
اكتسبت المجتمعات المحليّة في شمال السودان قدرةً على مُقاومة الجفاف وتغيّرات الطبيعة والاجتماع بسبب تتالي الفيضانات وتنوّع الأمراض وآفات الأرض ودوابّها التي تقتل الصغار. لكن لا تزال هنالك مُهدّدات أخرى تتقاطر لتعصف بهذه المجتمعات، ليست مهدّدات طبيعية أو ناتجة عن تطوّراتٍ يمكن تداركها، وإنما هي إفرازات الحرب التي أوقفت مجالات الحياة، خاصة مع تعطّل الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء.
لم تكتفِ حرب الخامس عشر من أبريل بتهجير السكّان وتعطيل حيواتهم وتدمير البنية التحتية فحسب، بل حرَمتهم من قدرتهم على ارتياد سبل كسب العيش بجهودهم الذاتية، خاصة بعد منع الدعم السريع التجّارَ من تصدير أي محاصيل أو ثروة حيوانية إلى دولة مصر، وإغلاق الطرق التجارية بين مناطق سيطرة الطرفين.

أحد الجداول بمشروع نوري، قد امتلأ بالحشائش.
ومع تدفّق موجات من النزوح شمالاً، بدأت المشاريع الزراعية بالولاية الشمالية في استعادة الحياة ثانيةً، إذ ساعدت موجات النزوح تلك على الاستقرار والتوسّع في المساكن. هذا إضافة إلى زيادة القوى العاملة والاستهلاك المحلي، ما هيَّأ الفرصة لازدهار أسواق الولاية، وعزَّز من ثقة المزارعين في إمكانية الربح – وإن كان على نحو هامشي – من زراعة المحاصيل الغذائية ذات الاستهلاك اليومي.
في مناطق أمْري ومرَوي ونوري وجزر برتي، يحاول المزارعون المُتضرّرون من تداعيات الحرب خلق واقع جديد من رماد البنية التحتية للكهرباء التي استهدفتها الدعم السريع، ما ضَيَّقَ الخناق على المواطن. تقع الولاية الشمالية في منطقة الصحراء شحيحة الأمطار، إذ يقلّ المعدّل السنوي لهطول الأمطار فيها عن 75 ملم؛ ما يجعل الولاية معتمدةً على الزراعة المرْوية على نحوٍ رئيس. وتُزرع العديد من المحاصيل المُهمَّة على ضفاف النيل في الولاية الشمالية، من أبرزها القمح، والفول المصري، إضافةً إلى مجموعة من الخضروات والفواكه كالتمور، كما تُزرع فيها توابل كالشمار والتوم والحلبة. واستهدفت الولاية زراعةَ مساحةٍ قدرها 520 ألف فدان في الموسم الشتوي خُصّص منها حوالي 205 آلاف فدان لمحصول القمح، وحوالي 74 ألف فدان لمحصول الفول المصري، ومساحات أخرى للتوابل والخضروات والأعلاف.
يقول المُزارع صالح محمد الحسن، من منطقة أمري الجديدة، القرية 3، إنّ ما ساعد على زيادة الرقعة المزروعة مقارنةً بالموسم الماضي، هو زيادة القوى البشرية العاملة وضخّ رؤوس أموال جديدة، بعد انخراط بعض القادمين الجدد من ولايتي الجزيرة والخرطوم في عمليات الزراعة في المشاريع المرْوية. يقول متحدّثاً لـ «أتَـر»: «في العام الماضي أحجم بعض المزارعين عن الدخول في أي أنشطة زراعية، واكتفوا بمحاولة فهم آليات السوق، لكن في هذا العام استثمر كثيرٌ من الوافدين من ولايتي الجزيرة والخرطوم أموالهم في القطاع الزراعي».
ويشير علي سليمان، المزارع بجزيرة أم طليح بوحدة مرَوي الإدارية، إلى أنّ الدافع الأساسي وراء الإقبال على الزراعة هذا العام، يكمن في فوارق الأسعار التي ظهرت في نهاية الموسم الماضي، فقد ارتفع سعر جوال الفول المصري مثلاً ليصل إلى 450 ألف جنيه، وجوال البصل إلى 110 آلاف جنيه، بينما كان سعر الأخير في بدايات الموسم الماضي حوالي 20 ألفاً. هذا الفارق الشاسع، شجّع مُلّاك الأراضي وصغار المموِّلين على الاتجاه نحو الموسم الشتوي.
لجأ الناس في الشمالية إلى استزراع أراضٍ هجروها طويلاً قبل الحرب، لتُعينهم على مجابهة شظف العيش عبر توفير ما يسدّ رمَقهم وأسرهم، بَيد أنّ تلك الأنشطة لم تكن أماني قريبة المنال دائماً. فما بين انقطاع الكهرباء شبه الدائم وغلاء أسعار الجازولين، تراهم يرزحون تحت نير المجازفات ومُرّ الواقع.
تتجسّد في مشروع الحمداب الجديدة، الذي أنشئ على وقع تهجير سكّان قرى الحمداب والجزر التي تقع في محيط بحيرة السد، صورةٌ أخرى للمعاناة. ورغم أن مساحة هذا المشروع تبلغ حوالي 29.407.77 فدّان، بعدد 850 حوّاشة أصلية وبمساحة 6 أفدنة لكل منها؛ فإنّ المضخّات توقّفت عن ضخّ المياه إلى أفدنة المشروع، بسبب استهداف قوات الدعم السريع لقطاع الكهرباء بالولاية.
ويصل عدد الحوّاشات، التي تُسمّى معالجات، إلى 200 حوّاشة، بمساحة 3 أفدنة لكل حوّاشة، وما تبقى من الحوّاشات بمساحة فدانين. ويمكن لهذا المشروع أن يغطي حاجة قرى أمْري الجديدة، وأن يضمن لآلاف العمال والمزارعين قوت عامهم.
لقد ألقى استهداف قوات الدعم السريع للبنية التحتية الكهرباء، من محوّلات وسدود، بظلاله على المزارعين على نحو بالغ، وهم الذين يعتمدون عليها مصدراً لريّ محاصيلهم، إذ تعثّر استمرارُ كثيرٍ منهم في إنهاء عملياتهم الزراعية، ولا سيما بعد قصف مسيرات الدعم السريع لسد مرَوي في مطلع يناير المنصرم، الذي سبقته سلسلة من الهجمات على القطاع.
تسبّب انقطاع الكهرباء في تأخّر ريّ حوالي 20 ألف فدان عن ميعادها، ما يعني تدهور كميات المحصول، بسبب توقّف الري في الفترة التي يتعيّن فيها الإنبات، ولا يبدو لي أنّ محاولات إنقاذ المحصول مُجدِيَة
متحدّثاً لـ «أتَـر»، يقول المزارع علي سيف، وقد تمكّن من زراعة حوالي خمس حواشات هذا العام، أي حوالي 30 فداناً من القمح، إنّ توقف الكهرباء منذ 8 يناير الماضي في وقت الري الأول للقمح، قد أثّر عليهم على نحو بالغ، إذ تسبّب انقطاع الكهرباء في تأخّر ريّ حوالي 20 ألف فدان عن ميعادها، ما يعني تدهور كميات المحصول، بسبب توقّف الري في الفترة التي يتعيّن فيها الإنبات، ولا يبدو له أنّ محاولات إنقاذ المحصول مُجدِيَة. يقول: «بَطُنَّا طامَّة إلَّا خايفين الجوع… الرازق الله وما بتحصل لينا عوجة».
بإحدى جزر ريفي نوري، يقف سيد الصادق أمام محصول الفول المصري الذي بدأ يذبل، وهو يحاول أن يجر وابور الجاز الصيني «جاندوق» الذي استغنى عنه منذ العام 2010 مع وصول الكهرباء إلى مشاريع الولاية الشمالية. يقول سيد إنّ تكلفة عملية الري تبلغ حوالي 60 ألف جنيه، ما يعني أنه سيُنفق حوالي 120 ألف جنيه لعمليتي ري في الشهر، ويضيف في حديثه لـ «أتَـر» مُتحسّراً: «أنا لو عندي 120 ألف جنيه في الشهر كنت زرعت!».
وبسبب متاخمتها لمنطقة عمليات حربية مستعرة (شمال دارفور)، فإنّ سياسة الحكومة تجاه الوقود باتت أشدّ تعسفاً في الولاية الشمالية، خاصةً بعد توارد أنباء في ديسمبر الماضي، عن تهريب عدد من براميل الوقود «الجاز» إلى حدود ولاية شمال دارفور، ما استدعى اتخاذ إجراءات أمنية مشدّدة للحصول على الوقود – بحسب متابعات مراسل «أتَـر» – تشترط على المزارع استخراج تصديق للحصول عليه، الأمر الذي يحدّ من إمكانية الحصول على حصّة منتظمة من الوقود، وبخاصة لصغار المزارعين.

صورة توضح عمليات الري قبل انقطاع الكهرباء.
يقول سيّد في هذا الصدد، إن الحصول على برميل جاز بات أمراً عسيراً، ففضلاً عن ارتفاع أسعاره، تجابه المزارعين تكلفة نقل الوقود من الطلمبات إلى مناطق الزراعة، خاصةً تلك الواقعة على الجُزر.
لا تقع كارثة انقطاع الكهرباء على الزراعة وحسب، وإنما على العلاقات بين مُزارعي المشروع الواحد، وعادة ما يشترك المزارعون في مساحة زراعية ويتقاسمون استخدام وابور واحد، فتحدُث جرَّاء ذلك خلافات حول من سيروي محصوله أولاً، لذا يلجأ المزارعون إلى تقسيم الأيام بينهم، ليسقي أحدُهم أياماً معيّنة بينما يَترك بقية أيام الأسبوع للمزارعين الآخرين، حتى تحين مواعيد ريّه التالية.
كان الانقطاع المستمر للكهرباء سبباً في جفاف المحاصيل جزئياً أو كلّياً في بعض المشاريع، لذا تجد المزارعين لا يألون جهداً في استعادة ما فقدوه مع عودة الكهرباء على نحوٍ مُتقطّع، ويسعون إلى ريّ محاصيلهم دون الانتباه إلى المعاملات القديمة للمحاصصة التي دأبوا على الاعتماد عليها منذ أمدٍ طويل، وهو أمر أدّى إلى اشتعال خصومات وخلافات بينهم. وبحسب مصدر بشرطة محلية مرَوي تحدث لـ«أتَـر»، فإنّ حالات الاعتداءات والبلاغات الجنائية، قد زادت بنسبة 300%، ومن بين كل أربع بلاغات جنائية هناك بلاغ لحوادث المزارعين فيما بينهم، والسبب هو ري المحصول.
هكذا تصل الحرب حتى إلى مناطق يَظنُّ كثيرون أنها في منجاةٍ منها. لا تنحصر المعركة في المواجهة المباشرة، فهذا سلوك يمكن رتق فتقه لاحقاً، لكن الحروبات أيضا تُنهك النسيج المجتمعي، وتُباشر في الفتك بأسسِ تضامُنٍ ابتدعها الناس منذ آجال قديمة. كارثة الحرب أنها تجعل الجميع ينظرون إلى ما نراه عادياً من خلال عدسة المعركة.
وليست ظاهرة الاعتداءات بين المزارعين بالجديدة، لكن انقطاع الكهرباء أدّى إلى تفاقمها، خاصةً وأنها تزامنت مع الموسم الزراعي، ما يحدّ من القدرة على التحكم فيها أو محاولة احتواء الخلافات التي سرعان ما تتطور إلى خلافات أسرية واسعة.
«الطوريّة ديك واقعة والجدول فاضي كَرَو»، عبارة يُشير بها أهل الحمداب إلى أنّ المياه لم تعد موجودة لري المحاصيل. لم يتبقَّ للمزارع إلا نيل يجري لا حصّة لقمحه منه، والطير تغدو وتروح جياعاً. حتى قيراط الفيتَريتا الذي كان يُشدّ عَلُوقاً للخراف، قد اختزله المزارع من أجل قوت أبنائه، الذين لا أحجار تغلي في قدور أمّهاتهم ولا مُستمع يغيثهم أطراف الليل أو آناء النهار.