أتر

نوتة من علم الكونكا (5)

«أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع!

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة».

من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.

جاء الدكتور آصف بيات في مقاله «سوقة الربيع العربي» (الأنثروبولوجيا المعاصرة، م 56، ملحق 11، ص 33-43، دار جامعة شيكاغو، أكتوبر 2015) بعُقدة العشوائيّات القاهريّة في ساعة الثورة، فقال خرجت منها قوىً للثورة وقوىً للثورة المضادّة كذلك. وقال انكسَفَت الصّفوة الليبراليّة المصريّة من هرج العشوائيات الماثل، وبَهَتَتْها في العموم بالإسلاميّة الراديكاليّة قولاً واحداً؛ جوهراً لا تنجو منه. جدّدت الصّفوةُ الليبراليّة المصريّة من هذا الذُّعر عقيدتَها في الانقلاب العسكريّ كحلٍّ لكلّ أزمةٍ ثوريّة، وانتهى بها الأمر إلى الكُفر علناً بما أعلنته عن نفسها من إيمانٍ بالديمقراطيّة الانتخابيّة ما دام حسابها قد انتهى إلى حكم الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي، فلم تصبر لتظفر في يومٍ آخر وكشَحَت ماءَ الثّورة وجنينها معاً. نستفيد من شُغل الدكتور آصف بيات درساً قديماً، فالتعرُّف على تحوُّلاتٍ كالتي تقع بالثّورة، وبالحرب كذلك، لا يستقيم بالنّظرة الأولى والفُرشة العريضة، ولا مناص من رَجْع البصر كرّتين وأخرى، إذ لا تتكشّف بالمنظور القديم علاقاتٌ استجدّت، كأنْ لم يكُ شيءٌ. واسمُ هذا الفنّ في كتابٍ آخر «علم الديالكتيك».

فما السّبيل إلى ديالكتيك «الكُونِكَا» إذن؟ أهُو رَجْعُ صدىً لخصوماتِ الصّفوة الجامعيّة؟ إسلاميّة وعلمانيّة؟ أم أَخَذت هذه الصّفوةُ الجامعيّةُ مِزَعاً من هذا التاريخ المُرّ تغذّي بها نار خصومتها التي لا تنقطع تحت عنوان الصّفاء والتعدّد، إثنياً وثقافياً ودينياً… إلخ؟ أم هو أمْرٌ بين ذلك، أم أنّ كلّ هذا السياق «خارجيات» لا تُغني المُتبصّرة؟ لكنْ، لكلٍّ دَبَارة.

في رسالته للدكتوراة «الهوية وتكوين نمط الحياة في العشوائيات متعددة الإثنيات: دراسة حالة في مجتمع البركة في الخرطوم، السودان» (دار نشر ليت، مونستر، 2014)، أزال الدكتور محمد بخيت، الأستاذ بجامعة الخرطوم، الحجابَ عن خارطةٍ أشمل لإقليم «الكونكا» والأقاليم «الانتقالية» التي تصله بالمدينة بعين الإثنوغرافيا. فالكونكا مكانٌ وحالٌ واجتماع، سلسلةٌ تمتدّ من مايو وسوبا الأندلس، ثم جنوباً في جهة جبل أولياء، وغرب أم درمان في أطراف دار السلام ونيفاشا وشمالها في مرزوق والفتح، وفي الخرطوم بحري كرتون كسلا «حي البركة» ودار السلام والوحدة والتكامل والتعويضات وكرتون بارونة.

قعَد الدكتور محمد بخيت لهذه المهمّة متفرّغاً، فاستأجر سكناً في حي البركة «كرتون كسلاً سابقاً» لستة أشهر (أبريل – سبتمبر 2010) وتَبِعَها بأخرى (أكتوبر 2011 – مارس 2012) واستقرّ في سكناه يشهد ما حوله مُراقباً ومُستعيناً بالمُقابلات وعدّة أخرى للأكاديميّ. وأول ما صَوَّب بهذه العدّة التعريفَ «الإثني». فقال عَرَّف الناسُ أنفسَهم أوّلَ الأمر بالإثنيّة، وقامت بينهم تصنيفاً أوّلياً، فكلُّ يَعْرف ملجأه القبَليّ بوجهٍ أو آخر؛ وهذا ما حَصَد بالنظرة الأولى. لكنْ، ما أنْ طاب له المقام وخَبُرَ محيطَه أدركَ أنّ هذا التعريف لا يُغني في واقع الأمر شيئاً، فهو دلالة فارغة كطوبةِ الحجز لغائبٍ في صفّ الرغيف. ومن يتشاركون التعريفَ الإثنيّ تُباعِدُ بينهم الممارساتُ اليومية والقيمُ والتصوّراتُ التي تُبطِّن هذه الممارسات، أو بعبارةٍ أخرى: أيديولوجيا الحياة اليومية. ولذلك جعل «نمط الحياة» محلّ الإثنية، مفهوماً لتمييز وتحليل المجموعات الاجتماعيّة المختلفة في حي البركة. وأدرَك الهويّةَ ظاهراً وباطناً إذا جاز التعبير، فهنالك الهويّة المنطوقة، وهي الدلالة الإثنيّة؛ ويعلن بها الناسُ عن أنفسِهم من قاموسهم الثقافي، وهنالك الهويّة الحيّة، وهي جماع الممارسات اليوميّة للأفراد والمجموعات، أو نمط الحياة. وانتهى الدكتور محمد بخيت بهذه «العدّة الجديدة»، باستبدال المنظور لإدراكِ ما استجدّ، إلى تمييز ثلاثِ مجموعاتٍ في حي البركة في محل الفسيفساء الإثنيّة التي تلتقطها غشاوة النظرة الأولى: الجيل الأوّل والجيل الثاني والمتعلّمون. الجيل الأوّل واقعٌ في رباط زعماء القبائل والبطون ورجال الدِّين، والجيل الثاني؛ جيلُ «الكُوِنِكا» الحَقُّ، عالَمُه زمالةُ العصابات والشمّاسة، والمتعلّمون فئةٌ مصالحُها في السّوق وقواعدِه. ليس بين هذه المجموعات الثلاث حواجزُ جوهرية، فهي ليست «سِجِنْ تأبيدة»، وإنما علاقاتٌ، والناسُ في حي البركة موزَّعون بين هذه الأقطاب الثلاثة في علاقاتٍ تصلها بكلٍّ إلى درجةٍ تقلّ أو تزيد.

اقترَب الدكتور محمد بخيت بهذا التصوُّر من مفهوم «الطبقة» المُستعصي في المَلَجَة الحضريّة في هامشٍ رأسماليّ؛ المَلجَة التي اعتنى الدكتور عبده سيمون بعرض بنائها من الخرطوم فجاكرتا إلى داكار. وهو مفهوم الطبقة الذي تعطّل عنده قلم المرحوم الدكتور كارل ماركس، الشيخ الإزيرق، في آخر مسوّدة «رأس المال»، الفصل 52، وفيه كتب شذرة لما تكتمل تحت عنوان «الطبقات»، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح:

«والسؤال الأول الذي تنبغي الإجابة عنه هو هذا: ما الذي يؤلِّف طبقة؟ تأتي الإجابة على هذا السؤال تلقائياً من الإجابة عن السؤال الآخر: ما الذي يجعل العمّال المأجورين والرأسماليين والمُلّاك العقاريين يؤلّفون الطبقات الاجتماعية الكبرى الثلاث؟ قاعدة ذلك من النظرة الأولى، تَماثُل الإيرادات مع مصادر الإيرادات. فهناك ثلاث مجموعات اجتماعية كبرى يعيش عناصرها، أي الأفراد الذين يؤلّفونها، من الأجور والربح والريع العقاري على التوالي، أي استخدام قوة عملهم، ورأسمالهم، وملكيتهم العقارية. ولكن من وجهة النظر هذه [وهذه للتذكير النظرة الأولى]، سيؤلّف الأطباء والموظّفون، على سبيل المثال، أيضاً طبقتين، لأنّهم ينتمون إلى مجموعتين اجتماعيتين مُتمايِزتَين، بينما يتلقّى أعضاء كلّ واحدة من هاتين المجموعتين إيراداتهم من المصدر الواحد نفسه. ولسوف ينطبق الأمر ذاته على تشعّب لا نهائيّ في المصالح والمراتب يؤلّفه تقسيم العمل الاجتماعي بين العمّال وكذلك بين الرأسماليّين والمُلّاك العقاريّين – فالأخيرون مثلاً ينقسمون إلى مالكي مَزارع كروم، مالكي حقول زراعيّة، مالكي غابات، مالكي مناجم، مالكي مصائد أسماك». [هنا تنقطع المسوّدة] (كارل ماركس، «رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي، الجزء الثالث»، دار كارل ديتز، برلين، ط 33، 2010، ص 893).

فما مفهوم الطبقة الذي يتجلّى برَجْع البصر كَرّتين؟ ما المفهوم الذي انقطعت عنده المخطوطة، ولم يَصْفُ للمرحوم الإزيرق مكتوباً؟ قد لا ينعقد هذا المعنى بطُول التأمُّل، لكنْ قد يساعد مثل شغل الدكتور محمد بخيت على التعرّف على انزلاقٍ لمفهوم الطبقة وقد انحسر في «الكونكا» سترُ العمل المأجور وانقطع الإيراد إلا ما كان شلْباً وشفشفةً، وتدهورت التعريفات الإثنيّة إلى غلافٍ كاسد، فارغ رصاصٍ في مَلجَة صراعيّة، وتبعثرت الروحيّة في هُجنةٍ من تعويذاتٍ وتمائم أملاً في البقاء. بماذا تطفح «الكونكا» وقد انسَدّ المجرى؟

يُتبع…

Scroll to Top