أتر

عرض كتاب: “الثّورة السّودانيّة (2018-2019): مقاربة توثيقيّة ـ تحليليّة لدوافعها ومراحلها وتحدّياتها”

يُعدّ كتاب «الثّورة السّودانيّة (2018-2019): مقاربة توثيقيّة ـ تحليليّة لدوافعها ومراحلها وتحدّياتها» من أبدَر الكتب صدوراً عن ثورة ديسمبر المجيدة (2018-2019) وصدر من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في العام 2021 وضم 640 صفحة. مؤلِّفُه أحمد إبراهيم أبو شوك، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر وصاحب العديد من المؤلفات أشهرها وأكثرها تلقّياً موسوعته: «السودان: السُّلطة والتراث» (2008).

تجدر الإشارة هنا إلى بضعة مؤلَّفات عن الثورة السودانية صدرت متزامنةً مع هذا الكتاب أو لاحقة له، منها «توقيعات في دفتر الثورة السّودانية» لـ أحمد عثمان عمر – أشار إليه المؤلِّف في سياق الدراسات السابقة – و «حتى تكتمل الثورة: استدامة الثورة وتفادي انتكاسها» لـ نور الدين ساتي، و «ثورة السّودان: هكذا رأيتها» لـ محمد الخير إكليل، و «السّودان: حلم الثورة وتحدّيات الانتقال» لـ حسين سعد، وأخيراً كتاب أليكس دي وال وآخرون «ديموقراطية السّودان غير المكتملة: وعد وخيانة ثورة شعب».

غطّى هذا الكتاب جوانب توثيقيّة عدّة، بدقة وبمصادر متنوعة، التقَط فيها لحظة الثورة بتفاصيل تكاد تقترب من «يوميات ثورة»، على هدى الدرس التاريخي ممن كتبوا عن الثورات المنجزة في هذا العالم. وما أدلّ على ذلك من ملاحق الكتاب التي جاءت في أكثر من ثلاثمائة صفحة. قدّم للكتاب عزمي بشارة وجاءت مقدّمته بعنوان: «تحديات بحجم السودان وثورته»، وتلتها مقدمة أبو شوك ضافيةً، ومهّدت لفصول الكتاب السبعة وملاحقه.

كتب بشارة في هامش تقديمه: « … هذا عملٌ في غاية الأهمية، مع العلم والإدراك، أنه ليس مكتملاً، وهو مهمّ تحديداً لأنه يوضع قبل أن يبدأ «المنتصرون» على أنواعهم في كتابة تاريخ الثورات، وقبل أن تنتشر الأساطير وتزوَّر وقائع شهدناها بأمّ أعيننا، ويمكن دائماً أن يُستكمل العمل مع ظهور حقائق لم تكن معروفة». وأضاف معلّقاً: «… امتازت ثورة شعب السودان بدرجة عالية من التنظيم، وذلك بوجود قيادة مسيّسة ومجرّبة باشرت التحدّث باسمها منذ بداية شهرها الثاني… تحوّلت من انتفاضة اجتماعية – اقتصادية إلى ثورة سياسية واسعة وشاملة». جاءت تعليقات بشارة قوية وعميقة حول الثورة السودانية بآفاق مقارنتها مع ما عُرف بالربيع العربي في سوريا ومصر وتونس، وختمها بتعليقات نافذة حول دَور المؤسسة العسكرية وتيار الحركة الإسلامية المُحتمل في هزيمةٍ سياسيةٍ للثورة، وأن هنالك شروطاً للانتقال الديموقراطي وضمان الحقوق السياسية والمدنية في سياقٍ يعمل على تحييد المؤسسة العسكرية / الجيش عن السياسة إلى أن «يتمّ تحويله إلى جيش مهنيّ خاضع لنظام ديموقراطي».

في مقدّمته، رصد الكاتب الحركات الثورية أو الاجتماعية التي ناهضت السُّلطة بجميع أبعادها المعرفية منها والإجرائية – الدّولة القائمة مثلاً – من ثورة 1924، مروراً بثورة أكتوبر، وانتفاضة أبريل. وعلّق في هذا السياق قائلاً: «… كانت ثورات شعبية عفوية… مفتقِرة إلى التخطيط المسبق والوعاء السياسي الاجتماعي». من ثَمّ شرَع الكاتب في رصد الأطر النظريّة والمفاهيمية لدعم مقولاته وتحليلاته ومزاعمه البحثية، بدأها من تلك النظريات حول معنى ودلالة ثورة، من أدبيّات كلاسيكية وحتى آخر التنظيرات حول مفهوم «ثورة»، من ماركس وماو تسي تونغ وحتى نظريات علم النفس حول مفاهيم الدكتاتورية والثورة والديموقراطية، وختَمها بما تبّناه إطاراً مفاهيمياً لقراءة ثورة ديسمبر، ألا وهو «مدخل الحرمان النسبي»، وذلك لأنه «… من أهمّ المداخل التي تبنّاها هذا الكتاب لفهم تمرّد السودانيين على النظام الحاكم». انتقل من بعد ذلك إلى المؤرخ البريطاني الشهير إريك هوبسباوم في مؤلَّفه الأشهر «عصر الثورة: أوروبا 1789 – 1848» – صعدَت إلى يافوخي الخالة العزيزة حنا أرندت وكتابها «حول الثورة» 1963، كم فجعني غيابه في هذه اللحظة – وخُتمت هذه الفقرات من المقدّمة بالإشارة إلى تناصّات محتمَلة بين الربيع العربي وثورة ديسمبر في السودان. من بعد ذلك، طرح الكاتب مجموعة أسئلة بغرض الإجابة عليها، من مثل الدوافع إلى إسقاط النظام القائم، وطبيعة الأدوار التي قام بها الثوار، وأخيراً مراحل الثورة المختلفة، ومن ثم أفصح عن مناهج البحث الوصفي والتحليلي الذي اتّبَعه، وأضاف إلى كل ذلك عرضَه الرصين للدراسات السابقة.

جاء الفصل الأول عن حكومة الإنقاذ، منذ لحظة الانقلاب وحتى ثورة ديسمبر المجيدة، وعن ما سمّاه الكاتبُ الأسبابَ غير المباشرة التي أدّت إلى اندلاع الثورة. أما الفصل الثاني فقد رصَد فيه الكاتب شرارة الثورة الأولى في الدمازين وحتى إعلان قوى الثورة والتغيير ساعة الصفر. في الفصل الثالث ركّز الباحث على ردّ الفعل المباشر للسُّلطة؛ دولة الإنقاذ، على الحراك الاجتماعي كما هو مُتجلٍّ في خطابها حتى لحظة سقوطها. توغّل الفصل الرابع في «اعتصام القيادة» مُسائلاً تلك اللحظة التي ارتفع فيها صوت الثوّار وانتهت بمجزرة القيادة، ثمن الثورة الفادح. يتواصل التحليل بدقة وحصافة مُتناهَيَتَيْن لجميع المبادرات الفردية والمؤسّسية لرأب صدع المشهد السياسي، والتحديات العديدة التي واجهها المُبادِرون، ثم مسيرة المفاوضات بعد إسقاط النظام، وحتى لحظة فضّ الاعتصام التي تناولها الكاتب في الفصل السادس وصولاً إلى الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية وتأسيس هياكل السُّلطة الانتقالية التي أفاض الكاتب في مناقشتها وتحليلها في الفصل السابع. وانتهى الكتاب زمنياً مع نهاية 2019.

على الرغم من أنّ فكرة «استحالة» الانتقال الديموقراطي قد وردت بوجهٍ أو آخر في مناقشات الكاتب وتحليلاته، إلّا أنّ ما أشار إليه بشارة في مقدّمته، كان جوهرياً ونافذاً: «… قد تنجح الثورة في إسقاط نظام، أما الديموقراطية فلا تُبنى بقوة الثورة وحدها. إنها تحِدّ مختلف عن تحدّي الثورة». وأكثر من ذلك أنّ الدرس الذي نتعلّمه أيضاً من فصول هذا الكتاب، أنْ «ينبغي تحييد المؤسسة العسكرية»، كما ذكر بشارة أيضاً في مقدمته. ليس هذا فحسب، ولكن الشاهد، ومن واقع تحليلات المؤلِّف ونتائج بحثه، والملاحق المهمّة في الكتاب، أنّ المؤسسة العسكرية السودانية ومن ورائها الدولة العميقة، قد هزَمتا الثورة هزيمةً سياسية، وكلٌّ منهما يسعى إلى السُّلطة والهيمنة السياسية – حسب تحليلات غرامشي – وأنّ المشهد السياسي، في تحليلٍ غير نهائيّ، صار كما ذكر أنور عبد الملك في سياق تحليلاته لـ «ثورة» يوليو 1952 في مصر، إلى مجتمعٍ يبنيه العسكريون: A Military Society، لأنّ المؤسّسة العسكرية والغةٌ ومتوغّلةٌ في بنية الدولة. وفي ذلك استدعاءٌ لتجارب الانقلابات العسكرية، ليس فقط في السودان، إنما في الإقليم بأسره ونظائره في العالم.

يقول واقع الحال إنّ هذا الكتاب قد أشار إلى عدة سيناريوهات محتملة، تحقَّق كثيرٌ منها بالفعل، ومنها ما قد يجعل الكتابة عن الثورة في الوقت الحاليّ أمراً مبكراً، خاصة بعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023، إلا أنّ الكتابة تبقى «أضعف» الإيمان: الكتابة ثمّ الكتابة، حتى نكون أساسيين بالنسبة لأنفسنا، نكتب لكي نصنع تاريخنا بأنفسنا، ونكتب كي نتعافى ونخرج من عزلتنا وأزمنة المَسَاخة والمُوَات ولنكرّس، بالكتابة، أزمنة الثورة المستمرّة.

Scroll to Top