
(1)
في 16 فبراير الجاري، انتخبت الجمعية العامة للاتحاد الأفريقي وزيرَ الخارجية الجيبوتي، محمود علي يوسف، رئيساً جديداً للمفوضية، خلفاً للتشادي موسى فكي محمد، الذي كان على رأسها لثماني سنوات، هي مدة الدورتين. ولا تسمح لوائح الاتحاد بالترشّح بعدهما لدورة ثالثة، كما انتخَبت الدبلوماسية الجزائرية سلمى مليكة حدادي نائبةً للرئيس الجديد.
وكان المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي، قد قرّر أن تكون هذه الدورة من نصيب منطقة شرق أفريقيا، بعدما انتُخب الرؤساء السابقون من مناطق القارّة الغربية والوسطى والجنوبية، على أن يُرشَّح النائب من شمال أفريقيا.
وشهدت أروقة الاتحاد الأفريقي في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، صراعاتٍ مُحتدمة وتغيّراتٍ في المواقف وبعض المفاجآت في النتائج. خاصةً مع رمي كينيا بثقلها الدبلوماسي وراء مرشّح الرئيس ويليام روتو، السياسي المخضرم راييلا أودينغا، ليخلف فكي على المقعد الأهمّ في الاتحاد الأفريقي، وهو ما لم يحدث، رغم تقدّم أودينغا بالفعل في نتائج تصويت الدورتين الأولى والثانية دون تحقيق النّصاب، أيّ ثلثي أعضاء الجمعية البالغ عددهم 49 ممثلاً عن الدول الأعضاء. واستمرّ التصويت على هذا المنوال، حتى تمكّن محمود يوسف من الفوز بـ 33 صوتاً في الدورة الانتخابية السابعة، بينما صوتت 14 دولة بـ (لا) وامتنعت دولتان.
لئن كان من الواضح أنَّ احتمال فوز كينيا برئاسة المفوضية لن يأتي في مصلحة حكومة البرهان في بورتسودان، فإنّ فوز جيبوتي يَمضي في مصلحتها، خاصة مع دعم مصر لجهود فوز جيبوتي، بعدما استقبل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وزير خارجية جيبوتي محمود يوسف قبل أسبوعين من عقد الانتخابات. ذلك لأنّ مصر تريد ضمان الفوز بدَورها في حربها المائية ضدّ إثيوبيا من خلال تأمين دعم موقع جيوسياسي في القرن الأفريقي؛ وليس أهمّ من جيبوتي في هذا المسعى سوى الصومال، التي ضمنت القاهرة تحالفاً معها من خلال وقوفها ضدّ مشروع الاعتراف بأرض الصومال دولةً مستقلّةً، مثلما تفعل إثيوبيا.
يمكن قول الأمر ذاته، بشأن مقعد النائب الذي فازت به مرشّحة الجزائر، سلمى حدادي، سفيرة بلادها لدى أديس أبابا. ففي يناير الماضي، أقرّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، عند استقباله البرهان، وقوف الجزائر مع السودان لتجاوز الظروف الصعبة في مواجهة ما سَمّاه «قوى الشرّ» التي تستهدفه. كما حذّر تبون من التدخّلات الأجنبية في شؤون السودان.
لذا، وفي جميع الأحوال، تُعدُّ نتائج مفوضية الاتحاد الأفريقي من نصيب المصلحة الدبلوماسية لحكومة بورتسودان. هذا بينما تستضيف نيروبي مفاوضات واجتماعات حثيثة لقوات الدعم السريع وحلفائها من سياسيين وحركات مُسلّحة تهدف لإعلان حكومة مُوازية تنزع الشرعيّة من البرهان وحلفائه.
(2)
لقد كانت فترة موسى فكي في مقعد المفوضية مؤرِّقةً للجيش السوداني طوال فترة حربه مع قوات الدعم السريع منذ أبريل 2023، إذ لم تكتفِ تشاد التي ترْأس المفوضية بالوقوف مكتوفة الأيدي، بل لم تألُ جهداً في جعل حدودها الشرقية حديقة لوجستية تعزّز من قدرة الدعم السريع على خوض معركتها، بشوكةٍ قويةٍ من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي لم تستنكف استخدام المساعدات غطاءً لدعم حليفها العسكري والاقتصادي في السودان.
وفي هذا السبيل، حاولت الإمارات قول كلمتها في مقرّ الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، خلال أشغال الدورة العادية رقم (38) لقمة رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي، التي صاحبتها انتخابات مقاعد مفوضية الاتحاد. عقدت الإمارات ما أطلقت عليه «المؤتمر الإنساني رفيع المستوى من أجل شعب السودان»، بتاريخ 14 فبراير في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بحضور رؤساء إثيوبيا وكينيا، والأمين العام للأمم المتحدة، وموسى فكي؛ الرئيس المنتهية ولايته لمفوضية الاتحاد الأفريقي، ومُمثّلين لعدد من الدول والمنظمات الدولية مثل «إيقاد». وهو مؤتمر، رأت فيه حكومة بورتسودان «عدواناً على دولة إفريقية تسعى لحماية أراضيها وسيادتها، خاصةً عندما تأتي من دولة خارج عضوية الاتحاد. كما تتعارض مع مبادئ الاتحاد الإفريقي التي تتأسس على احترام السيادة والوحدة»، مثلما جاء على لسان نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، الذي أشار إلى أن مصر رفضت المشاركة في موقف وصفه بـ «المُشرّف والمتوقّع».
وبينما أعلنت الإمارات، خلال المؤتمر، تخصيص 200 مليون دولار أمريكي دعماً للمساعدات الإنسانية للسودان، لا يُثير عَقد مؤتمر إعلان الحكومة الموازية في نيروبي أسئلةً حول الجهات التي ترغب الإمارات عبرها في تمرير المساعدات الإنسانية فقط، بل حول طبيعة هذه المساعدات نفسها، والقنوات والممرّات التي ستتدفّق عبرها. ومن المهمّ هنا القول إنّ حكومة بورتسودان قد قرّرت قبل أيام أن تُبقِي على معبر أدري، الرابط بين ولاية غرب دارفور وتشاد، مفتوحاً لمدة ثلاثة أشهر أخرى، بعدما انتهت مدة الثلاثة أشهر الثانية في 15 فبراير الماضي. مع التأكيد على أن يَمنع المجتمع الدولي قوات الدعم السريع من استغلال المعبر لإدخال الأسلحة والإمدادات المُستخدمة في قتل المدنيين العزل، وضمان عدم عرقلة أو التحكّم في مرور المساعدات الإنسانية.
لمحاصرة الموقف التشادي، زار البرهان خمساً من دول حزام الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا في منتصف يناير الماضي، شملت مالي والسنغال وسيراليون وموريتانيا وغينيا بيساو. وهي في مجموعها ذات ارتباط ثقافي وحضاري وأمني واقتصادي بتشاد؛ كما تحالف بعضها أخيراً (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) بتكوين كونفيدرالية دول الساحل للحماية من تدخلات المُستعمِر الفرنسي السابق، والانتظام في معسكر روسي، قوميّ لا اشتراكي بالضرورة. وهو حلف أعلنت تشاد أخيراً عزمها على الانضمام إليه، عبر الحليف الروسي: تركيا.
وحسب مصادر، فإنّ الملفات التي ناقشها البرهان مع نظرائه في غرب أفريقيا شملت تدفّق المقاتلين والكسّيبة عبر طريق الحجيج القديم المتجدّد حرباً في سودان القرن الحادي والعشرين، إضافة إلى الضغط في سبيل استعادة الخرطوم مقعدها في الاتحاد الإفريقي من بورتسودان، مع رغبة الضغط على الإمارات في توقيف دعمها، العسكري، وليس الإنساني بالضرورة، لقوات الدعم السريع، وذلك من خلال التحالف مع حلفاء روسيا الجُدد في الإقليم.
تعلم بورتسودان جيداً قوّة موقف مفاوضاتها مع روسيا. ففي 12 فبراير، أعلن وزير الخارجية السوداني، علي يوسف الشريف، توصّل حكومته إلى «تفاهم متبادل» مع روسيا بشأن إنشاء قاعدة بحرية روسية في بورتسودان، وذلك بعد مفاوضات مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، خلال زيارته موسكو. وأكّد الطرفان على اتفاقهما التام على تنفيذ المشروع من دون أية عقبات تُعرقل إمكانية ذلك. وفي خطوة تُوحي بترتيب دبلوماسي، أعقب الشريف زيارته موسكو بالطيران إلى طهران.
لم يكن حلم روسيا الإمبراطوري في البحر الأحمر جديداً، فقد بدأ بالفعل منذ توقيعها اتفاقية مع البشير في 2017. وبعدما ألغته حكومة حمدوك الانتقالية ذات النزوع الغربي، جدّدت موسكو محاولاتها عبر دعم الجيش السوداني عسكرياً، سواءٌ أكان ذلك بنفسها أم من خلال وكيلتيها تركيا وإيران. لكن ما سهّل الأمر أكثر هو العقوبات التي فرضتها واشنطن على الجيش السوداني، أفراداً وشركات.
(3)
منذ طرْح المبادرة التركية لحلّ عقدة حرب السودان في ديسمبر الماضي، ما فتئت التفاؤلات بخصوص نجاحها تترى، خاصةً وأنّ مدخلها هو جمع الجيش السوداني والإمارات في طاولة، تُفضي بلا شكّ إلى ضمان مصالح الطرفين. وخلال الفترة من ديسمبر حتى الآن، شهدنا تدحرجاً متسارعاً لكرة نار السياسة السودانية وديناميات حروب المواقع والمُناورة، بدءاً من تقدّم الجيش وحلفاء ما سُمّي بـ «حرب الكرامة» في ولايات الجزيرة والخرطوم والنيلين الأزرق والأبيض؛ وما يحدث في نيروبي من تحالف النخبة «المُهمّشة»؛ وليس انتهاءً بما تواتَر أخيراً من أنباء عن مشاركة عدد من القوى السياسية المدنية السودانية في لقاءٍ نظّمه الاتحاد الأفريقي ومنظمة إيقاد، أمس الأربعاء 19 فبراير، في أديس أبابا، للتشاور في سُبل إيقاف الحرب، ضمّت التحالفَ المدنيَّ الديمقراطيَّ لقوى الثورة «صمود»، والكتلة الديمقراطية وبعضاً من حزب الأمة القومي وأجساماً أخرى.
(4)
مرحلة جديدة يعيشها السودان عسكرياً ودبلوماسياً وإدارياً، ربّما تُفضي به إلى رسم خارطة جديدة على مختلف الأصعدة، وسط دوّامة من المصالح والتحالفات المُتقلّبة، فهل يخرج سالماً؟