
عندما يغيب دَور الدولة باعتبارها وسيطاً منظّماً، تصوغ المجتمعات الحدودية قوانينها الخاصة، مدفوعة بضرورات البقاء أكثر من أي اعتبارات قانونيّة. على الحدود بين السودان وليبيا، لم تعد المعابر محض نقاط عبور، إنما تحوّلت إلى مناطق نفوذ تحكمها شبكات تهريب، تمتدّ من دارفور إلى الكُفرة وسَبْها، حيث يسود اقتصادٌ ظلّ يُعوِّض الفراغ الذي تركه انهيار السّلطة المركزية في الدولتين.
ليست هذه التجارة وليدة اللحظة، لكنها بعد الحرب باتت أشدّ تعقيداً، وأكثر خطورة والتصاقاً بمصائر أولئك الذين وجدوا أنفسهم عالقين بين الحاجة والمخاطرة.
في قلب صحراء مُترامية الأطراف على حدود البلدين، تقوم التجارة على شبكات غير رسمية، إذ تَحلّ العلاقات الشخصية والاتفاقات غير المكتوبة محلّ الأنظمة الجمركية والرقابية، ما يسمح لها بالاستمرار والازدهار رغم الاضطرابات المحيطة. وتنشط وفقاً لبراعة المهرّبين ودهاء التجّار، لتتحوّل من نشاط اقتصاديّ هامشيّ إلى شريان حياة، يُغذِّي الأسواق المُحاصَرة بين الحروب والانهيارات الاقتصادية.
مسارات وبضائع مُتبادلة
القوافل لا تتوقّف. عبر مسارات غير مرسومة على الخرائط، تشقّ الشاحنات طريقها في قلب الصحراء، محمّلة بالإبل والأبقار، التي لا تزال الأسواق الليبية تعتمد عليها مصدراً رئيساً للحوم. إلى جانبها، تسافر المحاصيل السودانية مثل الفول السوداني والسّمسم والكركدي، دون أن تمرّ بإجراءات جمركية، تُفرغ حمولتها في مستودعات بدائية، قبل أن تدخل الدورة الاقتصادية الليبية.
أما الذهب، فتلك قصة أخرى. لا يسلك المسارات نفسها، إنما يعبر عبر قنوات معقّدة، غير مرئية، تبدأ من مناجم دارفور، مُروراً بشبكات تهريب منظّمة، وصولاً إلى الأسواق الليبية، ليُصبح جزءاً من اقتصاد إقليمي يمتدّ من شمال أفريقيا إلى الخليج وأوروبا، مُتجاوزاً رقابة البنوك المركزية والأنظمة المصرفية الرسمية.
في الاتجاه المعاكس، يتدفّق الوقود الليبي المدعوم، ليُباع في السودان بأسعار أقلّ من تلك التي تفرضها الحكومة، ما يُخفّف من أزمة الإمدادات، لكن يُعمّق الفجوة بين السوق الرسمية والسوق السوداء. إلى جانب الوقود، تصل السلع الإلكترونية، وقطع غيار السيارات، والأدوية، والسيارات الأوروبية المستعملة، التي ظلّت تدخل عبر مسارات تهريب تمتدّ من الموانئ الليبية إلى عمق السودان، منذ اندلاع الحرب في ليبيا.
عقب اندلاع الثورة الليبية في العام 2011 ساد الصراع بين جماعات مُتناحرة ظلّت تسعى للسيطرة على ليبيا. اشتعل الصراع بين الحكومة المُعترَف بها دولياً والمنبثقة عن مجلس النواب الذي انتُخب ديمقراطياً في عام 2014 ويتخذ من مدينة طبرق مقراً مؤقتاً له، وحكومة إسلامية أسّسها المؤتمر الوطني العام ومقرّها في مدينة طرابلس، إضافة إلى مجموعات مسلحّة تحت قيادة المشير خليفة حفتر، وجماعات متنافسة أخرى. وهو ما أدّى إلى تدهورِ الوضع الأمنيّ في ليبيا.
نتيجة لهذا الوضع المتأزّم في ليبيا، انتشرت في السودان تجارة سيارات عُرفت باسم «بوكو حرام»، دخلت الآلاف منها من ليبيا إلى السودان في ظروف الهشاشة الأمنية في الحدود بين الدولتين، إبان الحرب الليبية وتوصف بأنها جزء من مدّخرات مواطنين فارّين من الصراع في ليبيا أو قادمة من السوق الأوروبية.
سوق ملّيط في غياب الدولة
في سوق ملّيط بولاية شمال دارفور، تصطفّ أكياس السكر بجوار صفائح البنزين، بينما يختلط صوت التجّار بضجيج المحركات التي لا تهدأ. هنا، التجارة لا تنام، والقوافل القادمة من ليبيا لا تتوقّف. الدقيق والأرز والمكرونة والمشروبات الغازية: جميعها تعبر الصحراء إلى عمق السودان، بينما تتحرّك في الاتجاه المُعاكس شاحنات تحمل الإبل والماشية والحبوب السودانية.
في حديثه لـ «أتَـر»، يقول يوسف، وهو تاجر انتقل من نيالا إلى ملّيط، متكئاً على حقيبته الجلدية الممتلئة بالنقود: «نحن نتعامل بالكاش فقط. لا توجد بنوك هنا، ولا حتى شبكة اتصالات محترمة. إذا كان لديك مبلغ كبير، فأنت مُضطرّ لحمله معك، وهذه في حدّ ذاتها مُغامرة.»
تحوّلت مليط من نقطة عبور عادية إلى مركز تجاري حيوي، يمدُّ مدن دارفور الكبرى مثل الفاشر ونيالا والضّعين بالبضائع. ومع صعوبة نقل السلع من الخرطوم بسبب الحرب، باتت الحدود الليبية الخيار الوحيد. في الكُفرة، أُنشئ ميناء جافّ لاستقبال المنتجات السودانية في أكتوبر 2021، لكن التجارة هناك لا تزال تدور في فلك الاتفاقات غير المكتوبة بين التجّار والمهربين والجماعات المسلحة.
رحلة محفوفة بالمخاطر
عند نقاط التفتيش، لا تمرّ الشاحنات دون دفع ثمن، والمبالغ تتغيّر بتغيّر البضائع. شاحنة واحدة قد تُجبَر على دفع ما بين 500,000 إلى 1,500,000 جنيه سوداني، وفقاً لحجم الحمولة. ناقلات الوقود، التي يُنظر إليها بوصفها سلعة حيويّة، تخضع لرسوم أعلى، تصل إلى 2,000,000 جنيه سوداني لكلّ ناقلة
الرحلة بين السودان وليبيا ليست عملية لنقل البضائع فحسب، بل اختبار مستمرّ للصبر والتحمل. يُحدِّث محمد – اسم مستعار لتاجر وقود – «أتَـر»، وهو يجلس على برميل جازولين: «في بعض الأحيان، نضطرّ للانتظار أياماً عند نقاط التفتيش، وهناك دائماً رسوم غير رسمية ينبغي دفعها. لكن لا خيار لنا. الناس هنا يعتمدون علينا.»
فرضت قوات الدعم السريع، التي أحكمت قبضتها على جزء واسع من المنافذ الحدودية والأسواق، رسوماً غير رسميّة على الشاحنات العابرة، ما رفع الأسعار وأجبر التجّار على العمل ضمن شبكات وسطاء. متحدّثاً لـ «أتَـر» يقول آدم موسى، سائق شاحنة ينقل البضائع إلى ليبيا: «ندفع مبالغ طائلة في كلّ نقطة تفتيش تابعة للدعم السريع، وإذا رفضنا، نُحتَجز لساعات طويلة أو يُصادَر جزء من الشحنة.»
أما عبد الله عمر، وهو تاجر يعمل بين البلدين، فيقول محدّثاً «أتَـر»: «لا يمكننا العمل على نحو قانوني. كل شيء يمرّ عبر الوسطاء والمسلّحين.»
عند نقاط التفتيش، لا تمرّ الشاحنات دون دفع ثمن، والمبالغ تتغيّر بتغيّر البضائع. شاحنة واحدة قد تُجبَر على دفع ما بين 500,000 إلى 1,500,000 جنيه سوداني، وفقاً لحجم الحمولة. ناقلات الوقود، التي يُنظر إليها بوصفها سلعة حيويّة، تخضع لرسوم أعلى، تصل إلى 2,000,000 جنيه سوداني لكلّ ناقلة. حتى المواشي لم تَسلَم من هذه الجبايات، إذ تُفرض رسوم تصل إلى 200,000 جنيه لكل عشرة رؤوس من الإبل.
في هذه التجارة، لا توجد عقود مكتوبة، ولا فواتير رسميّة، هي طرق محفوفة بالمخاطر ليس إلا، ورجال يحملون أكياس النقود بدلاً من دفاتر الحسابات. كلّ عبور يحمل في طيّاته احتمال النجاح أو الفشل، لكنه، في نهاية الأمر، يظلّ ضرورة في اقتصاد بلا ضمانات، حيث الفوضى ليست استثناءً، بل القاعدة.
تحدّيات مستمرّة ومسارات غير مستقرّة
ورغم سيطرة قوات الدعم السريع على المنافذ والأسواق الحدودية، لم تتوقّف الحركة التجارية بين السودان وليبيا تماماً، لكنها أصبحت محفوفة بالمخاطر والتعقيدات. فقد أدّى غياب سُلطة مركزية قوية وتدهور الوضع الأمني إلى تحويل التجارة إلى نشاط تتحكّم فيه شبكات تهريب وأطراف محلّية تديرها القوات المُسيطرة على المعابر.
وبسبب انعدام الرقابة الحكومية، ازدهرت تجارة السلع المُهرّبة، خاصةً الذهب والوقود والسجائر. أصبحت ليبيا منفذاً رئيساً لتصريف الذهب السوداني، إذ يُهرَّب عبر شبكات مرتبطة بالقوات المسيطرة.
وأدّى النزاع المستمرّ إلى تعطّل سلاسل التوريد التقليدية، ما اضطرّ التجار لاستخدام مسارات بديلة عبر دارفور وجنوب ليبيا، وهي طرق محفوفة بالمخاطر بسبب الاشتباكات المسلّحة وقطّاع الطرق.
قبل أن تفرض قوات الدعم السريع والحركات المسلحة سيطرتها على المنافذ الحدودية، كانت القوافل تشقّ الصحراء عبر طرق قديمة، مُحدّدة بحكم العادة أكثر من القانون. من نيالا أو الفاشر، كانت الشاحنات تتّجه شمالاً، وتمرّ عبر كبكابية أو كُتُم، ثم تعبر العوينات وصولاً إلى الكُفرة في ليبيا، إذ كانت تخضع لرقابة الجمارك السودانية، وإن كان ذلك أكثر مرونة. في طريق آخر، أقل استخداماً، كانت القوافل تمرّ عبر الطينة في شمال دارفور، تعبر إلى تشاد، ثم تلتفّ نحو سَبْها، المدينة الليبية التي تتحوّل أسواقها إلى ملتقى للسلع القادمة من السودان.
لكن هذه الطرق لم تعد كما كانت. مع سيطرة الدعم السريع والحركات المسلحة، تغيّر المشهد، وأُعيد رسم الخرائط بحدود غير رسميّة. باتت ملّيط، التي لم تكن سوى محطة عبور، مركزاً تجارياً رئيساً. من هناك، تعبر القوافل إلى العوينات ثم إلى الكُفرة، عبر طريق يخضع بالكامل لنقاط التفتيش التي تتحكّم فيها القوات المُسيطرة. في غرب دارفور، اتخذت التجارة مساراً آخر: الجنينة، ثم بير عِلعِوْ، فالحدود التشادية، قبل أن تتجه إلى سَبْها، وهو طريق محفوف بالمخاطر، ليس بسبب الاشتباكات المسلحة فقط، وإنما لوجود قطّاع طرق يبحثون عن نصيبهم من الغنيمة أيضاً.
أما الذّهب، فله مساراته الخاصة، تلك التي لا تُرسم على الخرائط. معظم ما يعبر الحدود يكون خاماً، مستخرجاً من مناجم دارفور وكردفان، ثم يتسرّب عبر شبكات تهريب تمتدّ حتى أسواق ليبيا، ومنها إلى مناطق أبعد، ليذوب في الاقتصاد الإقليمي بعيداً عن أعين الرقابة الرسمية. أحياناً، تلجأ النساء إلى حَمْلِه مُصاغاً، يَتجاوَزْنَ به نقاط التفتيش، لكن هذه الطريقة تظلّ هامشية مقارنة بالكميات الضخمة التي تتسلّل عبر الشاحنات.
وجود سوداني متزايد في الأسواق الليبية
في مدن مثل الكُفرة وسبها وبنغازي، تحتلّ المحلات السودانية مكانها بين المتاجر المحلّية، تبيع اللحوم المجففة «الشّرموط» والتمور والكركدي وحطب الطلح والشّاف والتمباك، لكن البقاء هناك ليس سهلاً. يقول أحمد، تاجر سوداني في بنغازي: «نواجه مشكلات في تصاريح الإقامة، والمنافسة مع التجار المحلّيين عسيرة. البعض يرحّب بنا لأننا نجلب سلعاً يحتاجون إليها، لكنْ هناك آخرون يروننا دخلاء.»
قد تكون هذه تجارة محفوفة بالمخاطر، لكنها تُبقي الطعام على موائدنا
ومع تزايد أعداد السودانيين الفارّين من الحرب، تغيّرت القوة الشرائية هناك. السودانيون، الذين كانوا في السابق جزءاً صغيراً من زبائن الأسواق الليبية، باتوا اليوم قاعدة استهلاكية كبرى، ما عزَّز الطلب على المنتجات السودانية.
تحت السطح الرسمي لهذه التجارة، يتحرّك اقتصادٌ موازٍ تقوده شبكات تهريب محترفة. فإلى جانب السلع التقليدية، يعبر الذهب السوداني الحدود في شاحنات لا تخضع للتفتيش، ليجد طريقه إلى الأسواق الليبية ومنها إلى جهات أخرى. السيارات الأوروبية المستعملة، التي يُمنع استيرادها إلى السودان، تجد طريقها عبر مسارات التفاف معقّدة.
ورغم المخاطر، تبقى هذه التجارة شريان حياة لكثيرين. كما يقول خالد، أحد السائقين الذين ينقلون البضائع عبر الصحراء، لـ «أتَـر»: «قد تكون هذه تجارة محفوفة بالمخاطر، لكنها تُبقي الطعام على موائدنا.»