
لمَّا أصدَرَ الناقد الأمريكي إدموند ويلسون كتابه «المحطّ الفنلندي» عام 1940، عن تاريخ الثورات وتاريخ وتطوّر الفكر الثوري، برصد لحظاته الأساسية والفاعلة في تاريخ الفكر، ظلّ هذا النصّ الجمالي علامةً فارقة في التاريخ الفكري ورصد الثورات، وقطعة أدبية فريدة في نوعها.
هذا الكتاب الذي نحن بصدد عرضه «الثورة: تاريخ فكري» لـ إنزو تراڤيرسو، أستاذ الدراسات الإنسانية والاجتماعية في جامعة كورنيل، والصادر عن دار نشر فيرسو، خرج من نفس الذّاكرة: ذاكرة الكتابة والثّورة، وبطرائق الكتابة والتأليف ذاتها، سواءٌ أكان ذلك من ناحية تناول المنجز المعرفي لمفهوم الثورة، أم من ناحية تناول رموزٍ من المفكّرين والنقّاد والكُتّاب وما سطَّروه عن فكرة الثورة. وهكذا هنا – مثلما كان في كتاب ويلسون – ترِدُ أسماء المؤلّفين وعناوين الكتب من القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن أزمنة مُعاصرة تطوّرت فيها الدراسات الإنسانية والاجتماعية في آفاقها البينيّة وتعقيداتها النظرية. خلال ستة فصول، رصَد المؤلّف تلك اللحظات، كما نضّدها أولئك المفكّرون.
ألّف إنزو تراڤيرسو كتاباً مُمتعاّ عن الأطر النظرية والمفاهيمية، بشواهدها وإحالاتها من الآداب والفنون إلى الثورة. وتَكْمُنُ المُتعة الذهنية التي يحظى بها القُرّاء المُحتمَلون لهذا الكتاب، في كونه اشتباكاً بين تاريخ الفنون والنصوص المكتوبة من شِعْرٍ ورواية وسير ذاتية ومذكرات؛ ويأتي في مقدّمة ذلك الرسم والنحت والتشكيل. وبإمكاننا القول إنّ الثورة تتحوّر في هذا الكتاب إلى نصّ جمالي أو قل إلى مرجعيةٍ لمُتخيَّلِ الثورة.
بعتبة نصّ قوية من كتاب ماركس المعروف «الثامن عشر من بلومير» 1852، افتتح الكاتب مقدّمته بالتوقف عند لوحة الفرنسي جيريكو «طوفان ميدوسا» 1819، وبيّن تقاطعاتها مع عتبة النص؛ ومن ثم استدعى لوحة أخرى لپول كلي؛ وعلّق أنّ كلا اللوحتين مثّلتا مجازاً ورمزاً وأيقونةً للثورة في سيرورتها ومآلاتها كذلك، إذ عكَسَتَا الخراب والانهيار، وحمَلتا فضلاً عن العناصر الرمزية أمثولةً للحظة الثورة، وطرحتا أسئلةً عميقةً لمؤرّخي الثورات بل وأكثر من ذلك، إذ اعتبرهما الكاتب مصدراً لتأويلات الرمز والأمثولة المحتملة، لأنهما «… مرآة تعكس مجتمعاً مشروخاً ومُتشظّياً، بين الموت والأمل، الخوف والحذر، الماضي والمستقبل». أضاف الكاتب: «… هذه هي فرنسا بذاتها، مجتمع ممزّق وقد مثّله الفنان في ذلك الطوفان، ذلك الطوف الذي دفعته أمواج البحر وزبد البحر إلى جهة مجهولة». وتجدر الإشارة إلى ظهور جسد أسود في اللوحة، دلالة بيّنة على حضور ثورة الزنج في هاييتي. من هاتين اللوحتين انطلق الكاتب ليَحكي عن مصادر إلهامه وآليات كتابته وبحثه هذا عن الثورة. وذكر في ما ذكر ماركس وفالتر بنجامين، وكيف أنه يدين لهما في طرائق تأليفه هذا الكتاب ومنهجه، وذلك لأنهما كانَا «… أصيلين/ وفيّين لتراثهما الفكري في مقاربة مفهوم ثورة… في سكونها وحركتها، في قطعها للتاريخ وفي قطيعتها مع أيِّ نظام سياسي واجتماعي مُتسلّط… درسٌ خالدٌ في الكتابة عن الرقّ والإقطاع والرأسمالية ونقد سيمفونية الرغبة الذكورية». حتى أن تروتسكي أراد لكتابته عن تاريخ الثورة الروسية أن تكون عملاً فنياً وأدبياً، وبالفعل تكمن «قوة» كتابه في سرده وإعادة تشكيل لحظة الثورة فنياً وجمالياً، وقد ظلّ تروتسكي على الدوام «يفكّر ويتأمّل»، قبل أن يشرع في أية كتابة، ودونكم كتابه «الأدب والثورة» 1923.
من عبارتين صكّهما كارل ماركس: «العنف قابِلَةُ التاريخ» و«الثورة قاطرة التاريخ»، انطلق المؤلف في الفصل الأول من كتابه ليُنضِّدَ سرديّتَه حول ثورات الشعوب ومُناهضتها للسُّلطة مطلقاً، والتحوّل والحركة باتجاه «سفح الحرية»، وانطلاقاً أيضاً من لحظة الثورة الفرنسية 1789، والثورة المكسيكية 1910، والروسية 1917، لينشئ مُقاربةً من قعر الذاكرة من خلال منجز الرسم والتشكيل والصور الفوتوغرافية والنصوص الأدبية، بكتابة مسنودة بالمنجز الجمالي وفي الوقت ذاته هي كتابة جمالية، وقد أكثَرَ الكاتب فيها من الهوامش والحواشي والشروحات: من لوحة جيريكو إلى صورة قطار زاباتا – زعيم الثورة المكسيكية – وهو قطار بخار، في مقدمته الثوار، يحملون أسلحتهم، إلى عددٍ من الروايات التي اعتَمدت في مرجعيةِ مخيلتها على تلك الثورات. وختم الكاتب الفصل الأول بالإحالة إلى الناقد الألماني الفذ فالتر بنجامين (1892-1940) في مقالته الشهيرة «حول مفهوم التاريخ» التي قلَبَ فيها منطق ماركس – الثورة قاطرة التاريخ – حينما كتب أن «… ربما كان العكس هو الصحيح، ربما كانت الثورات هي محاولة المسافرين – الجنس البشري – تفعيل فرامل الطوارئ فقط».
يبدأ الفصل الثاني «جسد الثورة»، بالتعليق على لوحة الفنان مارك شاغال «إلى الأمام إلى الأمام»، التي احتفى فيها بمرور عام على الثورة الروسية، إلى أن يصل إلى مقولة أنّ الثورة ليست هي الجماهير، بل هي «جسد الثورة». وتجدر الإشارة هنا إلى اكتمال المشهد حينما أحال الكاتب إلى إلياس كانيتي، إذ وصف إحدى الانتفاضات في ڤيينا 1927 مروراً بتحليلات باختين السوسيولوجية لعوالم رابليه السردية التي أعلت من شأن الجسد بوصفه علامةً لقراءة التاريخ والمجتمع معاً وكذلك الثورة، حتى وصل الكاتب إلى ما سمّاه «الغريزة الحيوانية للثورة»، أي تكريس الجسد باعتباره عُنصراً مُهمّاً من العناصر المفتاحية لقراءة الثورة. هنا يطالعك النموذج الأمريكي وما فعله من مناهضة الثورة، ليُضحي صوتاً مُختلفاً في مناهضة أي صوت مُختلف. وقد حمل هذا الخطاب شكل الثورة المُضادّة ومضمونها، كما هي تحليلات غرامشي 1934 حول «الفوردية والنموذج الأمريكي».
في الفصل الرابع، نُطالع درساً بالغَ العذوبة وبعنوان دالّ هو «الذاكرة والرمز والمفهوم»، استعرض فيه الكاتب التراث الإنساني لمفهوم ثورة، مُقتفياً أثره عبر العصور من خلال تاريخ الأفكار والفلسفة وتطوّره اللسانيّ والفيلولوجي، منذ عصر الأنوار وحتى تنظيرات الفيلسوف الإيطالي المعاصر جيورجيو أغامبين. وفي جزء مهم من هذا الفصل، يتناول موضوع «الثورة المضادّة» وما أفرزته من استعارات ومجازات ظلّت ناشطة وتكشف عن الثمن الفادح الذي يدفعه الثوّار والثائرات. كذلك تناول «توأم الثورة» التي لا يمكن تجنّبها – القوى المحافظة في التاريخ، ومحاولاتها البائسة للدفاع عن التراث والمألوف والسائد والأكثر شيوعاً – وتطويعها وإخضاعها للظروف التاريخية خاصة تلك التي تأتي بها الثورة أوان فحيحها. هنا يطلّ وجه المفكّر الألماني كارل شميدت الذي كان أوّل من أنجز ذلك التحوّل المفاهيمي من المفهوم الكلاسيكي لـ «الثورة المضادّة» إلى مفهوم «أفعال الفاشية» Acts of Fascism. وفي مقارنة باهرة بيّن المؤلف تلك المفاهيم، حصرياً، بينما بيّن فالتر بنجامين مفاهيمَه حول الثورة في مقابل مفاهيم الثورة المضادة أو أفعال الفاشية كما رواها كارل شميدت. وتخلّلت الفصل تحليلات متنوّعة للرسم والتشكيل ونصوص بصريّة أخرى وكيف أنها كانت جزءاً مفاهيمياً أصيلاً من ضمن المفاهيم الثورية الأكثر تلقّياً واستجابةً من حيث اشتغالاتها المدهشة ضمن الخطاب العام للحداثة.
نتوقّف في الفصل الرابع، «المثقف الثوري: أفق مفاهيمي 1844 – 1945»، أي من لحظة صدور البيان الشيوعي وحتى نهاية الحرب العالمية الثالثة. افتتح الكاتب الفصل، بعتبة نصّية من المفكر الفرنسي لويس بلاكي: « … لمّا يضيق بنا الحال، ينبغي أن نلجأ للكتابة، إلا أنّ القلم حينما يُسترَقّ – يصير كاتبه طبّالاً وأرزقياً مأجوراً – ما فيش غير القتال»، واندفع الكاتب من بعد ذلك في ذكر أسماء المثقّفين ومنجزاتهم خاصة ممن كتبوا عن الثورات المنجزة – ماركس وروزا لوكسمبرج ولوكاش – وتعريفات للمثقف وأدواره المحتملة في الانحياز للَحظة الثورة، أو ربما مواقفهم المتباينة؛ خاصة لحظة السكوت أو الصمت بالتوقّف عن الكتابة، وسمّى الشريحة الأولى منهم «وكلاء الحداثة» من باحثين وكُتّاب وصحافيين، ممن أطلق عليهم إريك هوبسباوم «طيور غربيّ ڤيينا النادرة»، هذا إضافة إلى إشارات عميقة لمن سمّاهنّ «مثقّفات النسوية النقدية» مُحتفياً بظهورهنّ في مشهد الكتابة. أخيراً، كتب كيف أنّ «… ثورات القرن العشرين كانت نقطة تحوّل في العالم… إذ إنها دفعت بجيل جديد من المثقّفين الثوريين»، وأضاف إليهم نموذج مثقّف أمريكا اللاتينية الثوري جهة الكتابة الروائية وما عرف بـ «ألبوم» سبعينيات القرن الماضي. وكان من البديهي أن يتوقّف طويلاً جداً لدى الكاريبي سي إل آر جيمس، بوصفه نموذجاً للفنّان أو المثقّف الثوري الساطع، خاصة أنه ألّف أحد أعظم الكتب عن ثورة هاييتي «اليعاقبة السود» 1962. وكعادة المؤلف في الاستناد على النصوص الجمالية، فقد وردت إشارات إلى تفسيرات سوسيولوجية، خاصة لدى لوكاش وكتاباته النقدية حول توماس مان وأندريه بريتون. وانتهى الفصل بـ «مراحل تطوّر المثقف الثوري» من الالتزام الأيديولوجي والسياسي الصارم وحتى مرحلة اللجوء والنفي والاقتلاع، وتبعت ذلك قائمة طويلة بأسماء مثقّفين ورصد لخلفياتهم التعليمية وأنشطتهم الصحفية والسجون والمنافي والثورة، وعما إذا كانوا اغتيلوا أم وجدوا سكّة نجاة في المعتقل أم في المنفى.
«ما الثورة إلا حرب ضدّ أعداء الحرية»، كما قال روبيسبير، كانت تلك العبارة مدخلاً للفصل الخامس الذي فصّل فيه الكاتب مفاهيم الحرية والتحرير، وعرَض فيه أهم النظريات المعاصرة حول المفهومين، مع إحالات باهرة للفنون التشكيلية في قراءة المشهد؛ مشهد الصراع الأبدي من أجل الحرية والحقّ والعدالة. اتخذ المؤلف لوحة الفرنسي ديلاكرو المُسمّاة «الحرية تقود الجماهير» 1831 مدخلاً للفصل، وزعم الكاتب في هذا السياق ألا مناصَ من العودة إلى سي إل آر جيمس مؤرّخ ثورة تاوسنت في هاييتي وكتابه التأسيسي «تاريخ ثورة البان أفريكان» 1938، لأنه حمَل أحلام وأشواق المنحدرين من أصول أفريقية لجمع شملهم بهوية تاريخية وثقافية، ذات خطاب سياسي وثقافي وأيديولوجي يسعى إلى تحريرهم من باثولوجيا الخطاب الكولونيالي. وفقرة قبل أخيرة في هذا الفصل أفردها الكاتب لمقولات سارتر الثورية أو ما عُرف بأنطولوجيا، الحرية ومقولات ماركوزه حول فلسفة الحرية، ومقولات أرندت وفوكو حول المفاهيم ذاتها، في لحظات تداعٍ معرفيّ حميم في الجزء الموسوم «فوكو وأرندت وفانون»، خاصة لمّا أتى على ذكر مؤلَّف فانون «معذبو الأرض»، الذي عُدّ إنجيل الثورة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
تمحَوَرَ ختام الكتاب حول مرجعيات الفكر الثوري عموماً، ولفت نظر القرّاء إلى خطورة اختزال التفكير الثوري إلى لحظات بعينها أو محطّات محدّدة، لأنّ هنالك محطّات أخرى ظلّت على الدوام ناشطة وفاعلة، مفاهيم حول الثورة يُنظَر إليها في أبعادها الأخرى، وليس الحراك الاجتماعي وحده أو الوسائل التقليدية من انتفاضات وتمرّد ومَسيرات احتجاج ومجاهرة بمناهضة السّلطة، إنما هنالك ثورة تشريعية وقانونية، وأدبية وفنية، وفكرية ومعرفية وسياسية، وثورة حقوق مدنية، ينبغي وضعها في الاعتبار حتى تكتمل الثورة ونحقّق القطيعة المعرفية ونصنع تاريخنا بأنفسنا.