
تشهد مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض هذه الأيام كارثة صحية خطيرة، بعد تفشِّي وباء الكوليرا، وسط أزمة حادّة في خدمات الكهرباء والمياه والصحة العامة. أدّى انقطاع الكهرباء إلى خروج «محطة جايكا لتنقية المياه»، التي دُشّنت عام 2020 بتمويل من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا)، وتغذي جميع أحياء كوستي بالمياه النقية. ومع غياب مصدر آمن للمياه، لجأ السكّان إلى استخدام مصادر مياه غير معالجة، مثل الترع والخيران، دون اتخاذ أيِّ إجراءات احترازية لتنقية المياه أو حتى تطبيق طرق تقليدية للتنقية. كما زادت تجارة المياه العشوائية من تفاقم الأزمة ومثّلت سبباً رئيساً لانتشار الكوليرا، وهي مياه ملوّثة غالباً، وتُنقَل بالبراميل على عربات «الكارّو». وزاد من حدَّة الأزمة عجز السلطات عن توفير الجازولين اللازم لتشغيل محطة تنقية المياه التي تحتاج إلى أكثر من خمسة براميل يومياً.
متحدثة إلى «أتَـر» توضح فاطمة محيي الدين، الممرّضة بمدينة كوستي، أنّ الأزمة بدأت بالظهور منذ حوالي 20 فبراير المنصرم، إذ فاق عدد حالات الكوليرا القدرة الاستيعابية لمستشفى كوستي التعليمي، وهو المستشفى الحكومي الوحيد الذي به مركز عزل، ما اضطرّهم إلى نصب خيام لإسعاف المرضى، بينما لجأ آخرون إلى افتراش أرض المستشفى، رغم تفاني الكوادر الطبية لاحتواء الأزمة، مع توفر المحاليل الوريدية التي عمل بعض من وصفَتْهم فاطمة بـ «الاستغلاليّين» لرفع أسعارها، الأمر الذي حال دونه تدخّل بعض المنظّمات ومبادرات الصيادلة بتوفير المحاليل بأسعار مُنخفضة. وقد بلغت الإحصائيات الميدانية لحالات الكوليرا بالمستشفى، حتى 23 فبراير، حوالي 1200 حالة، إضافة إلى تلك المسجّلة بالمستوصفات الخارجية، التي تقدّم خدمة الطوارئ، فضلاً عن وجود حالات أقل بعاصمة الولاية، مدينة ربك. كذلك يستقبل المستشفى العسكري ومستشفى الشرطة حالات إصابة بالكوليرا.
وبحسب دكتور محمد فيصل ضرار، رئيس قسم الخدمات المعمليّة بالصندوق القومي للتأمين الصحي، فرع ولاية النيل الأبيض، فإنّ بوادر الأزمة لاحت قبل ثلاثة أسابيع، عندما تعرّضت محطة أم دباكر لتوليد الكهرباء لاستهداف مُسيّرات قوات الدعم السريع في 16 فبراير، ما أدّى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة لمدة خمسة أيام متواصلة. ذلك باستثناء أحياء وسط المدينة، التي استعادت التيار الكهربائي بنظام الترشيد لمدة ساعتين في اليوم، ما أتاح عودة جزئية لخدمة المياه، بينما تأثرت الأحياء البعيدة والقرى بانقطاع المياه، وأضحى السكّان هناك يشترون المياه من “الكارّو” التي يجلب أصحابها المياه من الخيران الملوّثة ويشربونها دون تعقيم، ما أدى بدوره إلى تفشّي الكوليرا.
متحدثاً لـ «أتر»، يواصل دكتور فيصل: «في بداية تفشّي المرض، أعلنت السُّلطات الصحية أن الحالات المسجّلة هي حالات «إسهالات مائية»، لكن مع التزايد السريع في الإصابات، أكّد وزير الصحة لاحقاً أنّ المدينة تواجه تفشّياً لوباء الكوليرا”، فقد وصل عدد المصابين في كوستي إلى 2.820 حالة مُسجّلة، وبلغ عدد الوفيات الرسمية 69 حالة، بينما تشير التقديرات إلى أنّ الوفيات غير المسجّلة تصل إلى 70 حالة أخرى.
شهد يوم الخميس تسجيل 600 حالة كوليرا. ووجه وزير الصحة بتخصيص ميزانية مفتوحة للوقود لضخّ المياه بعد زيارته إلى المحطة الرئيسة لتنقية المياه المتوقفة عن العمل بسبب عدم استقرار التيار الكهربائي ونقص الوقود بديلاً، لتزيد الحالات بعد ذلك في المساء إلى 1200
وعلى الرغم من أنّ حملات التطعيم قد بدأت منذ اليوم الثاني لتفشّي الوباء، وشملت جميع أحياء كوستي وما زالت مستمرة حتى الآن، أشارت فاطمة إلى أنّ استجابة المواطنين كانت متباينة، فقد تناول بعضهم جرعات التطعيم وظهرت عليهم أعراض جانبية شبيهة بأعراض الكوليرا، مثل الاستفراغ والإسهال والغثيان والصداع والإغماءات، وأصيب من وصَلوا إلى المستشفى في مرحلة متأخّرة بمشكلات في الكلى وغالباً تُشخّص هذه الحالات بفشل كلوي، بينما رفض البعض الآخر تناول جرعات التطعيم. ومن باب الوقاية، أصبح الناس يشترون المعقّمات من الصيدليات والحبوب المعقِّمة للمياه.
ومع تزايد أعداد المصابين، تأثّرت المناطق الطرفية بشدة نظراً إلى انعدام التثقيف الصحي وغياب التوعية بمخاطر استخدام المياه الملوثة. كما شملت الإصابات مختلف الفئات العمرية، من الأطفال إلى كبار السن.
وضاح معتصم، من مواطني مدينة كوستي وطالب تمريض بجامعة الإمام المهدي، يحدث “أتَـر” بأنّ حالات الإصابة بالكوليرا بدأت تستفحل في يوم الخميس 20 فبراير، الذي شهد تسجيل 600 حالة إصابة بالكوليرا، فقبل ذلك كانت هناك حالات لكنها محصورة ولا تتجاوز 50 حالة تقريباً. وبعد زيارته إلى المحطة الرئيسة لتنقية المياه المتوقفة عن العمل بسبب عدم استقرار التيار الكهربائي ونقص الوقود بديلاً، وجّه وزير الصحة بتخصيص ميزانية مفتوحة للوقود لضخّ المياه، وأصدر قراراً بزيادة نسبة الكلور في المياه لتعقيمها، لتزيد الحالات بعد ذلك في المساء إلى 1200. ويرى وضّاح أن ما بادرت به الوزارة لم يكن كافياً، مشيراً إلى أن أكثر المناطق الموبوءة هي الحلة الجديدة والأحياء الطرفية التي لا يصلها الإمداد المائي. يواصل وضاح قائلاً: «إن تلوّث المياه هو السبب الرئيس لانتشار الكوليرا، وهو نتيجة لانقطاع الكهرباء لأكثر من 3 أيام متواصلة».
في البداية، لم تكن هناك فحوصات معملية دقيقة، وكان التشخيص يعتمد على الأعراض الظاهرية فقط، لكن مع مرور الوقت، اعتُمِدت الفحوصات المعملية لتأكيد الحالات. وكان المرضى يشترون المحاليل الوريدية والعلاجات على نفقتهم الخاصة، لكن مع تدخّل الصندوق القومي للتأمين الصحي، وُفّرت 3.000 عبوة محاليل وريدية. كما قدّمت الإمدادات الطبية ومنظمات دولية مثل أطباء بلا حدود واليونيسف والصليب الأحمر، دعماً كبيراً، ما مكّن المستشفى من تقديم العلاجات مجاناً للمرضى.
إلى جانب ذلك، انطلقت حملات توعية مكثّفة حول مخاطر الكوليرا وطرق الوقاية منها. وفي إطار التدابير الاحترازية، أغلقت السُّلطات المحلية المدارس ورياض الأطفال، وهي خطوة لاقت استجابة واسعة من السكّان وأسهمت في الحدّ من انتشار العدوى. كما جرى التعامل مع الوفيات بوضع الجثامين في أكياس مُخصّصة، ليتابع فريقٌ من مركز العزل إجراءات الدفن وفق البروتوكولات الصحية. واتّبع الطاقم الطبي بروتوكول منظّمة الصحة العالمية (WHO)، إذ يُصنّف المصابون وفق ثلاث مناطق عزل: المنطقة الحمراء: لحالات الخطر القصوى، والمنطقة الصفراء: للمصابين الذين تجاوزوا مرحلة الخطر لكنهم لا يزالون في حاجة إلى متابعة طبية، والمنطقة البيضاء: للمصابين الذين تماثلوا للشفاء ويستطيعون مغادرة المستشفى.
تراجعت حالات الوفاة لتصبح حالتي وفاة في اليوم، وحالات التعافي كثيرة جداً، ما بين 20 إلى 25 حالة في اليوم. أعزو ذلك إلى الاستقرار الكبير في الإمداد الدوائي ووجود المتطوّعين الذين يوفرون الوجبات للكادر الطبي والمرضى والمرافقين. كما استقر إمداد المياه بعد دعم مجموعة من المنظمات لهيئة المياه بالوقود
وبفضل مجهودات منظمتي الهلال الأحمر وأطباء بلا حدود، استقرّت خدمات الرعاية الطبية بعض الشيء، فقد انحسرت حالات الإصابة والوفيات في 25 فبراير، فضلاً عن حالات تعافٍ بسبب معالجة تلوث المياه. ومع ذلك، لا تزال مدينة كوستي في حاجة ماسّة إلى مزيد من المستلزمات الوقائية للكوادر الطبية، إضافة إلى زيادة جرعات التحصين من الكوليرا، لضمان عدم تفشي الوباء من جديد.
وقبل ذلك في يوم 21 فبراير، كانت هناك زيادة كبيرة جداً في أعداد الإصابات، وهناك إصابات ووفيات لم تُسجَّل بالمستشفى، كما يشير وضّاح، الذي يُضيف: «بعض الحالات توفّيت في أول يوم من الأعراض وبعضها في اليوم الثاني».
في اليوم الثاني من تفشّي الوباء، أُغلِقت المطاعم ومُنع الباعة المتجوّلون، وفي اليوم التالي له أُغلِقت جميع المحلات التجارية حول المستشفى. كذلك أُغلِقت العيادات والمستشفيات الخاصة منذ اليوم الأول، وفُتحت في اليوم الثالث، وخُصِّصت جميع أقسام مستشفى كوستي للعزل فقط. وتدريجياً استأنفت أقسام الأطفال والباطنية والجراحة ومعمل المستشفى عملها، عدا قسم الحوادث المخصّص مركزاً للعزل حالياً.
يخبر وجدي محمد، المتطوّع بمركز العزل بمستشفى كوستي، «أتر» أنّ حالات الإصابة بالمركز تربو على 2000 حالة حتى اليوم الثامن، وأنّ عدد الوفيات قد بلغ حوالي 105 حالات، لكنها تراجعت لتصبح حالتي وفاة في اليوم، وأنّ حالات التعافي كثيرة جداً ما بين 20 إلى 25 حالة في اليوم. ويعزو ذلك إلى الاستقرار الكبير في الإمداد الدوائي ووجود المتطوّعين الذين يوفرون الوجبات للكادر الطبي والمرضى والمرافقين. ويُشير وجدي إلى استقرار إمداد المياه بعد دعم مجموعة من المنظمات لهيئة المياه بالوقود.
مثلت التضاريس «الطبوغرافيا» عاملاً جوهرياً في تكوين بيئة مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض، ففضلاً عن موقعها على السهل المنبسط للضفّة الغربية للنيل الأبيض، الذي جعلها عُرضةً للغمر بفيضان النيل، فإنّ طبيعة تربتها الطينية دقيقة الأجزاء تمثّل بدورها عنصراً حاسماً في صعوبة امتصاص المياه وتسرّبها إلى باطن الأرض. وفي ظلّ غياب أنظمة التصريف، باتت المدينة ذات هشاشة عالية ضدّ التعامل مع حالات الفيضان وتراكم المياه وما ينشأ عنها من برك ومستنقعات.
تَنتُج الإصابة بالكوليرا عن تعرض الإنسان لعدوى بكتيرية جرّاء شرب المياه الملوثة، ويعجّل حدوث الفيضانات من وتيرة التفاعل بين المياه الملوّثة والأنشطة البشرية، بسبب زيادة معدّلات تلوّث المياه من خلال تدمير المرافق الصحية، ما يقود بدَوره إلى ممارسات التبوّل والتبرّز في العراء. تمثل جميع هذه العوامل وغيرها بيئةً مثاليةً للبكتيريا المسبِّبة لمرض الكوليرا «ضمة الكوليرا». وتفيد التقارير بأنّ الإصابات السنوية بالكوليرا على مستوى العالم قد شهدت ارتفاعاً خلال الأعوام القليلة الماضية، فبينما تشير تقديرات سبتمبر 2024 إلى إصابة 342.800، سَجّلت تقديرات ديسمبر 2024 إصابة ما بين 1.3 مليون و4 ملايين شخص، ويُعزى ذلك لارتفاع درجة حرارة الكوكب نتيجة للاحتباس الحراري الذي يوفّر بيئة مناسبة لتكاثر البكتيريا وموائلها الطبيعية، إضافة إلى استمرار الصراعات المسلّحة في الدول الأفريقية التي تعيق وصول اللقاحات وسبل الرعاية الصحية.

يوضح الشكل التوزيع الجغرافي لحالات الكوليرا لكل 100 ألف نسمة، بحسب الولاية خلال شهر ديسمبر الماضي، وتظهر منطقة النيل الأبيض باللون الداكن في دلالة على كثافة الحالات. المصدر: منظمة الصحة العالمية
تعيش البكتريا المسببة للكوليرا «ضمة الكوليرا» على نحو طبيعي في أنظمة المياه العذبة، ولا يمكن القضاء عليها. وتُعدُّ العوامل المناخية المرتبطة بدرجات الحرارة من أبرز المعينات على تفشّي الكوليرا، فكلما ارتفعت درجات الحرارة باتت بيئة المياه العذبة ملائمة لبكتيريا الكوليرا، وتساعد المياه السطحية الدافئة على تكوين ما يعرف بالعوالق النباتية «Phytoplankton»، التي تمثل بدَورها بيئات جيدة لتكاثر العوالق الحيوانية «الأحياء الدقيقة» والأخيرة هي عائل البكتيريا المسبّبة للكوليرا.
لقد شهدت مدينة كوستي درجات حرارة مرتفعة خلال الفترات الماضية، وتراوحت درجات الحرارة العظمى في شهر فبراير الماضي ما بين (35 – 39) درجة مئوية.

صورة مجهرية للبكتيريا المسبّبة للكوليرا، وتفيد منظمة الصحة العالمية بأنّ الكوليرا أدّت إلى وفاة حوالي 5,800 شخص حول العالم
وإضافة إلى جميع ذلك، تعدُّ الطبيعة المتباطئة لتدفّق مياه النيل الأبيض ذات تأثير بالغ في توفير بيئات ملائمة لنموّ البكتيريا المسبّبة للكوليرا، وتمرُّ مياه النيل الأبيض القادمة من الجنوب، وقبل وصولها للحدود السودانية، بمنطقة المستنقعات في جنوب السودان المعروفة بالسُّد (sudd)، وهي منطقة غنية بالمكوّنات الحية والنباتات والعوالق، وعندها يفقد النيل الأبيض نصف مياهه عن طريق تفرّعها وتبخرها، قبل أن ينقذه تيار مياه نهر السوباط، ومن ثم يتجهان شمالاً إلى الحدود السودانية. وتعدّ هذه الفترة من العام (فبراير – مارس) من أقل فترات تدفّق النيل الأبيض. وبالنظر إلى طبيعة التضاريس الخاصة بمنطقة النيل الأبيض، يُلحَظ أنها منبسطة ولا انحدار فيها على الإطلاق، ما ينعكس على ضعف جريان مياه النهر.
ومن المفارقة أن ارتفاع مدينة كوستي عن سطح البحر يساوي (390) متراً، وهو ذات ارتفاع مدينة الخرطوم التي تبعد 360 كيلومتراً شمال مدينة كوستي مروراً بخزّان جبل أولياء. وقد تكرّرت الاتهامات في ديسمبر الماضي لقوات الدعم السريع المسيطرة على خزّان جبل أولياء بأنها قد أغلقت بواباته عمداً لإغراق مناطق النيل الأبيض، وهي بذلك توفر بيئة مناسبة بمياه راكدة غير متدفّقة، ودرجات حرارة مرتفعة، لتكاثر بكتيريا «ضمة الكوليرا».