أتر

عن الصناعة في زمن الحرب: مُطالعات من التجربة

وَضَعتَ الحرب منفعةَ وجدوى العديد من مؤسّسات وميادين العمل والعلوم موضع الاختبار، وشمل ذلك المُؤسّسات المنوط بها تاريخياً تحمُّل عبء حماية المجتمع من آثار مثل هذه الأزمات، فضلاً عن تلك التي أُرغمت على تكييف عملياتها، لكي يتسنَّى لها العمل بكفاءةٍ في ظلّ ظروف الكوارث. وعلى نحو مُماثل، أُجبرت العديدُ من المجالات البحثية والمساعي العلميّة على إعادة تحديد أولوياتها، في حين كافحت أخرى للحفاظ على تركيز عملها في خضمِّ هذه الفوضى.

تعرَّضت مؤسّسات مثل الخدمة المدنية وقوات الشرطة ووزارة المالية والبنوك والشركات الكبرى والتلفزيون القومي وغيرها، إلى تساؤلات حول مدى صلاحية وقدرة كلّ منها على خدمة المجتمع. وبدأ التساؤل يدُبُّ في خواطر كثيرين حول ما إذا كانت تلك المؤسّسات ضروريةً بالفعل، وما إذا كانت هياكلُها تَتَّسق حقّاً مع مهامها المُعلنة؛ بل وفي بعض الحالات، مثلما حدث لمؤسسَّتَي الشرطة والبنوك اللّتين اختفتَا ضُحى الخامس عشر من أبريل، وقد جعلت الحرب الناس يتشكّكون في ما إذا كانت هاتان المؤسّستان قد وُجدتا أصلاً!

لقد فرَض اختبار الحرب على العاملين في ميادين عدّة في السودان، أن يعيدوا تشكيل عملياتهم وأساليب عملهم للتكيّف مع الظروف الجديدة، وإنْ تبايَنَ تسارعُ ذلك التكيُّف. فمنذ الساعات الأولى لاندلاع الحرب في الخرطوم، أطلق مُقدِّمو الرعاية الصحية في كثيرٍ من الأحياء دعواتٍ عامةً للعاملين في المجال الصحي وأفراد الشعب من ذوي المعرفة، والذين يَملكون الأدوات أو الأدوية اللازمة، للانضمام إلى «غرف الطوارئ» التي تشكّلت حديثاً. وقد استحدَثَتْ هذه المبادرات نماذج جديدة، هدفت إلى تعبئة الموارد وتوفير الكوادر لمؤسّسات الخدمات الصحية، استجابةً منها للتحدّيات الناشئة، مثل تقييد الحركة وتدمير المستشفيات والعيادات الصحية على يد الفاعلين المُسلَّحين سواءٌ أكانوا على الأرض أم عبر الغارات الجوية.

وخلال أيام معدودة من انطلاق الحرب، شرع فنِّيو الكهرباء في إصلاح الأعطاب التي لحقت بالشبكة جراء القصف وأعمال العنف الأخرى. وقد نظَّم أولئك الفنيّون أنفسَهم استناداً إلى أماكن سكنهم، وتعاونوا مع غرف الطوارئ ولجان المقاومة، وغيرهما من المنظمات الشعبية. وبجهود مُشتركة، عملوا على تحديد الأضرار، وإبلاغ المجتمع بأنشطة الصيانة عبر شبكات محلّية ومواقع التواصل الاجتماعي، والسعي إلى استعادة الخدمات الأساسية.

ولم يمضِ وقتٌ طويل على ذلك، إلا وقد حوَّلَ العديد من أولئك الفنيّين تركيزهم نحو حلول توليد الطاقة اللامركزية صغيرة النطاق. أدّى هذا التحوُّل إلى إحداث طفرة في تركيب أنظمة الطاقة الشمسية، وبرامج التدريب، وصيانة مُحرّكات الديزل، إلى جانب الخدمات الأخرى ذات الصلة، ما شكَّل تحوّلاً جوهرياً في الأطر المُوجّهة لتقديم هذا المورد الحيوي.

وعلى المنوال ذاته، شهدت البلاد ابتكار المُعلّمين لمُمارسات تعليمية بديلة للأطفال في المناطق التي دمّرتها الحرب ولنازحي المخيمات؛ ممن لم يَعودوا قادرين على الوصول إلى المدارس. بل وشهدت أيضاً ظهور مُطوِّري التطبيقات الذين صمَّموا تطبيقات لشراء الكهرباء، بعد أن تعذَّرَ إمكان الوصول إلى مكاتب شركات الكهرباء وعجزت التطبيقات الكبيرة عن تلبية الحاجة. كما وجّه العديدُ من الزراعيِّين تركيزَهم إلى الزراعة المعيشية «حد الكفاف» في أفنية البيوت، لسدّ الفجوة الغذائية والتغلّب على تعذّر الوصول إلى الأسواق جرّاء الحرب. هذه النماذج لا تعدو كونها غيضاً من فيض التدابير الابتكارية والتكيفيّة التي اعتمدها عامة العاملين أثناء هذا الصراع.

تراكمت لدى الأغلبية العظمى من مجالات المعرفة والعمل في السودان العديد من الدروس المُستقاة من زمن الحرب، إضافةً إلى المُمارسات الابتكارية، كما أماطت الحرب اللثام عن عيوب الأنظمة القديمة. وفي ذلك نقاطٌ جديرةٌ بالتوثيق، إذ إنها تحمل في أحشائها لبَنَات بناء أساسية لمستقبل البلاد.

تُحاول الفقرات التالية استعراض بعض تلك المطالعات وتوثيقها، مع التركيز بخاصةٍ على مجال أبحاث السياسات الصناعية.

تنطوي أبحاث السياسات الصناعية على دراسة الاستراتيجيات والتدخّلات وتحليلها، والتي تُؤثّر على بيئة الأعمال، ويُمكن أن تؤدّي إلى دعم نمو بعض الصناعات والقطاعات؛ بينما قد تُسهم في تراجع غيرها. وبينما قد يتساءل كثيرون عما إذا كان المجال مُواتياً للحديث عن الصناعة في زمنٍ ملامحُه الحرب والموت، دعك من الحديث عن أبحاثها، فإن هذا سؤال أتطلّع إلى أن تسهم الفقرات التالية في الإجابة عنه.

عبء المركزية وغياب العمل البحثي

لم تكن الحرب التي اندلعت في الخرطوم قبل قرابة العامين، في الخامس عشر من أبريل الأولى من نوعها، إلا أنها تظلّ الأشدَّ تدميراً باعتبار تأثيرها واسع المدى الذي طال حتى من هم خارج دائرة القتال المُباشر. ويُعزى ذلك إلى حدّ كبير، إلى النمط التنموي شديد المركزية في السودان، حيث تتركّز المؤسسات الرئيسة – من مستشفيات وبنوك وجامعات – في الخرطوم. وعلى النمط ذاته، تمرُّ مُعظم الطرق الرئيسة بالبلاد عبر العاصمة، فضلاً عن تمركز شبكات الخدمات الأساسية فيها، بما في ذلك الكهرباء والاتصالات. وبالنظر إلى هذا الواقع، فإن أيَّ اضطراب يُصيب الخرطوم من شأنه أن يشلَّ البلاد بأكملها.

من المُرجَّح أن هذه المركزية كانت مدفوعةً برغبة في إحكام السيطرة أكثر من كونها التزاماً بتحقيق تنمية مُتوازنة. فنجد أن الحكومات السودانية المُتعاقبة قد صمَّمَتْ نظاماً يُعطي الأولوية للهيمنة السياسية، ما ضَمِن بقاء السلطة راسخةً في المركز، حتى وإن كانت الصراعات محتدمةً في الأطراف. غير أن ما نشهده اليوم، يكشف أن هذا النسق ذاته يجعل من وصول الحرب إلى العاصمة سبباً في انهيار الخدمات الأساسية وشبكات الحماية على المستوى القومي.

ما كانت رفاهية العامة أولويةً قطّ بالنسبة لأولئك الذين يستفيدون من الحكم المركزي، وهذا ما يبدو جلياً في فشلهم في أن يستثمروا في التنمية؛ حتى أثناء فترات السلام النسبي. ومهما يكن من حال، فإنّ سبل عيش الناس وحقّهم في الأمن والكرامة والحرية من الجوع والخوف، ينبغي أن تكون الشغل الشاغل لكلّ من يقدّر قيم العدالة، وحريٌّ به أن يصطفّ إلى جانب المضطهَدين لا إلى المضطهِدين.

تتجلّى مركزة التنمية في السودان في أوضح صورها في القطاع الصناعي، وهكذا كان أثر الحرب عليه. فقد احتضنت ولايَتَا الخرطوم والجزيرة وحدهما أكثر من 50% من المنشآت الصناعية الكبيرة في السودان. ونتيجة لذلك، تكبَّدَ الشعب السوداني كلّه خسائر اقتصادية فادحة في الولايات الست عشرة الأخرى، عقب بسط قوات الدعم السريع سيطرتها على أجزاء من الولايتين خلال ثمانية أشهر.

بعد حرب 15 أبريل، واجهت المؤسسات الصناعية المتوسّطة، التي حاولت الانتقال أو إعادة التأسيس خارج المركز، تحدّيات هائلة بسبب ضعف البنية التحتية. فالطرق الرديئة، وشبكات الكهرباء التي لا يمكن الاعتماد عليها، والمرافق غير الكافية؛ جعلت عملية الانتقال مُكلفة وغير عملية. وبهذا مرة أخرى، شكّلت المركزية عائقاً أمام التنمية، إذ غالباً ما يتطلّب تأسيس منشأة صناعية متوسّطة الحجم خارج المركز استثمارات ضخمة، مثل توصيلات الكهرباء الصناعية الغائبة في معظم أنحاء البلاد، أو حتى بناء طرق لنقل المعدّات والسلع. وقد كانت هذه التكاليف باهظة بالنسبة لمعظم هذه المؤسسات متوسطة الحجم. في المقابل، سلكت المؤسّسات الكبرى سلوك أرباب الأعمال الضخمة المُعتاد، فقد لعبت على المضمون، وركّزت على خفض التكاليف وتجنّب المخاطرة.

تماشياً مع الأنماط المُوثّقة في اقتصادات أخرى متأثّرة بالصراع – خارج السودان – لجأت معظم الشركات الكبرى في السودان إلى الفرار خارج البلاد، أو أعادت تَموضُعَها في المناطق الأكثر تنمية، مُتجنِّبة التكاليف الإضافية للعمل في المناطق الأقل نمواً والتي لم تكن لديها أي مصلحة في تطويرها. وقد أدّى ذلك بدَوره إلى انهيار القطاع الصناعي في السودان بصيغته السابقة، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول ملامح المشهد الصناعي في المستقبل. كيف يمكن لقطاع جديد أن ينشأ ويعمل، سواءٌ أكان في ظل الظروف الراهنة أم في سياق أكثر استقراراً؟ والأهم من ذلك، كيف يمكن جعله أقلّ هشاشة وأكثر قدرة على الصمود في وجه الصدمات الاقتصادية، بحيث يُسهم بفاعلية في الاقتصاد ويخدم المواطنين؟

لطالما كانت الحروب واقعاً ثابتاً في عالمنا، لا سيما في قارّتنا، وتُعدّ دراستها مجالاً بحثياً واسع النطاق. ويقع جزء كبير من هذا البحث تحت ما يُعرف بـ «اقتصاد الحرب»، وهو مجال قد يُتوقّع أن يسلّط الضوء على الجوانب الاقتصادية للصناعة خلال فترات الحروب؛ إلا أنّ الواقع مُغاير لذلك، فمعظم دراسات اقتصاد الحرب تركّز أساساً على الأنشطة المالية للجماعات المسلّحة، مع إيلاء اهتمام ضئيل للقطاعات الاقتصادية الإنتاجية، خارج نطاق الصناعات الاستخراجية والتصدير.

يؤدّي هذا التركيز الضيق على الأنشطة الاقتصادية العنيفة أو المملوكة من قِبَلِ النخب إلى خلق فجوة في فهم الحلول الصناعية الإنتاجية التي تخدم عامة الناس. وتعود هذه الفجوة البحثية إلى عاملَيْن أساسيَّيْن: الأول هو الأطر الأكاديمية النخبوية، التي لا تقتصر على عدم إعطاء الأولوية لمصالح الشعوب، بل غالباً ما تفشل حتى في رؤيتها. والعامل الثاني يَكمن في الأجندات السياسية والاقتصادية للحكومات والمؤسّسات التي تموّل الأبحاث، إذ تُوجِّه الدراسات نحو خدمة مصالحها الخاصة، سواءٌ أكان ذلك في استخراج الموارد من مناطق النزاع أم في ترسيخ سرديات تُصوِّر الأفارقة بوصفهم عاجزين عن الحكم الذاتي.

ويتغذّى هذان العاملان على بعضهما البعض، فالبحوث الأكاديمية النخبوية تُوفِّر معلومات تفيد المستغلّين أو تُعزِّز رواياتهم، بينما يُموِّل هؤلاء المستغلون أبحاثاً تتّسق ومصالحهم. والنتيجة هي خطاب حول اقتصاد الحرب يتجاهل الصناعات التي تُعيل الناس العاديين، ما يترك أسئلة حاسمة حول سبل النجاة الاقتصادية في أوقات الحرب دون إجابة.

إلا أنّ الواقع يرسم صورةً مُختلفةً عندما يتعلّق الأمر بالصناعة في السودان الذي مزّقته الحرب. فمن خلال تبنّي نهجٍ يُركِّز على الناس ويضع سُبل العيش في الصدارة، تتجلّى ضرورة الصناعة وقدرتها على الصمود. فقد شهدت الصناعات الصغيرة ومتناهية الصِّغر تطوّرات لافتة في استجابتها للحرب. ونتج عن النظام الصناعي المركزي توقّف معظم المصانع الكبرى خلال الساعات الأولى من الصراع، ما خلّف فجوة هائلة في السوق. وفي مواجهة ذلك، برزت المشاريع متناهية الصغر والصغيرة لسدّ هذا الفراغ.

فخلال بضعة أشهر، ظهرت المئات، إن لم يكن الآلاف، من مشاريع إنتاج الألبان لتعويض غياب شركة عائلية واحدة كانت تُهيمن على سوق الألبان السوداني بتعداده الذي يفوق الـ 40 مليون شخص. وبالمثل، انتعش إنتاج الصابون والمنظّفات على نطاق صغير، ليحلّ محلّ إنتاج عدد محدود من المصانع الكبرى التي كانت مملوكة لمُستثمرين من القطاع الخاص وأجهزة أمنية، وجميعها كان مقرّها الخرطوم. وتُظهر هذه الأنشطة الصناعية مُتناهية الصغر والصغيرة إمكانات حقيقية لتوفير السلع الأساسية، وخلق فرص عمل، وإدرار دخل، ودعم التصنيع اللامركزي.

تستحقُّ هذه التطوّرات التوثيق والبحث لمُعالجة التحدّيات التقنية، واضطرابات سلاسل الإمداد، واحتياجات التمويل. فمن شأن بحثٍ كهذا أن يُسهم في تحسين فرص الناس في تأمين سبل عيش كريمة في خضم الحرب، مثلما سيُساعد في تطوير سياسات اقتصادية تتمحور حول الناس والتخطيط الصناعي طويل الأمد. ومع ذلك، من غير الواقعي توقّع أن تُبدي المؤّسسات البحثية النخبوية أو صنّاع السياسات أو المموّلون اهتماماً بتطوير الاقتصاد والسياسة لمصلحة المستغَلّين، إذ إن القوى المستفيدة من الوضع القائم لا تملك أي دافع لفعل ذلك. بل إنّ هذه المهمة تقع على عاتق الباحثين الملتزمين اجتماعياً، الذين يسعون إلى تطوير سياسات صناعية تضع الناس في صميمها، وهي حقيقة تنطبق على العديد من المجالات البحثية الأخرى.

الأسئلة العالقة والإجابات المؤقّتة

إنّ الأزمات الإنسانية التي سبّبتها الحرب ليست جديدة على السودان. سواءٌ أكان الأمر متعلقاً بمئات الآلاف من الأطفال خارج المدارس، أم بانعدام الوصول إلى الرعاية الصحية الحيوية، أم بالتهجير القسري، أم البطالة، أم الجوع، أم العنف الذي تمارسه جهات مسلّحة متعدّدة، فقد شهدت البلاد هذه المآسي من قَبل. لكن ما فعلته الحرب الحالية، هو أنها زادت إلى حدٍّ هائل من نسبة السكّان المعرّضين لمستويات أعلى من الاستغلال والعنف. وعلى ذلك، لا يُعدّ أي وجه من أوجه هذه المعاناة جديداً، ولا هو محض نتيجة مؤقّتة للحرب، إنما هو متجذّر في مشكلات بنيوية وهيكلية، ومن بينها المركزية، التي سبق تناولها، باعتبارها أحد العوامل الأساسية وراء معاناة السودان الممتدة.

وهذا يطرح أسئلة جوهرية: لماذا لم نركز على أنظمة تعليمية لا مركزية في وقت مبكر، حين كان بإمكان الأطفال في جميع أنحاء البلاد الاستفادة منها لعقود؟ لماذا لم تُنظَّم فرق صيانة الكهرباء على مستوى الأحياء، بحيث تعمل إلى جانب المنظمات القاعدية لتقديم خدمات أسرع وأكثر كفاءة؟ تستحقّ هذه القضايا مزيداً من البحث، لا سيّما في ما يتعلّق بالعوائق المنهجية والمعرفية التي تَحُول دون تطوير حلول وخدمات أكثر فاعلية.

والأهمّ من ذلك، تتيح الحرب فرصة للتعلّم من هذه الإخفاقات. فبدلاً من السعي للعودة إلى نظام معيب، يتعيّن أن نستفيد من هذه الدروس في بناء هياكل جديدة تخدم الناس في أصعب الظروف وتكييفها لتحسين الأوضاع في المستقبل. ليس بخفيّ أن تحدّيات السودان ذات طبيعة هيكلية وطويلة الأمد، وعليه ينبغي أن تَرْقى أي حلول لمستوى تلك التحدّيات.

تبرز بوضوح في مجال الصناعة، لا سيّما التصنيع، المشكلات المنهجية للبنية التحتية والتنمية المركزيّتين، وكذلك تداعياتها، إذ إنّ أكثر من نصف القوى العاملة عاطلة عن العمل، ولا تزال إمكانية الحصول على السلع والخدمات محدودة للغاية في الأطراف. كان هذا حال كثيرٍ من الناس قبل الحرب، وأصبح أكثر تفاقماً بعدها.

على كلّ حال، يمكن إيجاد مسار يُعنى بمعالجة هذه الأزمة الصناعية في مبادرات التصنيع الصغيرة ومتناهية الصّغر التي نشأت خلال الحرب. ومن غير ريب، لا يُمثّل التصنيع على نطاق صغير وحده الحلّ، إذ تظل الصناعات الأكبر والأنشطة الاقتصادية الأخرى ضرورية. وإن يكن ذاك هو الواقع، فقطاع التصنيع يستحقّ عنايةً جادة، ليس فقط بسبب المرونة والإمكانات التي أظهرتها هذه المشروعات الصغيرة في ظلّ الحرب، ولكن أيضاً لدَوره المحوري في التنمية الاقتصادية والديمقراطية الأوسع في السودان. فعند مقارنته بالأنشطة الاقتصادية الأخرى، مثل التجارة أو الزراعة، أثبت التصنيع قدرته على تحقيق أعلى الإيرادات، وخلق أكبر عدد من فرص العمل، ودعم نموّ الأعمال المرتبطة به. تجعل هذه السِّمات قطاع التصنيع الأكثر قدرة على تحسين سبل العيش أثناء الحرب، مع تمهيد الطريق أيضاً لتنمية وطنية شاملة وتوفير الإيرادات اللازمة لتغطية تكاليف الخدمات العامة الأساسية.

لذلك، يجب أن تكون الجهود الجادّة والمرتبطة بالسياق نحو التصنيع جزءاً من الحلول طويلة الأمد لتحديات السودان المنهجية. بينما يعالج التصنيع هذه المشكلات عميقة الجذور، فإنه يؤدّي أيضاً دَوراً أساسياً في تلبية الاحتياجات العاجلة عبر تحسين سبل العيش وخلق الفرص الاقتصادية. إنّ الدروس المُستخلصة من المبادرات التي يقودها المواطنون، والعقبات التي فرضتها الأنظمة المعادية لمصالحهم، تمثل موارد لا تُقدّر بثمن. وعلى ذلك، فإنه يتعيّن على أي استراتيجيات أو أبحاث تتعلّق بالتصنيع، سواءٌ أكانت في الحاضر أم المستقبل، أن تسترشد بهذه الحقائق إذا كانت تسعى حقاً لخدمة مصالح الناس «المستغَلّين».

Scroll to Top