوب» حتى؛ وإنما هي علامةُ تقصيرِه عن فاعلية الأفيون.
استفاد الدكتور سيمون من «كُونِكا» الخرطوم شاغلاً بحثياً طويل الأمد بفائض المدينة الملعونة، العشوائيّات، في غير المِتروبول، في مدن أفريقيا وآسيا؛ من جاكرتا إلى داكار كما في عنوان أحد كتبه السخية («حياة المدينة من جاكرتا إلى داكار»، دار نشر روتلدج، نيويورك/ لندن، 2010). ورَدَّ الدكتور سيمون جانباً من هذه الخصيصة الباطنة في المدينة في غير المِتروبول للتورُّم بالعشوائيات وقاطنيها، إلى تصميمٍ استعماريٍّ أوّليّ كانت به المدينة نفسُها أداةً لاستخلاص الموارد من نُظم إنتاج ريفيّة معيشيّة وهيكل قسري لتجنيد العمالة الحضَريّة وضبطها دون كثير اعتبار لهندسة خدماتها وعَيْشها كوحدةٍ عضويةٍ تنمو بأهلها. وكان حُكم مثل هذه المدينة في الغالب وكالةً لشتيتٍ من الموظّفين والضبّاط العسكريين حَطّوا عليها من علٍ، شاغلُهم الضّبطُ والرّبطُ لعناصر كشكوليّة من القوميّات والمناطق لمّا تنشأ بينهم واسطةُ عَقدٍ حضرية سوى كجُزرٍ في لُجّة.
استخرج الدكتور سيمون من شُغله نمطاً كونياً، إذا جاز التعبير، حالت به طبقات من السُّلطاتُ غيرُ كاملة النفاذ؛ السّلطات الجزئية والضعيفة، من الأعيان والصفوة العسكريّة وكارتيلات التجّار والأسر الطاغية والروابط السياسية، دون بزوغ هياكل فعّالة للدولة؛ هياكل مسألتُها رفاهُ المواطن الحضَريّ في عمومه. وبهذا تصبح مثل هذه المدينة الأفريقية والآسيوية مَفازاً لقِلةٍ، فنشاطُها الاقتصاديّ وخَراجُه لا يستوعب سوى فئة من قاطنيها، ويَستبعد لضيق مواعينه غيرَهم، الذين يدفع بهم توالي الكشّات إلى حزامٍ من «الكُونِكا»، جغرافياً وقانونياً. فانقطاع الشّبكة، شبكة الوصل الاجتماعية التي يقوم عليها الاقتصاد المعنويّ لمثل الخرطوم، يَحوُل بينهم وبين الوثائق الثبوتيّة والرُّخصة التجارية وثبت الضّريبة والحساب البنكي والقرض الحسن. وإن اجتمع لديهم مالٌ من «الشَّفشَفة» أو مثلها لا يَبلُغ بهم، خلا القليل، موقعاً خارج هذا النظام التبادلي البدائي، عرَقي ووَطَر وكيس صعوط ورؤوس دجاج مقليّة.
نجحت السُّلطات الوطنية التي نشأت ما بعد الاستعمار، في عصر فَلَاحها بالاستثمار في التعليم والخدمات العلاجية، في تنشئة صفوة حضَريّة متجانسة بدرجات متفاوتة ومرتبطة بجهاز الدولة من أقاليم وقوميات متنافسة، كمثل الخرّيجين موديل 56 اللِّيْلْنا. لكنْ عَسَّرَ تدهوُر موضع هذه الدول في تراتب الاقتصاد العالمي من استمرار هذا النمط، فقد تقلّصت الموارد المتاحة للحكومات حتى شَقّ عليها الإبقاء على نظم تعليم ديمقراطية تضمن للشُّطّار «المَاهيّة» المُجزية في القطاع العام. بخاصَّةٍ وقد تعذَّر؛ بتدهور أسعار المحاصيل النقدية في السوق العالمي ومداخيلها، الاستمرارُ في سَلْخ الفائض من نظم الإنتاج الزراعي الريفيّة، دون تحوُّلٍ حازمٍ في وسائل الإنتاج وتقنياته لزيادة الإنتاجية اللعينة، ما لا يتأتّى إلا بضَخٍّ كثيفٍ مُتوالٍ لرؤوس الأموال. وهذا الفائض الريفيّ هو عماد الخزائن الحكومية ومَورد الصرف على التعليم والصحّة و«المَاهيّة» إياها. وفرَض هذا السَّلخ المستمرّ بواسطة للفائض تخلّفاً ريفياً زاد بدَوره من تراكم البشر في الحواضر، فائضاً فوق فوائض.
كان التعليم الديمقراطي على هذه العلل، بدرجةٍ من الدّرجات، درعاً واقياً من خذلان التعاضد بين الأقاليم والقوميات، ففيه تجد «الشّاطرة» موقعَ قدم لبلوغ مَرقىً غير شَطّ «الكُونِكا». من هذا الباب، ربّما قدَّر المرحوم عبد الخالق محجوب منذ العام 1970، ضمن تقريره للمؤتمر التداولي لكادر الحزب الشيوعي، وهو يكابد الانقسام، وأسعار القطن تتلكَّك، وقد ثارت على خطّته البرجوازية الصغيرة، تتلمّظ لثمار الانقلاب في مايو 1969؛ أنَّ الثورة ثورةُ أهلِكَ بعَلَفهم وليست ثورة «وعي»، وكانت يا عرب: «فالثورة الديمقراطية هي ثورة الإصلاح الزراعي ولا يمكن أن تصل إلى نتيجتها المنطقية إلا باستنهاض جماهير الكادحين من المُزارعين على نطاق واسع وإدخالهم ميادين الصراع السياسي والاقتصادي والفكري!» (تقرير عبد الخالق محجوب إلى المؤتمر التداولي، ضمن «استراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية السودانية»، الحزب الشيوعي السوداني، بلا تاريخ، ص 157).
اكتملت هذه «الحلقة الشرّيرة»، وهي العبارة التي راجت لوصف ظاهر دورة الانقلاب والثورة فينا، بموجة نقل الثروة من سيطرة القطاع العام إلى القطاع الخاصّ، بدفع المؤسّسات المالية الدولية وإرهابها، ومسألتُها نقلُها مرةً أخرى من رأسماليةٍ وكيلةٍ إلى رأسمالية المتروبول، تفريغٌ مربّعٌ للثروات. تحوّلت بهذا النقل المتسارع مواردُ مشاعيّةُ الطبيعةِ، أرضاً زراعية كانت، أم معادن في باطن الأرض، أم غابات، أم مَراعيَ، أم حتى الأجساد البشرية، معامل تدوير قوة العمل؛ إلى حيازاتٍ خاصّةٍ تَغْرِف منها حلقاتٌ من المصالح من كاس عبر سوق دبي حتى بورصة نيويورك. واحتدّ التنافس على سلطان جهاز الدولة بالضرورة تبعاً لهذه الفتنة، فهو الجهاز القادر على تشريع هذا النقل وتدبيره وتمكينه وتأمينه بالقوة الجبريّة. لا غَرْو إذن أنْ نشأت حول هذه الحيازات الثمينة جيوشٌ ثانويةٌ تطالب بها أو تحميها؛ مليشيات. بخاصةٍ وقد صارت هذه الحيازات تقسيماً لموارد لا تَقبل جوهراً التسليعَ: الأرض والعمل والمال، موارد اجتماعية خصّها كارل بولياني، خصيم الماركسية، بنَعْت «السلع الكاذبة» (كارل بولياني، «التحوّل العظيم: الأصول السياسيّة والاقتصاديّة لزماننا»، بيكون للنشر، بوستن، 2001 [1944]). «الكُوْنِكا» إذن، ما يبقى وحلاً آسِناً من هذا الغَرْف الأطرش.
تعلَّم الدكتور سيمون، من سياحته في المدن الأفريقية، أنّ هذا الغَرْف قد هدَّد ما يَستُرها من بواعث التضامن، بما في ذلك شبكات المجاملة التي تصل ما بين أفراد الأسرة الممتدّة، والتي تناسخت على هيئةٍ شبيهةٍ بعلاقات استجدّت بخُوَّة التعليم والمهنة والجوار، العصبيّة الخضراء التي ضحك لها المرحوم إبراهيم عوض. زاغت الأبصار والقلوب بشهود ما يُصيب الغارفَ المُهتبِلَ من ثروةٍ سريعةٍ صارت بها التبايُنات في «المَقْدَرَة» صدوعاً وأخاديد، بخاصةٍ وقد استقَلّ هذا الغَرْف عن العمل والجهد والتأهيل التعليمي والمهني، وصار رهناً بمهارات «الشّلب». فثمّة من يغرف بكُوز فقط، وثمّة من يحبس مجرى الجدول بسَدٍّ عظيم. بل هدَّدَت مثل هذه التصدُّعات الشّعورَ الجماعيَّ بالمكان، فمدن مثل آكرا ولاغوس وداكار والخرطوم انفجرت بالتحوّلات العمرانية وانفلتت جغرافيتها الاجتماعية في عهدين أو أقل بحيث يصعب حتى على ساكنها المُداوم رسم خارطة ذهنيّة مستقرّة لها.
يعود جزءٌ مقدَّرٌ من هذا الانفجار العمرانيّ إلى استثمار عائدات المغتربين في ملكيّة الأرض والبناء السكني، وهو استثمارهم المكاني وتأمينهم المعيشي في آخر العمر، حصيلة الشّقاء من هجرةٍ في سوق العمل الدولي. لكنْ، لا تأمن هذه الرعايةُ لعهدِ المكان من خطرٍ، فهذه العائدات المالية مُهدَّدة كذلك بالشّلب في بيئةٍ عَزَّت فيها الفرص الاقتصادية، سواءٌ أكان ذلك بتضخّم أسعار مواد البناء أم بالمضاربة في الأراضي أم بنهب المقاولين أو تهافت بنائهم، أسمنت مضروب وبلاط فشَنْك. وشخَّص الدكتور سيمون، على سكة المرحوم عبد الخالق محجوب من قبله، أنَّ تجميدَ المال في العقارات وحبسه عن النشاطات الإنتاجية ضَررٌ وكساد، إذ تستقلّ قيمةُ العقارات عن البيئة الاقتصادية المحيطة بها وتطير بي فوق. فلا يَستغربَنَّ مُستغربٌ إذن، أنْ يصحو الساكنْ أوضتين وبرندة بالإيجار في شارع باطني، الكهرباء والماء تقاسيم، والخور آسِن، على جوارِ دار مهيبةٍ بسعر مليوني دولار أخدر ويزيد عند التقاطع في الزّلط، محيطُه كارّو في بتاع بنشر في جزّار في خَدَار كيري في بتاع سجاير؛ عقار لا يمكن رعاية قيمته سوى بمزيد من الاستثمار: جنريتر استعداد، وبرميلَي جاز، وموتور عظيم لجرّ الماء حتى من أوسع مواسير المحطة، وحرس ديدَبان.