
بينما كان الشاب محمد أحمد (28 عاماً) – وهو يقطن حي الصحوة مربع 2 شمال غرب مدينة الأبيّض – يلعب كرة القدم بميدان حيّه في المدينة، سقطت دانة وقتلت والده وبعض جيرانه أمام عينيه. أصيب محمد بعدها باضطرابات نفسيّة، وظلّ يَتدَاوَى من آثارها لأكثر من عام دون تحسّن ملحوظ.
ففي يوم الجمعة 21 يوليو 2023، أثناء لعبه مع أقرانه في ميدان الحي، حدث اشتباك في حي حسيب المجاور لحيّهم، وعلى نحو مفاجئ رأوا الدانات تعبر فوق رؤوسهم فتوقّفوا فوراً عن اللعب. سقطت كثيرٌ من الدانات في الاتجاه الغربي للميدان لدرجة أنه امتلأ بالغبار، فظنّوا أن إحدى الدانات وقعت بينهم، لكن بعد أن تحرّك محمد تجاه منزله مع بعض أصحابه سمعوا صراخاً. وعندما وصل اكتشف أنّ دانة أصابت قرابة عشرة من الرجال كانوا يجلسون أمام باب منزل أحد الجيران يتجاذبون أطراف الحديث مع الغروب. وقد وجدوا عدداً من السكّان يرفعون الموتى والمصابين وكان والده منهم. رأى محمد والده وقد اخترقت الشظايا جميع أجزاء جسده من الرأس حتى القدمين، وقد خرجت أمعاؤه من الجانب الأيسر من الجسم. وُضع الوالد في سرير وحُمِلَ على عربة «تُكتوك». عندها أحسّ محمد أنه لم يعد طبيعياً وأنه أصيب بما يشبه الهذيان ولم يعد يتبيّن حقيقة الأشياء. وصلوا إلى مستشفى السلاح الطبي ثم حُوّلوا إلى المستشفى التعليمي، حيث أجريت عملية جراحية لوالده، لكن بعد أسبوع فاضت روحه. لم يعد محمد يستطيع النوم ويسهر حتى الصباح، وأحياناً أخرى ينام ليومين متتاليين. تُعدّ اضطرابات النوم هذه أحد أعراض مرض توتّر ما بعد الصدمة الذي شُخّصت به حالة محمد. وبعد أكثر من عام من المعاناة والتردّد على الأطباء ما زال لا يحسّ بتغيير ملموس.
في حديثها لـ «أتَـر»، أفادت الطبيبة النفسية مواهب إبراهيم، التي تعمل بالأبيض، بأنّ اضطراب ما بعد الصدمة الحادّ يحدث ما بين يومين إلى شهر من التعرّض للصدمة، وقد تتضمّن الأعراض استرجاع الأحداث، والكوابيس، والقلق الشديد، إضافة إلى الأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها بخصوص الحدث. وبالنسبة للأطفال، يمكن أن تشمل الأعراض التبوّل الليلي. وما بين شهر إلى ستة أشهر من تاريخ التعرّض للحدث، تظهر أيضاً أعراض القلق العام، والرهاب المجتمعي، والوسواس القهري، ونوبات الهلع. أما أعراض الاكتئاب والفصام فتظهر بعد سنوات. وفي السياق ذاته، تزيد وسط الشباب نسبة استخدام المواد المخدّرة وتكثر معدّلات الانتحار أثناء الحرب، ويتفاقم الأمر كلّما تطاول أمد الحرب.
مزيج من الرُّقية والدّواء
«أحداث الحرب من عوامل التوتّر عالية الحدّة والخطورة في وقتها، رغم أنها منخفضة التكرار، بمعنى أنها لا تَحدُث كلّ يوم كالموت والطلاق»؛ هكذا تصفها الطبيبة مواهب إبراهيم، وتضيف أنّ الحرب تعدّ أحد عوامل التوتر النفسي بسبب أحداثها، مثل إطلاق الرصاص، وأصوات المدافع والطيران، وفقدان الأشخاص، والمشاهد العنيفة؛ فضلاً عن العوامل الاجتماعية مثل فقدان العمل الذي يؤثّر على الجانب المادّي، وفقدان الإحساس بالأمان والخوف من الانفصال عن الأسرة، سواءٌ أكان بالموت أم التشتّت، وفقدان الخصوصية في أماكن النزوح واللجوء، وتغيّر أسلوب الحياة الذي تعوّد عليه الشخص، فضلاً عن التأثير الناتج عن نقص الطعام والأدوية. «تؤدّي جميع هذه التأثيرات إلى إحدى حالتين: إما حدوث انتكاسات لأشخاص يعانون أساساً من أمراض نفسية، أو ظهور أمراض نفسية لأشخاص لم تكن لديهم من قبل»، تقول مواهب.
إنّ أكثر فئة تتردّد على عيادتي هم نازحو الخرطوم، فقد أثّر عليهم تغيّر أسلوب الحياة، وأبرز تشخيصاتهم القلق والاكتئاب وانفصام الشخصية. وهذه الأمراض ليست ناتجة عن صدمة الحرب، لكن السبب المباشر هو تغيّر أسلوب الحياة وانعدام الخصوصية
بعد نزوحها من الخرطوم إلى مدينة الأبيض، أصيبت نهال عوض بعدة أعراض، مثل الزيادة في معدل ضربات القلب، والخدر والتنميل في اليدين والقدمين ونوبات هلع. شُخّصت حالتها في البداية بمرض الملاريا، لكن مع استمرار الأعراض قال الأطباء إنها ربما تعاني من مضاعفات دواء الملاريا (artesunate). ذهبت نهال في أحد الأيام لتأدية واجب عزاء، فعادت إليها الأعراض السابقة على نحو بالغ، ما دفع ابنة خالتها للتفكير في أنها ربما تعاني من مرض نفسي وليس عضوياً. لجأت نهال للرقية الشرعية أولاً، التي لم تكن وحدها مُجدية في السيطرة على الأعراض، لكن الرقية مع العلاج الدوائي صنَعَا مزيجاً ذا أثر على حدّ وصفها. تحكي نهال لـ «أتَـر» أن نوبات الهلع التي أصابتها بعد الحرب كانت نتيجة لتراكم الأخبار الصغيرة المتعلّقة بالحرب والتي تراها وتسمعها يومياً، وتضيف: «تحسّنت حالتي كثيراً الآن ولم تعد تعاودني الأعراض إلا عند منتصف الليل، وهو أول وقت ظهرت فيه الأعراض، لكني أمارس خلال ساعات النهار نشاطي الطبيعي».
تقول د. مواهب، إنّ أكثر فئة تتردّد على عيادتها هم نازحو الخرطوم، فقد أثّر عليهم تغيّر أسلوب الحياة، وأبرز تشخيصاتهم القلق والاكتئاب وانفصام الشخصية. وتشير إلى أنّ هذه الأمراض ليست ناتجة عن صدمة الحرب، لكن السبب المباشر هو تغيّر أسلوب الحياة وانعدام الخصوصية، فالأسر في الأقاليم والولايات ممتدّة، وإيقاع اليوم أبطأ، وأوقات الفراغ واسعة، كما أن أماكن الترفيه أقلّ. أضف إلى ذلك ضيق المعيشة الذي تعاني منه الأسر.
العلاج متعذر
نادراً ما يوجد أكثر من اختصاصي نفسي واحد في الولاية، بل إنّ اختصاصياً نفسياً واحداً يقدّم خدماته لولايات كردفان جميعها، جنوباً وشمالاً وغرباً
عد وصول الحرب إلى مدينة الأبيّض، تدهورت الخدمات الصحيّة بمستشفى الأبيّض التعليمي، وتوقّفت العلاجات المجانية والعلاجات عن طريق التأمين الصحي وديوان الزكاة، كما توقّفت خدمة التنويم لأكثر من 24 ساعة داخل المستشفى، وانقطعت خدمة الزيارات المنزلية.
يوجد بالمستشفى التعليمي قسم للأمراض النفسية ينفرد عن الأقسام الأخرى بطابع يميزه، لكنه بات دون اختصاصيين بعد الحرب، خاصة بعد أن أضرب العاملون فيه لعدة أشهر، ولا يوجد سوى طلاب الامتياز لاستقبال حالات الطوارئ. لكن مع ذلك ما زالت بعض العيادات النفسية الخاصة تعمل داخل المدينة.
وبحسب مصدر طبّي بقسم الطب النفسي، تحدّث لـ «أتَـر»، فإنه نادراً ما يوجد أكثر من اختصاصي نفسي واحد في الولاية، بل إنّ اختصاصياً نفسياً واحداً يقدّم خدماته لولايات كردفان جميعها، جنوباً وشمالاً وغرباً. لقسم الطب النفسي بمستشفى الأبيض التعليمي عنبر يتبع له ويقع داخل المستشفى، وهو للتنويم لفترة طويلة، ومع الحرب لم تعد تتوفر به خدمات طوارئ، بل يُستقبَل المرضى في طوارئ الباطنية لمدة 24 ساعة، وبعد التحقّق من أنّ الحالة نفسية يُستدعى الطبيب النفسي، الذي يقرّر تحويل المريض للعيادة المحوّلة أو حجزه في العنبر.
أُسّس قسم الطب النفسي في مستشفى الأبيّض التعليمي في مطلع السبعينيات، على يد الدكتور شيخ إدريس، وهو أحد روّاد الطب النفسي في السودان بعد التيجاني الماحي وطه بَعشر. والقسم عيادة محوّلة تتكوّن من عدة مكاتب، فهناك مكتب الطبيب الاختصاصي وملحقة به مكاتب الأطباء العموميين والمساعدين الطبيين. ويوجد مكتب للتمريض ملحق به عنبر للإقامة القصيرة لتنويم لا يزيد عن 24 ساعة للمرضى المتهيّجين. أما مكتب الباحثين الاجتماعيين، فإنه يختصّ بدراسة الحالة الاجتماعية وحلّ المشكلات الاجتماعية للمرضى، ويوفر العلاج عن طريق شراكات مع التأمين الصحي وديوان الزكاة والمنظّمات الخيرية. إضافة إلى مكتب الخبراء النفسيين المختصّ بدراسة الحالة النفسية ومحاولة معالجة أسباب التوتر التي أدّت لظهور المرض، كما يقدّم خدمة العلاج عن طريق الجلسات كمكملّ للعلاج الدوائي ومهارات حلّ المشكلات والتعامل مع الغضب وتمارين الاسترخاء والتأقلم مع المشكلات. وأخيراً هناك المكتبة حيث تُحفظ ملفّات أو أرشيف المرضى، ولا يُسمح للمريض بأخذ ملفه خارج القسم. وتضمّ المكتبة ملفّات تعود إلى الثمانينيات والتسعينيات، إلى جانب أرشيف مراسلات القسم وملحق به مكتب الحاسوب الذي أضيف عام 2009.
جهود للتأقلم
بعد نشوب الحرب، نشطت عدة منظمات في مجال الصحة النفسية في الأبيّض، منها Plan International Sudan وSave the children، إضافة إلى الهلال الأحمر السوداني. تعمل هذه المنظمات منفردة أو بالشراكة مع وزارة الصحة، التي تقدم الفريق الفني أو التقني والخبراء النفسيين والباحثين الاجتماعيين، من قسم الطب النفسي أو من وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل. يتركّز عمل هذه المنظمات في معسكرات النازحين، إضافة إلى بعض دُور الإيواء في المدارس. يُصنِّف العاملون في تلك المنظمات الحالات التي يشخّصها الطبيب المتعاقد معها، سواءٌ أكان اختصاصياً، طبيب أسرة أم طبيباً عمومياً، لتحديد ما إذا كانت الحالة خفيفة أو متوسطة أو حادة.
تقدّم تلك المنظّمات كذلك خدمات الدعم النفسي والإسعافات النفسية الأولية للنازحين داخل المعسكرات ممن ليست لديهم أمراض نفسية.
تقول د. مواهب: «خلال الحرب يُضْحي تعلُّم الإسعافات النفسية الأولية ضرورة، وهي بروتوكول سهل يمكن تقديمه في ورشة عمل لمدة سبعة أيام، ويُفضَّل أن تُعمَّم وتصير جزءاً من المناهج. وهي بروتوكولات وضعتها منظمة الصحة العالمية يقدَّم فيها إرشاد نفسي ومهارات للتأقلم مع المشكلات وتمارين الاسترخاء، تُقدَّم للكبار والصغار لمساعدتهم على مقاومة الصدمات النفسية التي تسبّبها الحرب، وللوقاية من حدوث آثار نفسية مدمرة».