أتر

عن التعاون مع العدوّ: مدنيون تحت رحمة قانون الحرب

وَصَل إسماعيل صدّيق، المُهندس الكهربائي، قادماً من ولاية سنار إلى ولاية نهر النيل، مُتّخذاً إحدى مدنها محطةً في طريقه إلى مصر، بعد أن لاحت له فرصة للعمل هناك. وفي المدينة التي باتَتْ مركزاً للنشاط العسكري للجيش والقوات المتحالفة معه، بدأ أفراد الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش إجراءاتهم الروتينية. لاحَظ أحدهم أن بطاقة إسماعيل الشخصية صادرة من ود مدني، فكان ذلك وحده مثار شكّ حوله، كما يُخبر إسماعيل مُحرِّر «أتَـر».

اقتادوه إلى غرفة الاستخبارات القريبة، وأجروا معه تحقيقاً، وفُتّشت حقائبه وهاتفه، وأُخلي سبيله دون توجيه أيّ اتهام. كان الوقت قد تأخّر وبدأ وقت حظر التجوال، فاستأجر إسماعيل سريراً في موقف الحافلات ليقضي ليلته؛ لكنْ أثناء ذهابه لشراء مياه شرب اعترضه فردٌ تبيّن له لاحقاً أنه ينتمي للاستخبارات العسكرية، برفقة اثنين من المُستَنفَرين، بدأوا استجوابه وتفتيش هاتفه، وإجباره على فتح التطبيق البنكي. استغرق الاستجواب أكثر من ساعة. يروي إسماعيل أنّ الأسئلة تحوَّلت لاستفزازات عنصرية، فضلاً عن أنهم طلبوا منه مالاً مقابل الإفراج عنه. رفض إسماعيل المُساومة وطالَب باتخاذ الإجراء القانوني أو إخلاء سبيله. أثناء اقتيادهم إياه صوبَ الارتكاز، ظهرَت مركبةٌ قتاليةٌ تتبع لكتيبة البراء بن مالك، وأخبر فردُ الاستخبارات الضابطَ المسؤول أنّ إسماعيل فرد استخبارات يتبع للدعم السريع. حاول إسماعيل نفيَ ذلك، لكن الضابط أصرَّ على اعتقاله بعد أن عُصبت عيناه، واقتِيد إلى مبنىً اكتَشَفَ لاحقاً أنه يتبع لشعبة استخبارات الجيش. يُخبر إسماعيل أنه أثناء سير المركبة ظلَّ يَسمع تهديداتٍ بالذّبح والاغتصاب والإخصاء بالزّردية ومختلف أشكال التعذيب.

 

يعيش المعتقلون ظروفاً سيئة وفي زنازين ضيقة المساحة، وتُقدَّمُ لهم وجبتان في اليوم ومياه شرب ملوثة وغير صحّية، لذلك تكاثرت بينهم الأمراض وضعفت مناعتهم. وفوق ذلك يُترك المرضى دون حتى عناء نقلهم إلى المستشفى، كما أنّ فرصة الحصول على الأدوية تعتمد على ما يَحمله المُعتَقل من نقود، فضلاً عن التعذيب الذي يلاقونه كيّاً بالنار والجَلد بالسياط والصّعق بالكهرباء، لإثبات تهمةٍ قد تكون في معظم الأحيان مُلفّقة.

فور وصوله، باشر أفرادٌ من الاستخبارات وكتيبة البراء استجوابَه، وكرَّروا الاتهام بأنه ينتمي إلى الدعم السريع، وردَّ إسماعيل مُكرّراً نفيه ومُبرزاً مستنداته وشهاداته الأكاديمية وخبرات العمل مع مختلف الجهات والشركات. لم يقف الأمر عند ذلك، بل طالب المتحرِّي إسماعيل بإبراز الإحداثيات التي كان يُرسلها إلى الدعم السريع. مُندهشاً أجاب بأنه لم يفعل ذلك، شارحاً أنه اعتُقل بسبب اتهامه بالانتماء للدعم السريع وليس بإرسال إحداثيات. أصرّ ضابط التحري على اتهامه مرة أخرى، وفُتّش هاتفه من جديد.

قضى إسماعيل ليلته تلك في ساحة المُعتقل دون اقتياده إلى زنزانة الحبس، ومن ثم استُدعي في الصباح، ليُخبره الضابط بأنه لم تَثبُت عليه تهمة وسيُفرَج عنه، وأُعيدت له مُتعلّقاته الشخصية باستثناء بطاقة العمل والبطاقة الشخصيّة، وأخبرَه الضابطُ بأنّ عليه الانتظار قليلاً في المُعتقل ريثما يَجدون البطاقات.

تحوَّل انتظارُ إسماعيل إلى اعتقالٍ قارَبَ الشّهر، ورغم استفساره وسؤاله عن بطاقاته، إلا أنّ الضباط والجنود أخذوا يلاحقونه مرة وأخرى بضرورة الاعتراف بانتمائه إلى استخبارات الدعم السريع والتعاون معها.

أثناء وجوده في المعتقل، قَدِمَ أحد أفراد الاستخبارات إلى الزنازين، مُستفسراً عن شخص له إلمام بمجال الكهرباء، فأشار رفقاء إسماعيل المُعتَقلين إليه. اقتاده فرد الاستخبارات ليُصلح عطلاً كهربائياً في إشلاق الجيش. أثناء عمله في الإشلاق تعرّف إسماعيل على رقيب الاستخبارات المُشرِف عليه، وتجاذَبَ معه أطراف الحديث وسأله عن أحد زملائه السابقين في العمل وكان يسكن الإشلاق، فسأله الرقيب عن علاقته به، وأين كان يعمل، ومن أين قَدم وسبب اعتقاله، فسرد له تفاصيل ما حدث منذ وصوله. في النهاية، عرض عليه فرد الاستخبارات إصلاح العطل مقابل إقناع الضباط ببرائته ومن ثم الإفراج عنه.

أثناء اعتقاله بولاية نهر النيل، التقى إسماعيل بعددٍ من المُعتَقلين المُتّهمين بالتعاون مع قوات الدعم السريع، لأسباب تنوّعَت بين انتقاد الجيش، أو العثور على محادثات شخصية عن الحرب عامّةً، أو مجرّد الاشتباه أو التبليغ الكيدي، ويقول إنهم يعيشون ظروف اعتقال سيئة وفي زنازين ضيقة المساحة، وتُقدَّمُ لهم وجبتان في اليوم ومياه شرب ملوثة وغير صحّية، لذلك تكاثرت بينهم الأمراض وضعفت مناعتهم. وفوق ذلك يُترك المرضى دون حتى عناء نقلهم إلى المستشفى، كما أنّ فرصة الحصول على الأدوية تعتمد على ما يَحمله المُعتَقل من نقود، فضلاً عن التعذيب الذي يلاقونه كيّاً بالنار والجَلد بالسياط والصّعق بالكهرباء، لإثبات تهمةٍ قد تكون في معظم الأحيان مُلفّقة.

وحتى حين يُغيِّر المعتقلون بتهمة التعاون أقوالَهم المُثبتة في يوميّة التحري أمام المحكمة، ويُفيدون بأنّ أقوالهم المُدوَّنة كانت تحت التعذيب، يُجبرهم أفراد الاستخبارات تحت نير التعذيب على الاعتراف في الجلسة القادمة في المحكمة، بانتماء مزعوم إلى الدعم السريع. ويَروي إسماعيل أنّ كثيراً منهم أقرّوا أمام المحكمة بما دُوِّن في يومية التحري، وأنّ القاضي أصدر الحكم عليهم، كلُّ ذلك كيلا يَعودوا إلى المُعتقل مرة أخرى. وقد تمتدّ فترة الاعتقال إلى سبعة أشهر وربما أكثر، وقد يُطلَق سراح المعتقلين بتغيُّر الحالة المزاجية للضباط والجنود، أو توفّر الواسطة أو التقديم للمحاكمة، أو صدفة الحظّ كما في حالة إسماعيل.

قوائم التعاون

في مناطق سيطرة الجانبين، تُلاحِق الاتهاماتُ، بالتعاون مع طرف الحرب الآخر، المدنيِّينَ، ويُضحي أي شخص عرضةً للشكوك، خاصة إن كان عابر سبيل أو غريباً على المدينة. قصة إسماعيل مثال لما يمكن أن يحدث في مناطق سيطرة القوات المسلحة السودانية، لكن ما يحدث للمدنيِّين في مناطق الدعم السريع شأنٌ آخر، وقد لا يجد المتهم محكمة أو نظاماً قانونياً للاستنصار به.   

نزحت مريم وأسرتها بعد سيطرة الدعم السريع على منطقتها في ولاية سنار إلى منطقة أخرى في الولاية، خشيةَ الاعتداء والنهب والتنكيل بالمدنيِّين، خاصة أنّ شقيقها التحق بالاستنفار مُنضمّاً إلى القوات المسلحة. وقد أخبرهم جيرانهم بأنهم مستهدفون. تُخبر مريم مُحرِّر “أتَـر”، بأن العديد من أبناء منطقتهم التحقوا بالدعم السريع وأصبحوا يُرشدون عن بيوت وأسر المقاتلين في صفوف الجيش والقوات المتحالفة معه. وبعد انتقالهم إلى حيّ آخر استعداداً للمغادرة، عاد والدها بحثاً عن بعض المُستلزمات، فتعرَّض له أفراد الدعم السريع بالضرب بالدبشك (مؤخرة السلاح) على الرأس والعنق، واتهموه بالتخابر والتعاون مع الجيش وتزويده بإحداثيات ومعلومات، ونهبوا ما يَحمل من مال وهاتفه المحمول، وهدَّدوه بالذبح بعد طرحه أرضاً. مكث والد مريم في الفراشِ لمدة ثلاثة عشر يوماً، ولم يكن هنالك مستشفى يعمل أو دواء متوفر، فقد نُهبت جميعها.

كانت المعاملة في الأسبوع الأول طيّبة، أسئلة واستفسارات فقط، وشاهدتُ أفراداً من أبناء منطقتنا في المنزل الذي كنت مُعتقلة به، لكنْ بعد ذلك تعرَّضتُ للاغتصاب من قبل الجنود وضباطهم، كانوا يحقنونني يومياً بعقار لمنع الحمل، لذلك صرت أعاني من مشكلات صحية

لم يكتفِ أفراد الدعم السريع بذلك، بل عادوا إلى منزل أسرة مريم مرة أخرى ونهبوا كلّ ما فيه. تقول مريم: «اتجهنا إلى قرى جنوبي ولاية سنار، وبعد أربعة أيام دخلت قوات الدعم السريع مدينة سنجة وما حولها من قرى، وأصبحنا مرةً أخرى في مناطق سيطرة الدعم السريع».

اتصل أفراد الدعم السريع بابنة خالة مريم، مُستخدِمين هاتف والدها الذي بحوزتهم يسألون عن مكان وجودها. وبعد شهر من سيطرة قوات الدعم السريع على عددٍ من مناطق جنوب ولاية سنار، داهمت مقرّ نزوحهم عربة قتالية تَحمل جنود الدعم السريع وبصحبتهم مُخبرون من منطقتهم التي نزحوا منها، وتعرَّف أحدهم عليها، فأمر السائق بالتوقّف ونادى عليها باسمها، وأخبرها أنهم يبحثون عنها وعن أخيها. سألته: «إن شاء الله خير؟» فأجاب: «نحن ما بِجي منّنا الخير».

اقتحمت المجموعة المنزل، وسأل أفرادها والد مريم ووالدتها عن مكان ابنهما المُستَنفَر مع قوات الجيش، وبعد أن عجزوا عن الوصول إلى أي معلومة عنه اقتادوها بتهمتَي التعاون والتخابر.

مكثت مريم في الاعتقال ثلاثة أشهر، وتعرَّضت للاستجواب المُستمرّ حول مكان وجود أخيها وكيفية الوصول إليه، وهُدِّدَتْ بأنها ستكون رهينةً لديهم إلى حين حضور شقيقها. تُواصل مريم: «كانت المعاملة في الأسبوع الأول طيّبة، أسئلة واستفسارات فقط، وشاهدتُ أفراداً من أبناء منطقتنا في المنزل الذي كنت مُعتقلة به، لكنْ بعد ذلك تعرَّضتُ للاغتصاب من قبل الجنود وضباطهم، كانوا يحقنونني يومياً بعقار لمنع الحمل، لذلك صرت أعاني من مشكلات صحية». وبعد أن عجز أفراد الدعم السريع الذين اختطفوها عن الحصول على أي معلومات مُتعلّقة بأخيها أفرجوا عنها نظير فدية مالية تمكّنت الأسرة من جمعها بعد عناء.

فوق إجباره على العمل معهم، أُجبر الشاب أيضاً على الظهور في لايفات «بث مباشر» مع الضابط في الدعم السريع المشهور بلقب «ود ملاح» في مدني شرق ودردق ومايو وعووضة، وتسبَّبَ ذلك في اعتقاله مرة أخرى من قِبل الجيش وحلفائه بعد استعادة ود مدني

أما خالد محمد، الذي شهد اجتياح الدعم السريع مدينة ود مدني في ديسمبر 2023، ولم يغادر المدينة حتى استعادتها من قِبل الجيش، فيُخبر «أتَـر» أنّ اجتياح الدعم السريع للمدينة صاحَبَته منذ الأيام الأولى اعتقالات نوعية، وفقاً لقوائم مُسجَّلة بجميع الأشخاص الذين يُريدون اعتقالهم، بعضٌ منهم اعتُقلوا وأُطلِق سراحهم في وقت وجيز، وآخرون احتُجزوا لوقت طويل. يقول: «لدينا جيران معروفون لدى الجميع بأنهم ينتمون إلى الحركة الإسلامية، اعتقَلت الدعم السريع اثنين منهم تجاوزا الخمسين من العمر وشاباً عشرينياً».

يروي خالد وقائع اعتقال جيرانه: وقفت سيارتان مقاتلتان بكلّ عتادهما العسكري أمام المنزل، ودخل أفراد الدعم السريع واعتقلوا الشابّ والرجلين الآخرين. أطلقوا سراح الرجلين بعد ثلاثة أيام من الاعتقال ليغادِرَا المدينة مُباشرةً. أما الشابّ فقد أُجبر، بعد 17 يوماً من الاعتقال، على العمل مع الدعم السريع، وكان مسؤولاً عن الإشراف على المراكز الصحية في مدني شرق.

يقول خالد: «فوق إجباره على العمل معهم، أُجبر الشاب أيضاً على الظهور في لايفات «بث مباشر» مع الضابط في الدعم السريع المشهور بلقب «ود ملاح» في مدني شرق ودردق ومايو وعووضة، وتسبَّبَ ذلك في اعتقاله مرة أخرى من قِبل الجيش وحلفائه بعد استعادة ود مدني ودخول قوات درع السودان بقيادة أبو عاقلة كيكل عقب استسلامها للجيش السوداني وانضمامها إليه».

وحسب حديث خالد، فإنّ هنالك اعتقالات عشوائية، يكون سببها في الغالب أنّ أحد أفراد الدعم السريع انزعج من نظرة شخص إليه، فيعتقله بتهمة التعاون مع الجيش. يقول: «أنا كذلك احتُجزتُ لأكثر من 17 ساعة بسبب رفضي تسليم هاتفي قبل مسْح جميع محتوياته»، ويضيف: «أحياناً يكون الاعتقال أو الإفراج قائماً على مزاج الأفراد او قائد الارتكاز».

وقد يصل الاتهام بالتعاون مرحلة الحكم بالموت، مثلما روى خالد ما حدث لأحد جيرانه الذي اعتُقل ليومين ثم أُبلِغت أسرته بوفاته نتيجة علَّة مرضية، وقد يصل الأمر إلى التعذيب وطلب الفدية، وتتراوح عادةً ما بين مليارين وثلاثة مليارات جنيه سوداني.

ويقول خالد إنّ كثيراً ممن اختاروا المكوث بود مدني بعد اجتياح الدعم السريع اعتَقلهم الجيش بعد استعادته المدينة، وفقاً لقوائم تحوي أسماء كثيرة، ومنها اعتقالات مبنية على معلومات استخبارية وأخرى قائمة على التشفّي فقط بحسب قوله. ويضيف: «إضافة إلى الاعتقال شهدنا تصفيات متبادلة نفّذها الطرفان، الجيش والقوات المتحالفة معه، والدعم السريع وحلفاؤها، ومن ضمن ضحاياها مُواطنون من جنوب السودان صفّتهم قوات درع السودان».


خلال الحرب تحوَّلت منصّات التواصل الاجتماعي إلى ساحة مُحاكمات، حيث تُنشر صور أشخاص ومعلومات عنهم بمزاعم التعاون مع الدعم السريع دون تقديم دلائل مُوثّقة. تحتوي غالبية المنشورات على الاسم والعمر ومكان السكن، وأحياناً المهنة وأرقام الهواتف. ونشطت في ذلك مجموعة من الصفحات تتنوّع بين صفحات عامة وصفحات قائمة على أساس المناطق والأحياء، ووصل عددُ متابعي بعض هذه الصفحات إلى 36 ألف متابع، وأخرى إلى 16 ألف متابع، وتحرّض بعض منشوراتها على العنف.

اتُّهِمت بائعة شاي في شندي تُدعى فاطمة عيسى بأنها متعاونة مع الدعم السريع، وأنها مَنحت الإحداثيات التي استطاعت عن طريقها قوات الدعم السريع قصف سوق صابرين. وتداوَلَتْ عددٌ من الصفحات صورها ومعلوماتها، ما اضطرّها إلى الظهور في ڤيديو تنفي فيه الاتهام، وقالت إنها تُقيم في شندي منذ شهور ولا علاقة لها بقصف السوق. تُعدُّ حالة فاطمة واحدة من الحالات العديدة التي جرى فيها اتهام أفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي مقطع ڤيديو بتاريخ 30 يونيو 2023، ظهرت مجموعة من الرجال المُتجمهرين حول بائعة شاي، وهم يطردونها من مكان عملها، ويدعو شخصٌ منهم إلى تحطيم مكانها. ووردت في عددٍ من حسابات التواصل الاجتماعي اتهامات لبائعات الشاي والأطعمة في مناطق سيطرة الدعم السريع بالتعاون.

ورصد محرر أتر أن بائعات الشاي والأطعمة من أكثر الفئات تعرُّضاً لاتهامات التعاون مع قوات الدعم السريع، خاصة في المناطق التي شهدت نزاعاً مكثفاً، وذلك بحكم بطبيعة عملهن في الفضاء العام والأسواق واعتمادهنّ على زبائن متنوّعين، وكثيراً ما يَكُنّ مُرغَماتٍ على تقديم خدمات للجنود. كلُّ ذلك جعلهن عرضةً للاتهام، فضلاً عن هشاشة أوضاعهن الاقتصادية التي أجبرت كثيرات منهنّ على البقاء في مواقع المعارك.

من ناحية قانونية

مُتحدّثاً لـ «أتَـر» يقول القانوني والمدافع عن حقوق الإنسان علي عبد العظيم، إنّ الأشخاص المتهَمين بالتعاون مع قوات الدعم السريع ظلّوا يُحاكَمون منذ نشوب الحرب بموجب مواد متعلّقة بتقويض النظام الدستوري وإثارة الحرب ضدّ الدولة والحرب ضدّ الإنسانية، بحسب ما رصده من قرارات في عدة محاكم. وفي ما يخصّ القبض على المتهَمين، يقول إنه من اختصاص النيابة العامة وشرطة الجنايات، وفقاً لقانون النائب العام وقانون الإجراءات الجنائية، وذلك في الأحوال الطبيعية. وشدَّدَ عبد العظيم على ضرورة مراعاة حقوق المتهَمين والتقيّد بمعايير المُحاكمة العادلة، مُشيراً إلى أنّ بعض قضايا الاتهام بالتعاون ظهَر فيها محامون، لكن أغلب المتهَمين في قضايا التعاون لا يَتمتَّعون بهذا الحقّ في مرحلة التحرّي، وهي المرحلة الأهمّ التي يَنبني عليها تأسيس الدفاع. لكن رغم ذلك رَصَدَ عبد العظيم بعض الحالات التي جرى فيها تخفيف الحكم من الإعدام إلى السجن، وفي حالات أخرى شطب الدعوى الجنائية بواسطة المحاكم العليا. 

من ناحية أخرى، تَرى المُحامية سارة سعد، أنّ المشكلة الرئيسة تَكمُنُ في أنّ الناس سواءٌ أكانوا في مناطق سيطرة الدعم السريع أم الجيش، ليست لديهم رفاهية قبول طلب التعاون أو رفضه، فمنهم من يُقدِّمون معلوماتٍ خوفاً من أحد الطرفين، لأن الامتناع عن ذلك يُمكن أن يُعرِّضهم للخطر؛ لذا فإنّ التعامل معهم على أساس أنهم متعاونون على إطلاقه فيه ظلمٌ لهم، وذلك بنزع حياتهم من السياق الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشوا ويعيشون فيه.

وفي حديثها لـمُحرِّر «أتَـر»، تُلخّص سارة الأمرَ في عملية الرصد، التي يَجري بها التفريق بين المُتعاون وغيره، «فهنالك أشخاصٌ من أجل التقرّب من الجيش أو خوفاً منه، خاصة إذا كانوا في مناطق كانت تحت سيطرة الدعم السريع ولم يستطيعوا الخروج؛ يَشعرون بالخوف من الاتهام، فيُقدِّمون معلوماتٍ يتّهمون فيها أشخاصاً آخرين بأنهم متعاونون، هذا فضلاً عن استهداف الأشخاص على أسس قبَلية وإثنية. إضافة إلى الاتهامات القائمة على ضغائن اجتماعية قديمة».

كيف يَجري القبض على المتهمين بالتعاون؟

مصدر في الجهاز القضائي، قال في حديثه لمحرر «أتَـر»، إنّ القبض على المتهَمين بالتعاون مع الدعم السريع، يجري عبر قوات الاستخبارات أو الأمن، عبر الخلايا الأمنية النشطة في الولايات تحت سيطرة الجيش، وغالباً ما يكون في الارتكازات والمَعابر عبر التَّدقيق في الشخصيات والأوراق الثبوتية، مُوضّحاً أنّ القوات المُكوَّنة من الأمن والاستخبارات والشرطة، لديها بيانات وصور لمتعاونين ولصوص. وأحياناً يجري القبض داخل أسواق الولاية نفسها، فإذا كان المتهَم أجنبياً يُستجوب بواسطة جهاز الأمن والمخابرات، ومعظم المشتبه بهم يُسلّمون إلى الاستخبارات العسكرية لتتحرَّى معهم، فإذا اعترَف المشتبه به يُقدِّم للمحاكمة. ويضيف المصدر القضائي أنّ هنالك فنييّن مُختصّين في استعادة جميع الصور والڤيديوهات في هواتف المشتبه بهم، وقد تكون دليل إدانة في حال وُجِدَتْ صورٌ بالكدمول أو بالسلاح. أما أثناء المحاكمة فيوجد مستشار للقضاء العسكري يتبع للجيش. وبعد تصنيف الجريمة، يُسأل المشتبَه به عن طبيعة عمله مع الدعم السريع، فإن كان يحمل السلاح يُوجّه له الاتهام بموجب المواد 50-51-53 التي تندرج تحت الجرائم الموجّهة ضد الدولة وإثارة الحرب ضدّ الدولة وعقوبتها الإعدام أو السجن المؤبّد.

يقول المصدر إنّ هنالك من يعترفون بأنهم نَهبوا منازل المواطنين أو شاركوا في البيع والشراء في أسواق دقلو، وهذه تهمة أخفُّ قدراً لأنهم يُحاكمون بموجب المواد و174 السرقة، و181 التعامل بالمال المسروق وعقوبتها من خمس إلى سبع سنوات.

ويُضيف المصدر أنّ المتهَمين بالتعاون يُقدَّمون للنيابة أولاً. وبعد التحري، بمشاركة المستشار القانوني العسكري والشرطة، تَفتح النيابة بلاغات ضدّهم، ومن ثم يُقدَّمون للمُحاكمة. ويُطلَق سراح المتهم في حال لم تُثبِت البيانات أنه متعاون، وأحياناً تُطلِق الاستخبارات سراح المتهمين دون الوصول إلى هذه المراحل. ويؤكّد المصدر أنّ حكم الإعدام والسجن المؤبّد، لا يصدر إلا بواسطة قاضي محكمة عامة. أما البلاغات الكيدية فيُتعامَل معها على نحو صارم، وهناك حالات إطلاق سراح فورية من المحاكم، خاصة إن تعرّضوا للاعتراف قسراً، ولا يُعتمَد على بيّنة الهاتف المحمول وحدها، إذ لا بد من وجود شهود وبينات مباشرة.

ويُمثّل الاتهامَ في قضايا الاتهام بالتعاون المستشارُ العسكريّ أو مُفوَّض من الجيش والمُبلغ من جهة الاستخبارات العسكرية، ويُمثّل الحقَّ العامَ وكيلُ النيابة، لأن جريمة التعاون تمسّ المجتمع. أما بالنسبة للمتهَمين الذين لا يستطيعون توفير محامٍ فتُعيِّن إدارة العون القانوني بوزارة العدل محامياً عنهم. ويؤكّد المصدر أنّ المحاكمات مفتوحة للجمهور وأجهزة الإعلام، ومن حقّ المُتّهم إعادة التقاضي في محكمة الاستئناف ومحكمة الموضوع،  وقد يحدث عفوٌ من القائد العام مثلما حدَثَ مع قائد قوات درع السودان أبو عاقلة كيكل، إلا إذا كان في القضية حقُّ خاصُّ لا يمكن العفو فيه. ولتعدُّد الأجهزة الأمنية يجري أحياناً القبض على متهَمين بالتعاون، لكنهم في الأصل عملاء مُزدوَجون زرَعتهم الاستخبارات، ويُطلَق سراحهم من قِبل الإدارة العليا للمؤسّسة الأمنية التي يتبعون لها.

ويوضح المصدر أنّ هنالك حالات لأشخاص أُجبِروا على العمل مع الدعم السريع، مثل بعض المحامين الذين أُرغِموا على العمل في مكاتب نيابة ومحاكم وأقسام شرطة وطالبتهم الدعم السريع بمُحاكمة مواطنين، ويَستشهد ببعض الحوادث المشابهة في نيابة سوق ليبيا بأم درمان وأنحاء أخرى كانت تحت سيطرة الدعم السريع؛ «فهؤلاء لا تُوجَّه إليهم أي تُهم بعد هروبهم إلى مناطق آمنة، وإن قُبِض عليهم يُطلَق سراحهم».

ويخبر المصدر أنه لم تُنفّذ حتى اليوم أيّةُ أحكام إعدام، إذ يتطلَّبُ تنفيذها التأييد والمصادقة من رأس الدولة، كما أنّ الاستخبارات العسكرية لا تستأنف الحكم في حال جاء الحكم ببراءة المتهَم، وتُخلي سبيله، لكن ربما يُعتقل مرة أخرى، والسبب هو تعدُّد الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية. وحول المعتقلين في أجهزة الاستخبارات، يقول إنه ليس للمحكمة سُلطة جلبهم للمحاكمة، بحكم حالة طوارئ العامة في البلاد.

ويقول إنّ القضاة لا يمانعون من نشر القضايا، بل يُوجِّهون بذلك، ويمكن للإعلاميين الحصول على أرقام بعدد البلاغات وعدد أحكام الإعدام أو المؤبد والسرقات، لكن لا تُعلَن أسماء المتهمين حفاظاً على خصوصيتهم وحقوقهم. ويضيف المصدر: «فرَضت ظروف الحرب العمل بمواد في القانون، كان من النادر العمل بها إلا في نطاق ضيّق مثل التخابر ضد الدولة رغم أنها موجودة أصلاً في القانون».

Scroll to Top