أتر

عمّال زراعيّون: عسف الحرب واستباحة الحقوق

لم تقتصر أضرار الحرب المُستمرّة منذ منتصف أبريل 2023 على فئة بعينها في السودان، إذ شملت المعاناةُ جميعَ أصحاب المهن والحِرف، ومنهم العُمّال الزراعيِّون في القطاع غير المُنظّم، وفقاً لما رصدته «أتَـر» في عدد من الولايات. وبعد مرور أكثر من 21 شهراً على الحرب، فقد عدد لا يُقدَّر من العمّال الزراعيين في أنحاء السودان مصادرَ رزقهم، ووقع بعضُهم ضحيّةً لانتهاكات طرفي الحرب، وتنوَّعَتْ معاناتهم وفقاً لأماكن وجودهم وأزمنة عملهم.

يقول إبراهيم عبد الله، من قرية قِضيضِيم الواقعة بين مدينتَي الرهد وأم روابة بولاية شمال كردفان، إنّ أفراداً من الدعم السريع اعتدوا عليه بالضرب في مايو 2023، عندما كان يُنظّف أرضاً زراعيةً بالمنطقة، وأجبروه على حرق أدوات العمل وتوعّدوه بالقتل إذا عاد مجدداً.

يعتمد إبراهيم في معيشته على العمل أجيراً في الزراعة المطرية، ويُحدّث «أتَـر»، بأنه يبدأ عمله في مايو من كلّ عام بنظافة الأراضي الزراعية، يجمع ويُحرق الأعشاب ويقطع الأشجار التي تُعيق عمليات الزراعة. وبنهاية مرحلة النظافة يبدأ إبراهيم مرحلة التوريب (دفن البذور) في يونيو ويوليو، ومن ثم يَنتقل أجيراً في فترة نظافة الحشائش، قبل أن تأتي  فترة الحصاد، التي يعمل بها حاصداً حتى نهاية الموسم الزراعي المطري.

لكن منذ التعدّي عليه بسياط الدعم السريع إبان سيطرتها على المنطقة الواقعة بين أم روابة والأبيض، فَقَدَ إبراهيم مصدر رزقه وعمله الذي كان يَعتمد عليه في توفير الطعام لأسرته المُكوَّنة من 5 أطفال ووالدتهم، ويَقول إنه حاول العمل بدرداقة لنقْل البضائع في سوق تندلتي، لكنه لم يَستطع إدارتها في زحمة السوق، وبعد أشهر تركها ليقود عربة كارّو يجرّها حمار لبيع الماء، وانتهى به الأمر إلى تركها لضَعف العائد، لأن صاحب الكارو يأخذ نصف ما يحصل عليه، والمُتبقّي يذهب علفاً للحمار ومعيشة أسرته.

ويقول إبراهيم إنّ الحرب قد منعته من مُمارسة نشاطه الذي يُتقنه، ويتحصّل مقابله على قوت أطفاله وتعليمهم، ما دفعه إلى النزوح إلى مدينة ربك والاستقرار في أحد معسكرات النزوح والاعتماد في طعامه وأسرته على التكايا وتبرّعات الخيرين.

أجبر بعض أصحاب المشاريع الزراعية كثيراً من العمال على العمل مجاناً في حصاد السمسم

أما أحمد سليمان، وهو عامل زراعي من مدينة ود عَشَانا، التابعة لمحلية أم روابة، فقد كان أسوأ حظاً من إبراهيم. يقول لـ «أتَـر» إنه كان يعمل في حصاد السمسم بإحدى المزارع الواقعة قريباً من ود عشانا على الطريق القومي. وفي شهر أكتوبر 2023 بعد سيطرة الدعم السريع على ود عشانا، ونزوح سكان المدينة إلى مناطق مُتفرّقة، لجأ أصحاب المَزارع لتأجير العمّال للحصاد، وكان قد اتفق مع صاحب مزرعة على حصادها وحراستها حتى نهاية الموسم بأجر مناسب، لكن في أحد الأيام جاءت قوة من الدعم السريع مُتجهةً من أم روابة إلى ود عشانا، وعندما اقترب منه الجنود أطلقوا عليه عدة رصاصات استقرت إحداها في قدمه، بعد أن وصفوه بأنه فرد استخبارات يتبع للجيش. فَقَدَ أحمد مصدر دخله منذ ذلك الوقت، فقد قضى وقتاً طويلاً في تلقّي العلاج دون أن تقوى قدمه على السير كسابق عهدها.

من الصعب في الوقت الحالي حصرُ الانتهاكات التي وقعت على العمّال الزراعيين في جميع مناطق السودان، لكنّ عدداً من الذين تحدثوا لـ «أتَـر»، كشفوا عن كثيرٍ من المصاعب والمعاناة. يقول الطيب فضل السيد، وهو أحد العمّال الزراعيين الموسميين في مناطق حصاد السمسم بمنطقة الباجة الواقعة غرب الدويم بولاية النيل الأبيض، إنّ بعض أصحاب المشاريع الزراعية أجبروا كثيراً من العمال على العمل مجاناً في حصاد السمسم.

ويشرح الطيب الأمر بقوله: «مع بداية حصاد السمسم في كلّ عام يجمع أصحاب المشاريع الزراعية العُمّال، وينقلونهم إلى مواقع المشاريع مع توفير المواد الغذائية ومياه الشرب، ويُسلّفونهم بعض المبالغ المالية حتى نهاية عملهم، ويُشرف صاحب المشروع عليهم بصورة دَورية متفقداً احتياجاتهم». لكن في موسم الحصاد الماضي والذي بدأ في أكتوبر 2024، نُقِلَ العمّال إلى المشاريع الزراعية بمنقطة الباجة، وعندما وصلوا إلى أماكن الحصاد رفض بعض أصحاب المشاريع منحهم سلفيات من أجل أسرهم، واشترطوا عليهم الفراغ من العمل ومنحهم حقوقهم كاملة. يقول الطيب إنّ العمّال بدأوا العمل مضطرّين لأنهم لا يستطيعون العودة إلا بمساعدة أصحاب المشاريع الزراعية، والمنطقة تخلو من وسائل الحركة، ويُمكن أن يموت الإنسان فيها عطشاً.

بعض أصحاب المشاريع يُجبرون العمال على دفع تكلفة المعيشة أثناء العمل، وهو ما يجعلهم لا يحصلون إلا على مبالغ زهيدة مقابل عملهم

ويُخبر الطيب أنهم حينما أنهوا أعمالهم، فُوجئوا باختفاء صاحب المشروع الذي أرسل لهم صاحب عربة، يُخبرهم بأنه مُتبرّع مجاناً بنقلهم إلى أقرب قرية، لكنه غير مُكلّف بمنحهم حقوقهم المالية. يقول الطيب إنّ العمال في مثل هذه الحالات يضطرّون إلى ترك حقوقهم والمغادرة، لأنهم إذا حاولوا أخذ حقوقهم من المحصول الذي جمعوه قد لا يضمنون سلامتهم، وهم على يقين بأن صاحب المشروع يُراقبهم عن كثب، ويُمكن أن يُرسِل من يُطلق عليهم الرصاص ويُرديهم قتلى في منطقة خلوية غير مأهولة بالسكان.

أسلوب آخر أقلّ وطأة تعرّض له العمّال الموسميون في حصاد السمسم. يقول العامل الزراعي علي دفع الله، إنّ بعض أصحاب المشاريع يُجبرون العمال على دفع تكلفة المعيشة أثناء العمل، وهو ما يجعلهم لا يحصلون إلا على مبالغ زهيدة مقابل عملهم.

فئة أخرى يقول عنها دفع الله في حديثه لـ «أتَـر»، إنها تُجبر العمّال على التنازل عن جزء من المساحة التي حصدوها وتطلب منهم عدم إدخالها في الحساب، ويُفسّر ذلك بقوله إنه يمكن أن يحصد العمال 100 فدان، لكن صاحب المشروع يمنحهم الحساب على 70 فداناً فقط، ويطلب منهم أن يُعفوه عن تسديد بقية الأفدنة، لأنه يرى أن الحصاد غير مُبشّر ويُتوقّع أن يتعرّض لخسائر مالية بسبب غلاء أسعار مدخلات الزراعة والأيدي العاملة.

ولم تتوقّف الانتهاكات على منع العمال من العمل أو حرمانهم من حقوقهم، فقد قتلُ بعضهم وفقاً لإفادة حامد وداعة الله، الذي ذكر أن أفراداً من الدعم السريع قتلوا ثلاثةً من العمال في مزرعة بولاية الجزيرة في ديسمبر 2024. محدثاً «أتَـر» قال حامد، وهو عامل زراعي من النيل الأبيض، وكان يعمل في مزرعة يملكها أحد المزارعين بولاية الجزيرة، إنّ بعض أصحاب المزارع نَقلوا مركباتهم إلى مزارعهم وتركوها في حوزة العمال، وأخذوا مفاتيحها وغادروا، وعندما سيطرت الدعم السريع على المنطقة اعتقَد أفرادها أنّ العمال يُخفون المفاتيح عنهم فقتلوهم.

ويضيف حامد أنه في بعض الأحيان كانت العصابات المسلحة التي استغلّت انفلات الأمن تُجبر العمّال الزراعيين على نقل الأبقار والضأن من المزارع إلى مناطق بعيدة يستغرق الوصول إليها في بعض الأحيان ثلاثة أيام، ومن ثم تركهم يتدبّرون أمر العودة بطريقتهم.

وعندما بدأ القتال ضارياً بولاية الجزيرة بين الجيش والقوات المُتحالفة معه من جهة، والدعم السريع من جهة أخرى، تعرّض آلاف العمّال الزراعيين لانتهاكات وصل بعضها إلى القتل، ومعظمهم من سكان الكنابي بولاية الجزيرة وهم من العمّال الزراعيين الذين ظلّوا يمتهنون عمالة الزراعة بمشروع الجزيرة منذ تأسيسه.

وفي يناير الماضي، رصدت «أتَـر» ڤيديو لعشرات العمّال الزراعيين جرى القبض عليهم من قِبَل أفراد يتبعون لما يُعرف بقوات درع البطانة، ويَظهر في الڤيديو أن العمال الذين كانوا محاصَرين في صندوق عربة بوكس يتعرّضون للضرب والشتم من قبل الأفراد العسكريين.

وعلمت «أتَـر» من مصادر محلية بولاية الجزيرة، أنّ العمال الذين تعرّضوا للضرب وعددهم 9 أفراد، هم من قرية دار السلام الحديبة وكانوا يعملون في مشروع ود المهيدي الزراعي بشرق الجزيرة.

Scroll to Top