أتر

نوتة من علم الكونكا (4)

«أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع!

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة».

من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.

شَهِد الدكتور عبده مالك عالم سيمون في حي مايو بالخرطوم على روحيّةٍ هجينة، هي في بعضٍ منها تصويرٌ ثقافيٌّ لِما يصيب مجتمعاً ارتدّ موضوعياً عن آزِرَة الإنتاج إلى انتهاك «الشَّفشَفة». ويضجّ الوعي بهذا الانتهاك للذاتيّة المعذّبة، فوَعْي هذا المجتمع ليس عُصاباً أو جنوناً أو لا مبالاةً دهريّة، وإنما كُسَّارُ زجاجٍ كأنه ارتطم بصخرٍ في الواقع فتحطَّم عليه. يعتقد كثيرٌ من أهل مجتمع مايو أنّ ظروفهم المتدهورة هي من شُغل «الحكومة» التي يحلمون بالثورة عليها في هَبَّةٍ واحدةٍ مُضريّة لا تُبقي ولا تَذَر. أشار فكي نوباويّ إلى الهُجنة التي تسلّلت إلى عقيدةِ جارِه التاجر من دار حامد، الذي يكرّ مسبحةً بيَدٍ ويقلِّب حصىً خمساً بيده الأخرى؛ الأولى من الإسلام والثانية من عناصر عقيدة وثنيّة. وخلُص الفكي النوباوي من هذا التسلّل الوثني إلى أنّ الإسلام لَمّا يدخل قلوبَ «الجَلّابة» بحقّ، وما زالت روحانيّةُ قومِهِ قادرةً أن تنفذ في هذه «المَلَجَة». عَدّ الدكتور سيمون هذه الروحيّة الهجينة ميزةً لجنسٍ جديد من الناس؛ جنس يتخلَّق في «الكُوْنِكا»، ليس في كُونِكا الخرطوم وحدها وإنّما في كُونِكا كونيّة، من جاكرتا إلى داكار، وإنْ كانت لكلّ جغرافية بشريّة خصائصُها.

لذلك ربما رَكِب «الذّعرُ الأخلاقي» ضميرَ الحركة الإسلاميّة الناهضة للحُكم بالدِّين القويم من هذا الإقليم الخطر، حيث تختلط الأنساب والعقائد والضّمائر. واعتبره الدكتور حسن مكي حزامَ سخطٍ وغربةٍ يهدّد المدينة الجديدة، ويسري في أحشائها عائداً وقد لفظَتْه. لكنْ، اكتفت الحركة الإسلامية بالذّعر وما ينجم عنه من خطّةٍ مهزومة. فلا تجد عند الدكتور حسن مكي ذِكراً لاقتصاد مايو الذّميم سوى كجريمة. ووقع عنده أن خطرَ مايو هو منفَذٌ للتنصير، فيأتي بها بمايو ضمن رصده للمدارس التبشيريّة في العاصمة، ومنها مدرسة كمبوني الصناعية حي مايو: «تقع المدرسة في منطقة سكنيّة مزدحمة بالسكّان وحولها أماكن صناعة الخمور البلديّة، المساحة 11554 متراً مربّعاً وهناك مساحة مسوّرة ومنفصلة من الناحية الغربية مساحتها 3385 متراً مربّعاً.. لم يكتمل بناء المدرسة حتى الآن، ولكن الدراسة بها منتظمة وقد اكتمل السُّور وبعض الفصول كما أنّ العدد الكلّي للفصول هو تسعة، اثنان كبيران من الحصير و7 من الحجر. التلاميذ عبارة عن أطفال صغار من حي مايو والعِشَش وصلوا في دراستهم للسنة الخامسة الابتدائية الآن. بالمدرسة فصول مسائية للكبار وبها مكان للكشف الطبّي في أحد الفصول مما يدلّ على أنّ أحد هذه الفصول يُستخدم كعيادة. وبالفصول مراوح كهربائيّة رغم أن المنطقة لم تُوصل لها الكهرباء بَعد، خاصة في الفصلين المنفصلين وأحدهما هو الذي به مكان الكشف الطبي» (حسن مكي، «أبعاد التبشير المسيحي في العاصمة القومية»، بيت المعرفة، أم درمان، 1990، ص 42).

عزَل الدكتور حسن مكي المدرسةَ، التي نظر إليها كجسمٍ غريبٍ، عن المحيط بها من اجتماعٍ، سوى سوق الخمر البلدي، فهي غرس كنسي وبَسْ، يقع ضمن مشروع تنصيريّ لا ينقطع، فَصّل في تاريخَه في كتابٍ آخر يتّصل بالأول (حسن مكي، «المشروع التنصيري في السودان 1843 – 1986»، المركز الإسلامي الإفريقي في الخرطوم، الخرطوم، 1991). ولم يقع بصَرُه على مثل الهُجنة التي قال بها الدكتور سيمون وموقعها من إعراب المدينة المرجوّة. والكنيسة التي يَرْهَب حسن تستقطب هذا الجمهور من «الجنوبيين والنوبة» وتشدّه إليها «عن طريق الأندية وتقديم الخدمات التعليميّة بلهجاتهم المحليّة وباللغة العربيّة العامّية في فصول تقوية ومدارس للأطفال وما فوق هذين المستويين». كما «تَجمَعُهم حتى لا يذوبوا في المجتمع الشمالي المسلم» (المصدر الأخير، ص 143). والخطر كلّ الخطر عند الدكتور حسن مكي من النوبة والجنوبيّين النصارى، لكن لم يشهد في تجواله على المدارس التبشيريّة في العاصمة على ما التقط الدكتور سيمون من علامات «جنس جديد» بحسب عبارته؛ جنس ذابت فيه أجناس، الميزانُ فيه لفَلاحة «الشَّفشَفة».

تتبّع الدكتور حسن مكي «كُونكا» الخرطوم كخريطةٍ من المدارس التبشيريّة المُريبة يقوم عليها متآمرون كنسيّون عظام من المركز الإمبريالي، وجاء بشواهد على هذا المقصد. والدكتور حسن مكي كان من الحريصين على «تثقيف» الحكم الذي قام له إخوانه وأخواته في الحركة الإسلاميّة وتربَّص بالتحدّيات التي أحاطت بالدولة الجديدة مَليّاً وتأمَّل. لكن انتهى تأمُّله عند هذه «المؤامرة» المسيحيّة. وظَلَّ الإقليم العظيم لاجتماع «الكُونِكا» منطقةَ عمىً، يحيط به، أو يحاول، جهازُ البوليس بالدرجة الأولى، ثمّ بيروقراطية التخطيط العمراني. ونمَت علاقات تبادليّة بين الاثنين، البوليس و«الكُونِكا» في «شَفشَفة» و«شَفشَفة مضادّة» إذا صحّ التقدير، ودخلت الرّشاوى والغرامات ومال الحماية دوائرَ الاقتصاد التبادليّ المزدهر في «الكُونِكا». وربّما كانت التحالفات التي انعقدت بين حضرة الصول وستّ العَرَقي هي التي فتحت لها البابَ أن تتميّز عن قريناتها بتجارةٍ مستقرّةٍ تسمح بتراكمٍ، ولو قليلٍ، فلا تعصف بأدواتها الكشّة الدوريّة، أو ربما سمحت لها حركة المعلومات بتفادي مثل هذه المطبّات بالمرّة. وطَفَّرَ نفرٌ خارج هذا الإقليم بسلالم التعليم والتجنيد ودروبٍ أخرى للمجازفات، بينما ارتدّ إليه سِوَاهم ممّن تقطَّعت بهم السُّبل في كرش المدينة فلفظَتهم بدُبُرها. وبذلك تهيّأ نوعٌ من الاستقلاب بين المدينة و«الكُونِكا»، ونشأت مناطق انتقاليّة بينهما؛ حيازاتٌ خطرةٌ فيها فائزون أو بالكاد تحت التهديد المستمرّ بالعودة حيث بدأوا، كلبة ميتة، وخاسرون ربّما عبروا وانتصروا لو اجتمَعَت إرادتُهم لمجازفةٍ كبرى، قد تبدأ بمَشْلُوبٍ حتفَ أنفه من عِبيد «خَتِف». ولحيويّةِ هذا الاستقلاب رهزٌ وقَبعٌ وصفيرٌ تجد الناظرةُ آثاراً له في ضروبٍ من التعبير: رَنْدُوك وزَنِق وسرد وقاموس ورقص وموسيقى وأزياء وحِلاقات وعمليات جراحيّة حتى وشخصيات وبطلات وأبطال. وهذا الاقتران بين البروليتاريا الرثّة وفقراء الطبقة الوسطى الحضريّة سِمَةٌ لشراسةِ قوى السوق في عصر الليبراليّة الجديدة وهي تعيد توزيعَ فئات قوى العمل، تطرح الفائضَ منها والطالحَ جانباً، وتعيد انتشار غيرهم بانتخابٍ عسير، بما في ذلك في الوظيفة الأيديولوجية، فتصعد القونة إلى المسرح رسولاً لزمانها، ويتَّبعُ الناسُ سُنّتَها، ويتحوّل الأستاذ داك، متذكِّره؟ اسمه منو كان؟، إلى موزِّع آيس. ما عرفتُه والله.

وجد الدكتور آصف بيات في القاهرة الثائرة عام 2011 مُعاملاً لهذا الاقتران، وقال: جَمَعت العشوائيّات، مثل أمبابة، الفقراءَ المعدمين من الأرياف بغير تعليم وصنعة، وفائضَ المدينة الرّثّ، وكذلك فئات من «الطبقة الوسطى» القديمة، موظّفين حكوميّين لا حيلة لهم فوق المَاهيّة، وأزواجاً جدداً من المتعلّمين، معلّمين ومحامين، لا يجدون لحَقّ الإيجار في المدينة النظاميّة سبيلاً. وكَتب بيات وقتها أنّ هذا الاقتران بين عالم الطبقة الوسطى والعشوائيات سَمَح بنقل بعض قضايا العشوائيات إلى عالم «الناشطين» والصّحافة والجامعات والروابط المهنيّة (آصف بيات، «سوقة الربيع العربي»، الأنثربولوجيا المعاصرة، م 56، ملحق 11، ص 33-43، دار جامعة شيكاغو، أكتوبر 2015). وعَرَّضَ بيات في مقاله، وفي أكثر من موقع، باشمئزازِ الصّفوة الليبراليّة المصريّة الشديد من عشوائيات القاهرة، وتخوُّفهم في ساعة الثورة أن تنقلب «ثورة الوعي» في خاطرهم إلى «ثورة جياع» فينفتح الباب لغزو «البلطجيّة» وتلويثهم قماشة الثورية. واشتُهِر بطبيعة الحال عن النظام المصريّ ما قبل الثورة وفي غمارها تجنيدُ «البلطجيّة» من العشوائيات ذاتها لقمع الثائرين، فمنها كان جندُ الثورة وجندُ الثورة المضادّة معاً. زادَ من هذا الاشمئزاز تصوُّرُ الصّفوة المصريّة أنّ دِينَ العشوائيّات هو صيغةٌ من صيغ السّلَفيّة الإسلاميّة التي تعرف كيف تخترق هذا العالم برسالةٍ روحيةٍ سهلةٍ وشبكةٍ من العلاقات الزبائنيّة تصل الجامعَ بالأسرة الممتدّة بالسوق. وكانت أمبابة في واقع الأمر موطناً في أوّل التسعينيّات للجماعة الإسلاميّة ومقاتليها، أمّا ساعة الثورة فقد كان لأهلها قدحٌ مُعلّىً في إسقاط النظام، ودَورٌ مُقدَّمٌ في أيّام ثوريّة مشهودة مثل جمعة الغضب 28 يناير 2011. فما حسابها إذن؟

يُتبع…

Scroll to Top