
الأبيّض: فكّ الحصار وبدء التعافي
تتّسم مدينة الأبيّض بما هو أكثر من كونها عاصمةً لولاية شمال كردفان وإحدى أهمّ وأكبر المدن السودانية: إنها أكبر سوق بالمحاصيل النقدية على مستوى السودان، وتضمّ أكبر بورصة للصمغ العربي في العالم. كلّ هذا تأثر بشدّة بسبب الحصار الذي عانت منه المدينة لقرابة العامين، وهي تُعدّ بحكم موقعها الجغرافي ملتقىً مهمّاً للعديد من الطرق، مثل طريق الصادرات الغربي (أم درمان – بارا – الأبيّض) الذي يمتدّ حتى الفاشر في شمال دارفور. وتتمتع الأبيّض بموقع استراتيجي إذ يعبرها خطّ الأنابيب النفطية الممتد من جنوب السودان إلى ميناء بورتسودان، كما أنها تمثل مركزاً يربط بين ولايات كردفان ودارفور بالعاصمة الخرطوم وولايات الوسط.
في 23 فبراير الجاري، أعلن الجيش السوداني نجاحه في فكّ الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع على الأبيّض منذ نهاية أبريل 2023. بعد سلسلة من العمليات العسكرية التي نفّذها «متحرّك الصيّاد» التابع للجيش السوداني، تمكّن خلالها من السيطرة على مدن أم روابة والرّهَد، والتقدّم عبر جبال كردفان وصولاً إلى الأُبيّض من الناحية الجنوبية. وقال بيان أصدره المتحدث باسم الجيش السوداني العميد نبيل عبد الله إنّ قوات متحرّك الصياد قد تمكّنت من فتح الطريق إلى الأبيّض والتحمت مع قوات الهجّانة.
وبثّ جنود الجيش السوداني مقاطع ڤيديو عند مدخل المدينة لحظة التقاء القوات من مُتحرّك الصياد مع قوات الهجّانة، واستقبلهم قائد الفرقة الخامسة القوات عند دخولهم، وأعقب ذلك خروج المدنيين إلى الشوارع احتفالاً بفكّ الحصار عن المدينة.
مع دخول متحرّك الصياد أطلقت قوات الدعم السريع داناتها على المدينة مرّتين من الاتجاه الجنوبي الشرقي لمدة ساعتين، وردّت عليها قوات الجيش، وقد تأثّرت بعض المناطق بالتدوين مثل حي الصفا. وقد دخلت قوات متحرّك الصياد إلى المدينة من الطريق الرئيسي للمدينة الرابط بين كوستي وأم روابة والأبيّض.
وكانت قوات الدعم السريع تطلق داناتها على المدينة من وقت إلى آخر، طوال فترة الحصار ما أودى بحياة كثير من الناس. ومع الحصار، تدهور الوضع الصحّي بشدة وتوقفت معظم المرافق الصحية، مثل مستشفى الضمان ومستوصف هاي كير والمستوصف البريطاني بالإضافة إلى مستوصفين للنساء والولادة، وكان المستشفى التعليمي يعمل بقدرة تشغيلية تبلغ 20% فقط. كذلك ارتفعت أسعار الأدوية ارتفاعاً كبيراً، وانعدمت بعض العلاجات والمحاليل الطبية لأنّ معظم شركات الأدوية تسلّم الأدوية في المناطق الآمنة فقط، وكانت آخر منطقة آمنة تُجلب منها الأدوية إلى الأُبيض هي مدينة الدبة، إذ ينقلها طوف يتكوّن من بعض القوات المتحالفة مع القوات المسلحة عبر طرق ترابية وأحياناً تتعرّض الأدوية للنهب لذلك امتنع كثير من تُجار الأدوية عن جلبها. كذلك أضربت بعض الكوادر الطبية عن العمل احتجاجاً على توقف رواتبهم، بحسب أحد سكّان المدينة.
بسبب الحصار انعدمت أبسط مقومات الحياة في المدينة، وارتفعت أسعار المواد التموينية بشدة لأنها تصل إلى التجّار بأسعار متباينة حسب نقاط الارتكازات والمبالغ التي يجري دفعها لأجل مرورها. كذلك يتباين سعر شراء المواد التموينية وغيرها حسب نوع عملية الدفع؛ كاش أم بنكك. وقد بلغ سعر السكّر 5.000 جنيه للكيلو الواحد، ورطل الزيت 3.000 جنيه، وملوة البصل 20.000 جنيه، وكيلو العدس 10.000 جنيه. وكانت الأسعار تنقص وتزيد حسب سماح قوات الدعم السريع للتجّار بالعبور إلى داخل المدينة.
كذلك عانت المدينة من انقطاع الإمداد الكهربائي والمائي وانعدام غاز الطبخ. وبسبب انقطاع خدمات الاتصالات كان على السكّان استخدام شبكة ستارلينك بواقع 4.000 جنيه للساعة. وأدى انعدام الكاش إلى نشوء تجارة أخرى إذ يتقاضى من يمتلكون الكاش عند التحويل 30% من جملة القيمة المحولة.
مع دخول قوات متحرّك الصياد وفكّ الحصار عن المدينة، نقصت أسعار السلع كثيراً في يومين فقط، إذ نقص سعر كيلو السُّكر إلى 2.800 جنيه، ورطل الزيت إلى 2.400، وملوة البصل إلى 2.500 جنيه، ونقص سعر كيلو العدس إلى 2.400 جنيه سوداني.
القِطينة: تحت سيطرة الجيش، وغياب الخدمات الأساسية
بعد اشتباكات عنيفة استمرت لثلاثة أيام، تمكّنت القوات المسلحة السودانية من استعادة السيطرة على مدينة القِطينة بولاية النيل الأبيض، وسط فرحة السكّان الذين عانوا لأشهر تحت قبضة قوات الدعم السريع. ومع ذلك، لا تزال المدينة تعيش أوضاعاً إنسانية كارثية، في ظل استمرار انقطاع الاتصالات، والكهرباء، والإمداد المائي.
وروى شهود عيان لـ «أتَـر» أنّ قوات الدعم السريع انسحبت يوم الثلاثاء 18 فبرايرالجاري، لكنها عادت في اليوم التالي بقوات أكبر وشنّت هجوماً عنيفاً على المدينة، واعتدت على المواطنين بالسياط واعتقلت بعضهم، كما استولت على الهواتف تحت تهديد السلاح.
وأكّد أحد الشهود مقتل ثلاثة مدنيين برصاص الدعم السريع، مشيراً إلى أنّ أحد الضحايا قد عُثر عليه جثة متحلّلة داخل منزل مهجور. وأضاف أنّ الدعم السريع قد اقتحمت منازل المواطنين وطردتهم بالقوة وهدّدت بعضهم بالذبح، ما دفع كثيراً منهم إلى الفرار.
وقال شاهد عيان أصيب خلال الأحداث، إنه اضطرّ إلى المشي مسافة 5 كيلومترات برفقة أطفاله، وسط دويّ الرصاص، بحثاً عن الأمان، بينما غادر معظم السكان المدينة هرباً من العنف. ومن القرى التي نزح إليها الأهالي أم مرضة، وشيخ موسى، والحاج موسى، وكمبو محمد، ود العكلي وودالنورة ود الحترة ونِعيمة.
وبعد دخول الجيش مدينة القطينة، لا تزال منطقة الشيخ الصدّيق بمحلية القطينة وقرى بمحلية أم رِمْتة في قبضة قوات الدعم السريع، ما يزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة ويحول دون عودة الحياة الطبيعية في تلك المناطق.
يوم الاثنين 24 فبراير الجاري، زار وفد رسمي المدينة للوقوف على الأوضاع فيها، وضمّ المدير التنفيذي لمحلية القطينة، ومدير شرطة المحلية، ووزير الصحة بولاية النيل الأبيض، ومدير عام مستشفى القطينة التعليمي. ووصف الوفد الوضع في القطينة بأنه «كارثي»، دون الخوض في تفاصيل دقيقة، بينما كشف مصدر أمني لـ «أتَـر» أنّ السلطات أرسلت قافلة علاجية إلى مستشفى القطينة التعليمي الذي يعاني من تدهور حادّ في الخدمات الطبية. كما أكّد أنّ جهازي المخابرات والشرطة سيبدآن قريباً في مباشرة مهامّهما داخل المدينة لضبط الأمن.
في الأثناء، لا يزال العديد من النازحين غير قادرين على التواصل مع ذويهم، بسبب استمرار انقطاع شبكات الاتصالات والإنترنت، ما يفاقم من معاناتهم. وقالت إحدى النازحات في الدويم لـ «أتَـر» إنها فقدت الاتصال بأسرتها منذ ثلاثة أيام قبل دخول الجيش إلى المدينة، وتعجز عن معرفة مصيرهم أو حالتهم الصحية، معربةً عن قلقها من تدهور صحة والدتها، التي تعاني من أمراض مزمنة.
وأشارت إلى أنها تتابع جميع الڤيديوهات المنشورة عن المدينة عبر منصّات التواصل الاجتماعي، بحثاً عن أي مشهد يطمْئنها على عائلتها، لكنها لم تجد لهم أثراً حتى الآن. وطالبت السلطات بالإسراع في فتح طريق الدويم – القطينة، والعمل على إعادة خدمات الاتصالات والكهرباء.
ورغم استعادة الجيش للقطينة، إلا أنّ الوضع الإنساني في المدينة لا يزال حرجاً، إذ يعاني السكّان من انقطاع تام للكهرباء والمياه، إضافة إلى غياب الخدمات الصحية الأساسية، ما يجعل عودة الحياة الطبيعية أمراً صعباً في ظل استمرار هذه الأوضاع المأساوية.
الفاشر: أطباء بلا حدود تعلّق عملها بالمدينة
ضيّقت قوات الدعم السريع الخناق على سكّان الفاشر، باستهداف المدنيين ومختلف المرافق الصحية، ما أدّى إلى فرار أكثر من ثلثيهم إلى مناطق مختلفة حول المدينة، وخرجت جميع المرافق الصحية عن الخدمة بعد استهدافها بالإطلاق الممنهج للدانات، وأصبح المستشفى التخصصي لأمراض النساء والتوليد «السعودي» هو الوحيد الذي يعمل داخل مدينة الفاشر، رغم تعرّضه للقصف لمرات عديدة أدّت إلى تدمير طوارئ الولادة بالكامل، وتدمير أجزاء كبيرة من الأقسام الأخرى حتى أصبح المستشفى يعمل بنسبة 30% فقط من طاقته، ففي أسبوع واحد تعرّض للقصف نحو 14 مرة، كانت إحداها من مُسيّرة استراتيجية أودت بحياة نحو 80 شخص بحسب إفادة كادر طبي بالمستشفى.
وبعد تزايد هجمات الدعم السريع على معسكرات النازحين بالمدينة وريفي الفاشر ازداد الضغط على المستشفى في ظروف قلة الإمكانات وشحّ المعدات الطبية والكادر الطبي.
وقال متطوعون بالمستشفى إن منظمة ريليف إنترناشيونال وعدت بتوفير متطلبات المستشفى، لكنها لم تستطع تنفيذ الحاجة العاجلة لأنّ وزارة الصحة الولائية طلبت إجراء بعض التعديلات على الاتفاقية الفنية المبرمة بينهما قبل التوقيع عليها، وتأخّرت المنظمة عن التنفيذ رغم إبلاغها من قِبل الوزارة بذلك قبل ثلاثة أشهر ورغم المناشدات الكثيرة من الكادر الطبي والنشطاء. وقد قدّمت الوزارة الولائية شكوى للوزارة الاتحادية بخصوص تأخير العمل، ولم تتلقّ رداً من الأخيرة. والمستشفى على شفا الخروج عن الخدمة، إذ يستقبل يومياً عدداً كبيراً من حالات الإصابة إلى الحدّ الذي جعل الكادر الطبي يستقطع من حوافزهم لتلبية المتطلبات البسيطة.
ونتاجاً لتزايد أعمال العنف بريفي الفاشر الغربية ومعسكر زمزم للنازحين، وتواتر هجمات الدعم السريع في الآونة الأخيرة، أعلنت منظمة أطباء بلا حدود تعليق عملها بالفاشر والمستشفى الميداني التابع لها بمنطقة جفَلو شماليّ معسكر زمزم للنازحين. وقالت المنظمة في بيان لها، إنّ المستشفى الميداني استقبل نحو 139 حالة إصابة من المعسكر والمناطق المجاورة. كذلك لقي 11 شخصاً مصرعهم، بينهم 5 أطفال، بسبب عجز المستشفى عن تقديم الخدمات. والمستشفى السعودي هو الوحيد الذي يجري العمليات الجراحية في شمال الفاشر.