أتر

دفتر أحوال السودان (66): من القِطِينة والرَّهَد أبو دَكَنة وشرق النيل

القِطِينة: مجزرة ونزوح

في خطوةٍ تُعدّ الأولى من نوعها بولاية النيل الأبيض، تعرّضت مدينة القِطينة لهجوم عنيف شنّته قوات الدعم السريع، أسفر عن مقتل العشرات، لا سيما في الحيَّيْن الخامس عشر والسادس عشر، المعروفَيْن محلّياً بـ «الكداريس» و«الخلوات».

وأكّد شهود عيان لـ «أتَـر»، نزوحَ كثيرٍ من سُكّان المدينة، وأنّ معظمهم قد لجأوا إلى قرية الشيخ الصدّيق عبر القوارب النيلية، في ظلّ أوضاع إنسانية صعبة. وأضاف الشهود أنّ بعض الفارّين قُتلوا برصاص المهاجمين أثناء عبورهم النيل، ولقي أكثر من 20 شخصاً حتفهم غرقاً.

في السياق ذاته، أفاد مصدر طبّي بمستشفى الدويم التعليمي مراسل «أتَـر»، بوصول 13 مصاباً من حيَّي «الكداريس» و«الخلوات»، نقلهم دفّار من قرية الشيخ الصدّيق بمحلية القِطينة إلى محلّية أم رِمْتة، ومنها إلى الدويم. وأوضح المصدر أنّ هناك حالة حرجة استدعت نقلها إلى مستشفى كوستي لتلقّي العلاج.

في الأثناء، أصدرت وزارة الخارجية السودانية بياناً أكّدت فيه مقتل 433 شخصاً بالقطينة جرّاء الهجوم، مُعتبرةً ما جرى «أسوأ مجزرة ترتكبها قوات الدعم السريع بعد جرائم الإبادة الجماعية في الجِنينة وأردَمَتا». في المقابل، أعلنت شبكة أطباء السودان مقتل 23 شخصاً داخل منازلهم في حي «الكداريس»، فضلاً عن نزوح جماعي لسكان المنطقة.

وقال أحد سكان الحي الخامس عشر المعروف بـ«الكداريس» لمراسل «أتَـر»، إنّ معظم أهله قد نزحوا دون معرفة الأسباب التي دفعت قوات الدعم السريع للهجوم عليهم، وأوضح أنّ انقطاع الاتصالات والإنترنت حال دون الحصول على إحصائية دقيقة لعدد الشهداء والمفقودين. وأضاف أنّ بعض أفراد أسرته لجأوا إلى قرية الشيخ الصدّيق، بينما لجأ آخرون إلى جزيرة وسط النيل هرباً من رصاص المهاجمين.

على وقع هذه المجزرة، أعلن الجيش السوداني استعادة السيطرة على عدة قرى وبلدات بمحلية القِطينة، بينها «قهاوي التيتل»، «ود الزاكي»، «نِعِيمة»، «كمبو محمد»، «الحاج موسى»، و «شَبُونة». وأجرى القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان تغييرات على قيادة الفرقة 18 مشاة بولاية النيل الأبيض، فأقال قائدَها وعيّن اللواء ركن جمال جمعة خلفاً له، في خطوةٍ اعتبرها مراقبون محاولةً لاحتواء تداعيات الهجوم والانتهاكات الواسعة التي شهدتها المنطقة.

وبحسب مصدر محلّي بمدينة القطينة تحدث لمراسل «أتَـر»، فإن من بين هذه الانتهاكات اعتقال ثلاثة أشخاص في الحي الثاني، المعروف بـ «الشرفاء». وذكر المصدر أنّ الدعم السريع قد طالبت عائلات المعتقلين بدفع 200 مليون جنيه سوداني لإطلاق سراحهم، مهدّدة بقتلهم في حال عدم الاستجابة.

وأضاف المصدر أنّ مستشفى القِطينة التعليمي لا يزال متوقّفاً عن العمل، وسط انقطاع التيار الكهربائي والإمداد المائي، إلى جانب شحٍّ حادّ في المواد الغذائية والدواء. وأكّد أنّ المحلية تعاني أوضاعاً إنسانية متدهورة منذ سيطرة قوات الدعم السريع عليها في ديسمبر 2023م، إذ لم تصل بعدها أي مساعدات أو إغاثات للأسر، ما فاقم معاناتها.

وتدور بالقرب من منطقة النزيهة بمحلية القطينة اشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ فجر الثلاثاء، حيث يحاول الجيش دخول المنطقة التي تُعدّ واحدة من أكبر تمركزات قوات الدعم السريع. ولا تزال المعارك مشتعلة، وسط استخدام مكثف للأسلحة الثقيلة.

في الأثناء، أكد مصدر أمني لـ «أتَـر» وصول 15 إصابة في صفوف الجيش السوداني إلى مستشفى الدويم التعليمي، جرّاء الاشتباكات المستمرة منذ يومين. ولم تَرِد حتى الآن معلومات دقيقة عن حجم الخسائر في صفوف الطرف الآخر.

الرَّهَد أبو دَكَنة: تأخُّر عودة الخدمات وبسط الاستقرار يُقلق السكّان

بعد معارك ضارية خارج المدينة، استطاع الجيش بسط سيطرته على الرّهد أبو دكنة، بولاية شمال كردفان التي شهدت انتهاكات مروّعة من قتل ونهب وحرق للمنازل منذ أن سيطرت عليها قوات الدعم السريع في مايو 2023.

وكانت الدعم السريع قد بدأت انتشارها في ولاية شمال كردفان بالتزامن مع بداية الحرب في الخرطوم منتصف أبريل 2023، وسيطرت على مدينتَي أم روابة وود عَشَانا في أغسطس وأكتوبر على التوالي، وتمدّدت حتى حدود ولاية النيل الأبيض، قبل أن يبدأ الجيش هجوماً معاكساً في مايو 2024 مستعيداً مدينة ود عشانا الواقعة على بُعد حوالي 7 كيلومترات من مدينة تندلتي بولاية النيل الأبيض.

وتقدَّم الجيش نحو أم روابة في ديسمبر 2024 واستردّها في نهاية يناير الماضي قبل أن يسيطر على مدينة الرهد في 18 فبراير الجاري.

بفعل وصول الجيش إلى مدينة الرهد، التي تبعد حوالي 60 كيلومتراً عن مدينة الأبيّض، صارت المنطقة المُمتدّة من شرق ولاية شمال كردفان وجنوبها إلى حدود ولاية جنوب كردفان خارج سيطرة الدعم السريع التي نقلت مقرّ قيادتها من أم روابة إلى مدينة الدِّبيبات غرب الأبيض، وفقاً لإفادات خاصّة حصل عليها مراسل «أتَـر».

وقالت المصادر التي طلبت حجب هوياتها لدواعٍ أمنية، إنّ قوةً من الدعم السريع مدجّجةً بأسلحة ثقيلة قد تحصّنت بجبل كردفان والمناطق الوعرة الواقعة شرق مدينة الأبيّض، معطِّلةً بذلك تقدُّم الجيش.

وأفاد مصدر عسكري متقاعد بأن وصول الجيش إلى مدينة الرّهَد يفتح الطريق إلى ولاية النيل الأبيَض ويسمح بتدفّق السلع الاستهلاكية ويمكّن من محاربة انتشار الشفشافة وعمليات السرقات والقتل خارج القانون التي روّعت السكّان خلال المدة الماضية، لكنه قد لا يساعد كثيراً في فتح الطريق إلى مدينة الأبيّض لأنّ تحصينات الدعم السريع في جبل كردفان والمناطق القريبة منه تجعل تقدّم الجيش عبر الطريق القومي «طريق الصادرات الغربي» مُخاطرةً لا تحقّق الغرض منها بدخول الأبيّض.

وبحسب المصدر العسكري السابق، فإنّ أسهل المَحاور لفكّ الحصار عن الأبيض هو محور النهود، وفسّر ذلك بأنّ أكبر قوة عسكرية بولايات كردفان، بعد القوّة الموجودة داخل الأبيّض، تتمركز في مدينة النهود بولاية غرب كردفان.

 وحتى إذا لم يتمكّن الجيش من فكّ الحصار عن مدينة الأبيّض قريباً وإزاحة الدعم السريع عن ارتكازاتها في جبل كردفان، تظلّ سيطرته على مدينة الرهد ذات أهمية كبرى لجميع سكان المنطقتين الشرقية والجنوبية من ولاية شمال كردفان.

وقال محمد يوسف من قرية برتي الواقعة جنوب خور أبو حبل، إنّ وصول الجيش إلى مدينة الرّهَد قد أعاد الاستقرار إلى المنطقة، إذ اختفت مظاهر الانفلات الأمني؛ وأخبر مراسل «أتَـر» بأن سكّان القرى قريباً من العباسية تقلي، شمال شرق ولاية جنوب كردفان، قد عادوا إلى منازلهم بعد انحسار انتشار الدعم السريع في المنطقة.

وقالت مصادر محلية إنّ سكان 13 قرية جنوب خور أبو حبل كانوا قد نزحوا منذ أن سيطرت الدعم السريع على المنطقة في أغسطس 2023، والآن بدأوا في العودة إلى قراهم. كذلك عاد سكان 7 قرى تقع شرق وشمال أم روابة منها قرية ود شلكيت وود جانقلي والغبشة والشيخ مختار.

ومن أشد الأحداث دموية في الفترة التي كانت تسيطر فيها الدعم السريع على المنطقة كانت أحداث قرية أبو حميرة التي شهدت مقتل 40 شخصاً من سكانها وحرق 20 متجراً و25 سيارة بينها 18 لوري. ويقول أحد سكّان القرية، إنّ الواقعة كانت في مايو 2023 عندما هاجمت قوة مسلّحة بما يزيد عن 20 عربة عسكرية القرية بسبب مقتل 3 أفراد من الدعم السريع جرى اتّهام سكان القرية بمقتلهم.

وعلى الرغم من تأخّر عودة الخدمات بسبب الدمار الكبير الذي لحق بالمرافق الخدمية بالمدينة، يصف مسؤول حكومي بمحلية أم روابة أنّ تحرير مدينة الرهد يمثّل ركيزة مهمة لإعادة الخدمات وبسط هيبة الدولة في بقية أجزاء الولاية. وعمت مدينة الرهد احتفالات المواطنين باستعادتها. وبدأت شبكة سوداني للاتصالات العودة إلى العمل لكن على نحو ضعيف.

وأكّد المسؤول الذي فضّل حجب اسمه لأنه غير مخوّل بالحديث للإعلام، أن السّلطة التنفيذية سوف تهتم بعودة الاستقرار للمنطقة وأنّ الجيش يتجه لفكّ حصار مدينة الأبيّض.

شرق النيل: عمليات عسكرية، عودة وأسواق جديدة

تزحف قوات الجيش السوداني والقوات المتحالفة معه، نحو محلية شرق النيل بعد إتمام سيطرتها على محلية الخرطوم بحري. تقع محلية شرق النيل تحت سيطرة الدعم السريع منذ بدء حرب 15 أبريل 2023، وبها أكبر الحشود العسكرية لهذه القوات في ولاية الخرطوم.

وفقاً لمصادر محلية تحدثت لمراسل «أتَـر»، تتسم محلية شرق النيل بكثافة سكانية عالية منذ بدء الحرب، إذ لم ينزح منها عدد كبير من المدنيّين، ومَن اضطروا للنزوح عادوا، وفي الآونة الأخيرة وفدت إليها أعداد كبيرة من سكان مناطق الدروشاب والسامراب، بعد اشتداد المعارك في شمال محلية بحري.

أكّد شهود عيان تحدّثوا لـ «أتَـر»، أنّ قوات الدعم السريع بدأت بموجات انسحاب كبيرة من شرق النيل، آخذين معهم أجهزة الاستارلنك، لذلك انقطعت الاتصالات عن المحلية ما عدا مناطق قليلة، وتعذَّر التواصل مع المدنيين هناك. وأكّدوا أيضاً أنّه لم تتبقّ من هذه القوات إلا أعداد قليلة، إضافة إلى من انضموا بعد الحرب من أبناء المنطقة إلى الدعم السريع.

ومنذ نشوب الحرب، مثَّل سوق 6 بوحدة الوحدة الإدارية، مركزاً رئيساً للتسوّق وشراء الاحتياجات؛ لكن منذ أكثر من عشرة أيام، أغلَق التجّار محالّهم، خوفاً من عمليات النهب التي ترتكبها قوات الدعم السريع، وما عاد المدنيّون هناك يتجهون صوبه، لكثرة اللصوص المسلّحين في الطرق المؤدّية إليه. وقد فُتحت أسواق جديدة في مناطق استعادها الجيش في محلية شرق النيل، مثل عد بابكر والرواسي والشقلة الـ 30 ودردوق، وترتادها النساء فقط من بقية المناطق التي ما زالت تحت سيطرة الدعم السريع.

تتوجّه قوات الجيش من عدة محاور صوب عمق محلية شرق النيل، وكلما استعادت هذه القوات منطقة ما، زاد التنكيل من قوات الدعم السريع بالمدنيين في المناطق القريبة. وقد نشرت لجان مقاومة الحاج يوسف شارع واحد، عدة بيانات تدينُ المجازر البشعة التي ترتكبها مليشيات الدعم السريع في حقّ السكان الأبرياء، من ترويع وقتل، ومنع من مغادره المنازل إلى مناطق آمنة.

أغلقت جميع المراكز الصحية والمستشفيات التي كانت تعمل بشرق النيل أبوابها، وكانت تُدار بعون بعض المنظمات المحلية والعالمية، والجهود الحثيثة من المتطوّعات والمتطوّعين، وباتت لا تُقدَّم للمدنيين حالياً أي خدمات صحية. لكنّ مصدراً محلياً أكّد أنّ مستوصف الفرقان الصحي بمنطقة الحاج يوسف الردمية استأنف عمله في الآونة الأخيرة.

وبشأن أسعار السلع في شرق النيل بعد بدء عمليات الجيش في المنطقة، تحدّث مصدر محلي من ضاحية الشقلة إلى «أتَـر»، قائلاً إنّها تختلف من سوق إلى آخر، لكنها أقلّ كثيراً من الأسعار التي كانت في سوق ستة مؤخراً؛ ففي سوق الرواسي، يبلغ سعر كيلو السكر 3 آلاف جنيه، وكيلو الدقيق ألفين وخمسمائة جنيه، وربع البصل 6 آلاف جنيه، وكيلو الرز 3.5 ألف جنيه، ورطل الزيت 6 آلاف جنيه، وكيلو العدس 3.5 ألف جنيه.

ويضيف المصدر أنّ المخابز لا تعمل حتى الآن، إذ بدأت لتوّها في جلب الدقيق، وفي انتظار عودة التيار الكهربائي، لكن في المناطق القريبة مثل دردوق، يبلغ سعر الـ 7 أرغفة ألف جنيه. أما وسائل النقل المستخدمة للانتقال من منطقة إلى أخرى فهي الركشات والدوابّ فقط.

Scroll to Top