أتر

متى يخرج أفندية السياسة من البدلة الميري؟

الصورة من صفحة مجلس السيادة الانتقالي على فيسبوك

ظهَر الفريق عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلّحة، أمام اجتماعٍ للقوى السياسية والمُجتمعية في مدينة بورتسودان السبت الماضي 8 فبراير. بدأ خطابه بتذكير الجميع بأنّ حال الجيش والسيادة أفضل مما كان عليه في العامين الماضيَيْن. وردَّ الفضل في ذلك على نحو أساسي إلى الناس الذين بذلوا كلّ ما لديهم لصدّ هجمات الدعم السريع على مدن البلاد وقراها، وأعادوا الجيش إلى سوح القتال بعد «الصّدمات الأولى»، بحسب تعبيره.

مُتَّشحاً بأخبار انتصارات الجيش في ولايات الخرطوم، والجزيرة، وسنار، وكردفان؛ اعتلى الفريق البرهان منصّة الحديث أمام حشدٍ من السياسيِّين، تجمَّعوا في مدينة بورتسودان، وهمّهم الأساسي أن يُباركهم الفريق بجعلهم «حاضنة سياسية»؛ لكن البرهان لم يكن مُهتمّاً بما جاء في توصياتهم، والحقيقة أنه لم يطّلع عليها كما قال. إنه يَعرف الحاضرين بوجوههم وأسمائهم ومواقفهم من الجيش، لذا تعامَل مع الأمر في إطار المُجاملات وليس السياسة.

قال الفريق البرهان: «لم أجد الفرصة للاطّلاع على كلّ ما جاء في المداولات». إنّ ما يهمّه حقاً هو أنّ القوى المُجتمِعة أمامه قد اجتازت اختبار الوطنية بمُساندتها القوات المسلّحة، وهذا كفيلٌ بأن يجعل توصياتهم محلَّ الاهتمام والرعاية.

غير واضح ما يعنيه بالاهتمام والرعاية، لكنه ترك التنفيذَ – وهو الأمر المُهمُّ – مُعلَّقاً بشروط قاسية، مثل أن يشمل الحوارُ الجميعَ، وأن يتوافق أهل السودان، فعلى عاتقهم تقع مسألة التنفيذ. أما دَورُه هو، فينحصر في المُباركة والتأييد. السؤال هو: أين يرى الفريق البرهان موقعَه الآن أو مستقبلاً؟ إنه يتحدّث دائماً بضمير الجماعة: «نحن قلنا، نحن نرى، نحن ندعم»… وهكذا. يعني ذلك في ما يعني، أنّ القرار ليس بيده فحسب، ومن غير الواضح هوية شركائه الذين لا يمكنه تجاوزهم، ومن أين جاء تأثيرهم؟

للناس نظرياتٌ في ذلك، منها أنّ الإسلاميين هم الذين يَرسمون خطوات الفريق البرهان، وأنهم مصدر القرارات الحربية والسياسية والدبلوماسية. أوّل من أخرج هذه النظرية هو محمد حمدان دقلو أوائلَ أيام الحرب، وتبعته في ذلك جماعة «تقدّم» والمدنيون، وعددٌ غير محدود من المُحلّلين والكُتّاب. حتى الآن، فشل هؤلاء في تقديم أدلة دامغة على صحّة هذه النظرية، سوى عرْض أدلة ظرفية مُتفرّقة جُمِعَتْ لتصنع رواية واحدة مشوّهة.

نظرية أخرى، تقول إنّ التحالفات حول الجيش وداخله مُتناقضة المصالح، وجميعها قائمة على ظروف الحرب المرحلية، ويعتريها غياب استراتيجية واضحة وموحّدة للخروج من الحرب. في هذه الحالة، فإنّ الحرب ليست خياراً حتمياً، لكنهم مَسجونون في هذه الحالة، ولا يعرفون ما بعدها؛ بينما يبدو خيارهم المتاح الآن هو الانتظار داخل حالة الحرب، إلى حين اتضاح خطة الخروج.

تدعم هذه النظريةُ حقيقةَ يوميّاتِ الحرب وتفسِّر التقدّم العسكري للجيش. حدَثَ هذا التقدّم بعد استنفار شعبي كبير وتكوين مجموعات قتالية دافعها الأول «الحماية الذاتية». يصحُّ القول أنّ المجموعات التي تُقاتل الآن هي في حقيقتها مجموعات مُسلّحة مُتعدِّدة، جميعها أرادت رمزية القوات المسلحة بوصفها شرعيةً للقتال. تشمل هذه المجموعات المقاومة الشعبية، وحركات مسلّحة لها تاريخ في العمل المسلّح والمُنظّم، وكتيبة البرّاء بن مالك وقوات درع السودان وأمثالهما.

في كلا الحالين، يضع الناس الفريق البرهان في صندوق توقّعاتهم، لكن ليس في إطار تفويض ممنوح له، وإنما بصفته التي نالها في إطار توافقي ضيّق داخل اللجنة الأمنية لنظام عمر البشير.

أضعفت المُلابسات التي جاءت بالفريق البرهان إلى السُّلطة من موقفه، ووضَعَتْه دائماً موضع المُتبنّي لقرارات مجموعةٍ ما، وليس بالضرورة قراره بالأصالة.

ومنذ تلك اللحظة، تعيَّنَ على الفريق البرهان أن يتعامل مع تناقضات اللجنة الأمنية نفسها، ثم تناقضات الدعم السريع مع القوات المسلحة، وتناقضات القوات المسلحة نفسها، وتناقضات القوى السياسية والقوى العسكرية في المُجمَل. هذا الوضع جعله يتجنَّبُ المُواجهة، وفي كُلِّ مرة يُصدِر فيها قراراً، تكون نتيجته كارثية، ليتراجع عنه لاحقاً، ببساطة لعدم إلمامه بتفاصيل ذلك القرار وحيثياته، والذي لم يكن بالضرورة قراره؛ لكنه باركه.

تكرَّر هذا النمط منذ أن جاء الفريق البرهان على رأس المجلس العسكري الانتقالي في أبريل 2019. بعد أقلّ من ثلاثة أشهر، فضّ اعتصاماً سلميّاً أمام القيادة العامة للجيش بكُلِّ قوة مُتاحة لديه، قُتل فيه أكثر من مائتي معتصم ومعتصمة. وخرج في خطاب شهير يوم 4 يونيو 2019، مُعلِّقاً الترتيبات السياسية التي كانت جارية مع القوى السياسية والمدنية، ووَعَد بتكوين حكومة تصريف أعمال تُدير المرحلة الانتقالية حتى تنظيم انتخابات خلال 9 أشهر.

ما حدث أنه أعاد الحوار مع القوى السياسية في 30 يونيو، ووقّع معها وثيقة سياسية أسّست للمرحلة الانتقالية.

جاء قرار فضّ الاعتصام بتشجيع من قوات الدعم السريع، وهي التي تحمّست له ودفعت له الأموال وشاركت في التخطيط، وكان الفريق البرهان ومعه جميع قيادات الجيش مُبارِكين ومؤيّدين. لم يُحقّق فضّ الاعتصام أيَّ مصلحة للقوى العسكرية التي نفّذته، بل أرغمها على توقيع الوثيقة الدستورية، وكان محمد حمدان دقلو هو صاحب التوقيع، وبارك البرهان وأيّد أيضاً.

في أكتوبر 2021، استجاب الفريق البرهان إلى ضغوطٍ مُتتالية من ضباط القوات المسلحة لفضّ شراكة الجيش مع القوى السياسية، ولم يكن أمامه خيار غير تأمين موافقة محمد حمدان دقلو، ومن ثم مباركة مطالب الضباط بالانقلاب. وَعَد الفريق البرهان بتكوين حكومة انتقالية خلال أسابيع، ثم مدّدها لأشهر، ولم يُعيّن الحكومة حتى نشبت الحرب، وقبلها بارَكَ الاتفاق الإطاري تارة وأيَّدَ رفضه تارةً أخرى.

تُدرج القوى السياسية والمدنية مشكلة الفريق البرهان ضمن سلسلة طويلة من تدخُّل الجيش في السياسة. وهذه حقيقة يُثبتها التاريخ والسياسة، لكنها مع ذلك تُظهر جانباً وحيداً في المسألة، يتعلّق برغبة جنرالٍ في حكمٍ لن يتحصَّل عليه دون رغبة دفينة للقوى السياسية في وجود جنرال ما في الحكم. وهي قوى سياسية، أو قُل نخبة اجتماعية أعجزتها السياسة التنافسية، وحاولت مراراً وتكراراً استبدالها بالتوافق الصامت، وفشلت؛ لذا تجدها الآن تتنافس حول حيلتها المجرّبة الوحيدة: من يكون «حاضنة الجيش السياسية» في المرحلة القادمة؟

Scroll to Top