
تربضُ سيّارتا دفع رباعي مسلّحتان، منذ الثالثة عصراً على شارع جانبي، ومن على متنهما يتربّص أشخاصٌ بمنزل الحاج محمود الحاج – اسم مستعار لدواع أمنية – ويسكن شمال بحري، وكان يعمل بالتجارة في سوق أم درمان قبل الحرب.
مع عودة الحاج، قُبيل غروب شمس 4 يناير 2024، اقتحمت القُوَّة المُتربّصة المنزل، قرَع أفرادها الباب بأعقاب البنادق بشدة، في مشهد ترهيبيّ صاخب. فتحت زوجته الباب لترى حشداً من جنود الدعم السريع يطلبون الحاج بالاسم. اقتادوه وزوجته، التي رفضت أن تتخلّى عنه، معصوبَي العينين إلى منطقةٍ، اكتشفا لاحقاً أنها تقع بين حي نبتة والحاج يوسف، وأدخلوهما في غرفة في الطابق الأول من بناية في مزرعة حيث بقيَا مُنعزلين.
عاش الحاج وزوجته ليلة قَلِقَة وسط ضرب مُبرح على الرأس، رغم أنه يُعاني من مشكلات صحيّة وأمراض مُزمنة. وطوال فترة الاختطاف، درج الجنود على العودة كلّ صباح لمواجهته بأسئلة جزافية ويتهمونه بالتعاون مع الجيش وبتلقي أموال من دولة مجاورة، وبالتواصل مع قائد الجيش.
تتلقّى ابنته هالة التي تُقيم خارج السودان، وكانت تُرسل مصاريف لأسرتها منذ بداية الحرب، اتصالاً من هاتف أبيها، لتُفاجأ بأن المتحدّث شخصٌ من الدعم السريع يطلب، مُهدّداً، مبلغ 10 مليارات جنيه فدية مقابل إطلاق سراح أبيها.
وعدتهم، خائفة ومضطربة، بتوفير 7 مليارات، حرصاً على سلامة أبيها. تقول هالة في حديثها مع «أتَـر»: «تواصلتُ مع أهلي لجمع المبلغ لسلامة أمي وأبي. حوّلنا المبلغ وعادا بعد 16 ساعة من الاختطاف».
يكتشف الحاج محمود بعد عودته مكسوفاً، نهب البيت بالكامل من قبل عناصر الدعم السريع، وفق ما حدَّثه به الجيران.
ومنذ اندلاعها في 15 أبريل 2023، شهدت حرب السودان انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، شملت أعمال عنف جنسيّ ضد النساء وانتهاكات مروّعة ووحشية في حقّ المدنيين عامة، وجرائم قتل خارج نطاق القانون. وقد سقط الآلاف ضحايا للتعذيب الوحشي والاغتصاب والتغييب القسري والاختطاف مقابل الفدية أو التجنيد الإجباري.
تُعرِّف الاتفاقيةُ الدولية لمناهضة أخذ الرهائن (1979)، أو الاختطاف مقابل فدية، في مادّتها الأولى، «مرتكبَ جريمة أخذ الرهائن» بأنه أيّ شخص يقبض على شخص آخر، أو يَحتجِزه ويُهدِّد بقتله أو بإيذائه أو بالاستمرار في احتجازه، لإكراه طرف ثالث، سواءٌ أكان دولةً أم منظمة حكومية دولية أم شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً أم مجموعةً من الأشخاص، على القيام، أو الامتناع عن القيام، بفعل معيّن، كشرطٍ صريحٍ أو ضمنيّ للإفراج عن الرهينة.
دارفور: بؤرة مظلمة للاختطاف
ومثّلت دارفور، بولاياتها الخمس، بؤرةً مظلمة لإهدار حقوق المدنيّين بلا وازع، بعد نشوب الحرب. ورُصِدَتْ عمليات اختطاف واسعة النطاق طوال 20 شهراً من الحرب.
يُخبر موظّفٌ يَعمل في منظمة محلية بمدينة نيالا تعمل على حماية المدنيّين، وقد طلب حجب اسمه لدواعٍ أمنية، أنّ عناصر مسلّحة ترتدي زي الدعم السريع اختطفت تحت تهديد السلاح، المواطن إسماعيل محمد مساء الثلاثاء الأول من نوفمبر من العام 2024 من داخل سوق المدينة، واعتُقل في مقرّ الشرطة الشعبية بالمدينة بتهمة التعاون مع الجيش السوداني. يقول الموظف في حديث مع «أتَـر»: «طالَبَ الخاطفون بدفع فدية بلغت مليون جنيه». ويضيف: «بعد يومين تمكّنت عائلة المختطف من دفع ما قيمته 800 ألف جنيه. بعدها أطلَق الخاطفون سراحه دون تعرّضه لأي شكل من أشكال التعذيب».
ووثّقت المنسّقية العامة للنازحين واللاجئين في دارفور، في 27 سبتمبر 2024 لاختطاف النازح النور أحمد النور (14 عاماً)، من معسكر كلمة (سنتر 8)، على يد قوات الدعم السريع التابعة لقبيلة الروقان، وفي 17 أكتوبر 2024، لاختطاف النازح عمر سليمان نصر (40 عاماً)، من معسكر كلمة (سنتر 3)، على يد مليشيات مسلّحة، واختطاف النازحة الزينة حامد محمد جمعة (14 عاماً)، من معسكر كلمة (سنتر 8) بواسطة مليشيات مسلحة شرق المعسكر، في 10 أكتوبر 2024. وقال آدم رُجال، الناطق الرسمي باسم المنسّقية، في تصريح لـ «أتَـر»، إنّ عمليات الخطف مقابل الفدية حقيقة معاشة وتمثّل انتهاكاً يعكس جانباً من الوضع الخطير الذي يعيشه النازحون واللاجئون، وسط غياب تامّ لأي استجابة تُذكر. ويخبر «أتَـر» بأنه في ديسمبر الماضي خُطف نازحان من معسكر كلمة، مقابل دفع فدية وصلت إلى ثلاثة ملايين جنيه سوداني، دفعتها إدارة المعسكر رغم الظروف الاقتصادية الصعبة. «كلّ من يخرج من المعسكر لأعمال الزراعة عُرضة للاختطاف، وقد تعرض للخطف العشرات من سكان المعسكرات».
واتّهمت وحدة أبو زريقة الإدارية بولاية شمال دارفور، قوات الدعم السريع، بقتل 50 مواطناً بينهم أفراد اختطفتهم من مزارعهم وقتلتهم جماعياً، إلى جانب حرقها المنازل ونهب ممتلكات سكان المنطقة. وقالت الوحدة الإدارية في بيانها، إنّ الدعم السريع تستهدف سكان أبوزريقة على أساس عِرقي، مناشِدة المنظمات الدولية للتحرك العاجل لإنقاذ حياة السكان.
وتيرة مطّردة للخطف في الجزيرة
وارتفعت في ولاية الجزيرة، منذ 21 أكتوبر 2024، وتيرة عمليات الخطف، وكان أغلب ضحاياها شباباً ورجالاً، بحسب ناشطين مدنيّين، ليعقبها طلب فدية مالية طائلة مقابل إطلاق سراحهم تتراوح بين (3) و (10) ملايين جنيه. وقالت لجان مقاومة الحصاحيصا في بيان إنّ عمليات الخطف تزايدت في الآونة الأخيرة، كاشفة عن اختطاف (6) من مواطني المدينة، بينهم طفل لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وطلب فديات مالية بلغت (10) ملايين جنيه، نظير الإفراج عنهم.
ويقول نداء الوسط – ولاية الجزيرة، إنّ الدعم السريع تستخدم مزرعة «دواجن الروضة» الواقعة شمال الجزيرة، على طريق الخرطوم مدني، مركزاً تحتجز فيه مئات المخطوفين، وإنها اختطفت الناشط في مجال العمل الإنساني موسى بابكر الذي ظلّ قائماً على خدمة أهالي المنطقة وتوفير احتياجاتهم من مأكل ودواء، وإن عدد المختطفين من مدن تمبول ورفاعة والهلالية بلغ 42 مواطناً، بعد اجتياحها في أكتوبر 2023، إذ طالبت الدعم السريع أهالي وعائلات البعض منهم بدفع مبالغ مالية طائلة مقابل إطلاق سراحهم، كما اختطفت مواطنين من قرى اللّعوتة الحُجاج والفوار والسريحة وغيرها.
وكشف مؤتمر الجزيرة، أنّ الدعـم السريـع إبان حصارها لمدينة رفاعة، اختطفت خمسة من مواطني المدينة، من بينهم أستاذ معاشي، وطالبت بدفع فديات مالية تصل لخمسة ملايين جنيه سوداني للفرد، وأقدمت عناصرها في جنوب الجزيرة على اختطاف المواطنين، النذير محمد زين هارون، ومحمد عبد الرحمن الحاج من قرى «ود مطر الخوالدة»، و«ود البرّ الخوالدة».
واتهمت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء بالسودان، الدعم السريع، بارتكاب انتهاكات في معظم مدن وقرى شرق الجزيرة، ابتداءً من قتل مئات المدنيّين، وحرق ونهب الممتلكات، إلى جانب الاختطاف مقابل الفدية. ووثّقت مقاطع مصوّرة متداولة اختطاف عناصر من الدعم السريع التاجر خليل الطيب، بمدينة رفاعة والمطالبة بفدية مالية قدرها 50 مليون جنيه لإطلاق سراحه.
وقالت المديرة الإقليمية للمبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الإفريقي «صيحة» هالة الكارب، خلال مؤتمر صحفي، إنه من أنماط العنف الجنسي المنتشر في ولاية الجزيرة، عمليات اختطاف وزواج قسري أو مقايضة الفتيات مقابل المال الذي يدفعه أفراد الدعم السريع للأسر التي لا تملك حقّ الرفض.
لا أحد يريد أن يدفع
أعلنت نقابة الصحافيين السودانيين، 25 أغسطس 2024، أنّ قوة مسلحة اختطفت الصحافي علاء الدين أبو حربة من منزله في منطقة شرق النيل. وأوضحت النقابة في بيانٍ لها أنّ القوة طالبت بفدية مالية ضخمة لإطلاق سراحه، مهددةً بتصفيته جسدياً إذا لم تتسلّم المبلغ المطلوب، مشيرةً إلى أنّ القوة المسلحة ورغم تسلمها للمبلغ، ضاعفت الفدية من مليون إلى مليوني جنيه سوداني، «ما يضع حياة علاء الدين أبو حربة في خطر داهم في أي لحظة». وكان الصحافي أبو حربة قد ظهر مقيّد اليدين في مقاطع ڤيديو مُتداولة تكشف عن عملية الاختطاف.
في حديث خصّ به «أتَـر»، يسرد الصحافي المختطف علاء الدين أبو حربة، عملية الاختطاف التي دامت ثمانية أيام في أقبية الدعم السريع، وحيداً في غرفة متّسخة ومظلمة، مكبّلاً ومعصوب العينين، بلا طعام أو مياه سوى وجبات بائسة ثلاث طوال زمن الاحتجاز.
بينما كان أبو حربة قريباً من المنزل، استوقفته سيارة «هيلوكس» مُظلَّلة على متنها فردان، سألاه بدايةً عما إذا كان عسكرياً أم مدنياً، أجاب بأنه مواطن. طالباه بإبراز بطاقة الهوية، فاعتذر بلطف بأنها بالمنزل وأنه يمكن أن يحصلا عليها، لكنهما رفضا ذلك وزجّا به داخل السيارة. «وصلنا إلى مكان به شبكة إنترنت، أخذوا هاتفي الجوال، وطلبوا مني كلمة المرور لتطبيق بنكك». يقول أبو حربة ومن ثم يضيف: «بدأوا بمراسلة أهلي بطلب فدية، واقتادوني معصوب العينين إلى غرفة معزولة».
وضعه الخاطفون في غرفة تنبعث منها روائح فضلات آدمية لأكثر من 24 ساعة، لا يعرف أين هو، لكنه يُقدّر المسافة من منزله إليه بساعتين بالسيارة. يقول: «يبدو أنهم كانوا يسيرون عبر أزقة لم أستطع تبين اتجاهها بالتحديد». في تلك الغرفة أُزيل الغطاء من عينيه. يعود الخاطفون في الصباح، يضربونه بلا رحمة بالسياط وأعقاب البنادق الرشاشة ومن ثم يصوّرنه وسط الضرب والإهانة في مقاطع ڤيديو يبعثونها إلى ذويه. «عشتُ وقتاً عصيباً، خارت فيه كلّ قواي، للدرجة التي كنت أصلّي فيها بصعوبة، وكنت أتعرّض لمزيد من الضرب والشتائم كلما رأوا حملات التضامن معي في وسائط التواصل الاجتماعي».
وبلا مقدّمات، مثلما يقول أبو حربة، أطلق الخاطفون سراحه في اليوم التاسع، وقالوا له: لا أحد يريد أن يدفع عنك فدية. عادوا به معصوب العينين مرة أخرى إلى مسجد قريب من المنزل. «لم أتخيل إطلاق سراحي بهذه السرعة، لا أشعر بالأمان حتى الآن، التهديد والوعيد يلاحقني من طرفي الحرب معاً»، يقول أبو حربة ومن ثم يضيف: «الاختطاف يُفقدك إنسانيتك، ما زالت آثاره باقية في ذهني، فليس من السهل أن تنسى ضرب أربعة وحوش بكلّ قوة بالسلاح واليدين، وسط ألفاظ سيئة وشتائم فاحشة. حتى اللحظة لم أستطع ممارسة حياتي على نحوٍ طبيعي أو الكتابة عما حدث، وما زلتُ أشعر بالخوف على أسرتي والذين يعرفونني هناك في شرق النيل».