
نيالا، حاضرة جنوب دارفور. وهي من أكبر مدن السودان وتمثّل مركزاً اقتصادياً وتجارياً حيويّاً مهماً، لذلك انجذب إليها كثيرٌ من الناس من مختلف مدن السودان ودارفور، وتعايشوا فيها بسلام طوال عقود، يجمعهم العمل التجاري وألفة الجيرة والانتماء إليها. لكن بعد نشوب الحرب، وسيطرة الدعم السريع على الفرقة 16 والمدينة بأكملها، صار اسم «نيالا» مُرتبطاً بالدعم السريع في نظر كثير من السودانيين، وصار يُهدّد حياةَ من هُم بداخلها بل وحياة من هم في ولايات أخرى، لكن أوراقهم الثبوتية تُثبت أنهم من نيالا.
في ظهيرة السبت، 15 أبريل 2023، كانت الشمس تتوسّط السّماء حين اهتزّت نيالا بانفجار مدوّ. لم يكن محض دويّ عابر، إنما إعلان عن دخول المدينة في أكبر كوابيسها. في تلك اللحظة، لم يكن أحدٌ يعلم أنّ الجحيم الذي بدأ لن يتوقّف قريباً.
يومها، كان الستينيّ شمس الدين أحمد صالح، يتابع في منزله سيل الأخبار المتقاطرة من الخرطوم، ثم بدأ القصف في قلب المدينة. هرع إلى النافذة، ليرى السماء تتّشح بالدخان، وصوت الرصاص يطغى على كل شيء. أدرك أنّ مدينته قد جُرَّت إلى حرب لن ترحم أحداً. يحكي شمس الدين، عن تلك الأيام العصيبة التي عاشها أهل نيالا، إذ لم تترك الحرب سلاحاً إلا واستخدمته، ولم تترك حيّاً إلا وأثخنته بالجراح. كانت الأحياء الواقعة بين قيادة الفرقة 16 الواقعة في قلب المدينة، وارتكازات الدعم السريع هي الأشدّ تضرّراً، بينما عاش السكّان خوفاً مزدوجاً؛ بين نيران القصف العشوائي، واتهامات الولاء لهذا الطرف أو ذاك.
«في الأيام الأولى، كنا نظنّ أنها مجرد اشتباكات، ستنتهي كما بدأت”، هكذا يروي شمس الدين لـ «أتَـر»، مستعيداً المشاهد التي حُفرت في ذاكرته. لكن الحرب لم تهدأ، بل تصاعدت شراستها: القذائف تنهال على الأحياء، القنّاصة يعتلون المباني، والرعب يُحيط بالجميع.
في 26 أكتوبر 2023، يوم سقوط الفرقة 16 مشاة، نيالا، في يد قوات الدعم السريع، خيّم الصمت الثقيل، لكنه لم يكن صمت السلام، إنما صمت الفراغ: اختفت الدولة، وتحوّلت المدينة إلى أرض بلا قانون.
لم يَدُم ذلك الصمت طويلاً، فقد بدأ الجيش في قصف المدينة، وفي كل مرّة تحلّق فيها طائراته الحربية، كانت القلوب تخفق رعباً. لم يكن أحد يعرف أين ستسقط القنابل، لكن الجميع كانوا يعلمون أنّ الضحايا دائماً من الأبرياء.
كانت منى، الطفلة ذات العشر سنوات، تجلس قرب نافذتها عندما دوى الانفجار. في لحظةٍ، انهارت الجدران، وتحوّل منزلها إلى أنقاض. تفرّق أفراد أسرتها مع حالة الهلع والفوضى التي أعقبت الانفجار، ولم ينتبه أحد لاختفائها، ليعثر عليها الجيران تحت الركام بعد ساعات. لكنها لم تكن تبكي أو تصرخ، إنما كانت تنظر إلى الفراغ، كأنها لم تعد هنا. لم يَستطع الجيران ترْكَها وحيدة في تلك الحالة، فاصطحبوها معهم إلى خارج المدينة.
في أقل من شهر بعد سقوط نيالا، توالى سقوط بقية مدن ولايات دارفور تحت سيطرة الدعم السريع، باستثناء الفاشر التي ما زالت صامدة. بعدها صارت نيالا مركز إمداد عسكري شديد الأهمية لقوات الدعم السريع.
حين يصبح البقاء مغامرة
بعد استيلاء الدعم السريع على المدينة بأيّام خرج العشرينيّ أحمد لشراء الخبز. لم يكن يدري أنها رحلته الأخيرة. عند حاجز عسكري يتبع للدعم السريع، شرق الصينية بشارع السينما، سأله أحد الجنود: «مع من أنت؟». ارتبك أحمد، لم يعرف بماذا يجيب. لم يكن مع أحد، فهو مواطن عادي، لكنه كان يعلم أن الصمت أخطر من الإجابة. قبل أن يتمكّن من التحدّث، كان الرصاص قد قال كلمته. تحوّلت المدينة إلى مسرح للموت. كل طرف يتّهم السكّان بالولاء لعدوه، والحياد لم يعد خياراً آمناً.
هكذا، في مدينة ممزّقة، انقسم المجتمع إلى ثلاث فئات: أما مؤيد للدعم السريع أو مؤيد للجيش خفيةً، وهناك رافضون للحرب حاولوا التمسك برفضهم للحرب رغم الضغوط التي قد يواجهونها.
في أحد الشوارع، كان عبد الله، التاجر العجوز، يقف أمام متجره المُحترق. لم يكن لديه ما يبيعه، ولا زبائن ليشتروا، لكنه ظل واقفاً هناك، كما لو أنه ينتظر معجزة تعيد الزمن إلى الوراء.
وشهد السكّان كيف راحت الحياة بالمدينة تتضاءل مع مرور كل يوم. المحال التجارية أُغلقت، الأسواق احترقت، والمخزون الغذائي بدأ ينفد. لم تتأخر تداعيات الفراغ الأمني، إذ توقّفت رواتب الموظّفين، وتعطّلت الأنشطة التجارية، وسرعان ما انهارت الأسواق الرئيسة، وعلى رأسها سوق نيالا الكبير أحد أكبر الأسواق في الإقليم. في المقابل، بدأت الأسواق الفرعية تعمل، مثل سوق المواشي، سوق موقف الجنينة، سوق قادرا، السوق الشعبي، وسوق الجبل، تُحاول تعويض الغياب الكبير للحركة التجارية المُعتادة. أصبح الماء شحيحاً، والكهرباء مقطوعة، والمستشفيات بالكاد تعمل. المشافي الحكومية تعتمد على مساعدات شحيحة، بينما أصبحت المستشفيات الخاصّة حلماً لا يستطيع الفقراء الوصول إليه. أما التعليم، فقد مات في المدينة. امتحانات الشهادة السودانية التي جرت حُرموا منها. لم يعد أحد يتحدّث عن المدارس، فالناس مشغولون بالبحث عن لقمة العيش.
في أحد الشوارع، كان عبد الله، التاجر العجوز، يقف أمام متجره المُحترق. لم يكن لديه ما يبيعه، ولا زبائن ليشتروا، لكنه ظل واقفاً هناك، كما لو أنه ينتظر معجزة تعيد الزمن إلى الوراء.
بدأ الناس الهروب من المدينة خوفاً على حياتهم وأُسَرهم. كان الخيار الأسهل هو الهروب إلى القرى المجاورة، ثم إلى الولايات الأخرى الآمنة، وأخيراً عبر الحدود إلى دول الجوار.
في إحدى الليالي، جلست آمنة، وهي أمّ لثلاثة أطفال، تتأمّل صغارها النائمين. كانت تعلم أنّ بقاءهم هنا يعني الموت، لكنها لم تعرف كيف تهرب. في اليوم التالي، حملت حقيبة صغيرة، وأمسكت بأيدي أطفالها، وانطلقت بهم في رحلةٍ لم تكن تعرف إن كانوا سيصلون إلى نهايتها أحياء. وأخيراً وصلت هي وصغارها إلى ليبيا بعد معاناة وخوف من قصص خطف وموت سمعت بها.
اسم «نيالا»: خوفٌ لا يغادر
لكنّ هناك سبباً آخر جعل عائلة مديحة تعاني من التوقّعات المتوتّرة للناس من حولهم، والسبب هو اسم واحد: نيالا
عند بداية حرب 15 أبريل، كانت أسرة مديحة تعيش في منزلها في أمبدّة الحارة الـ17، ورغم أهوال الحرب التي عاشوها، تمسّكت الأسرة باحتمال هدوء الأحوال عما قريب وتوقّف الاشتباكات، وهو الأمر الذي لم يحدث. أثناء هذا الانتظار الصعب، لاحظت مديحة تغيّرات في نفوس جيرانهم. شعرت بأنّ أسرتها في حيّهم أصبحت «منبوذة» بعض الشيء، حسب تعبيرها، سمعت بعض العبارات من الناس: «أهلكم جوا بجاي»، وهم يصفون حركة أفراد الدعم السريع ومرورهم في الأحياء.
«أيّ أهل؟»، تستنكر مديحة، وتردف قائلة: «تنتمي أسرتي إلى الزغاوة الذين لا يتجنّدون في الدعم السريع على نحو واسع، ولا ينبغي أن يجري ربطهم بها، ولا يمكن أن نُعدّ حواضن اجتماعية للدعم السريع، بينما يمكن ملاحظة ارتباط أوضح للزغاوة بالجيش والقوات المتحالفة معه والتي تقاتل معه اليوم ضد الدعم السريع».
لكنّ هناك سبباً آخر جعل عائلة مديحة تعاني من التوقّعات المتوتّرة للناس من حولهم، والسبب هو اسم واحد: نيالا.
مديحة هي وسطى بنات أسرتها وتبلغ 26 عاماً. تحكي عن علاقاتهم المتنوّعة قبل الحرب، وتصف أسرتها بأنها كانت متداخلة اجتماعياً إلى حدّ واسع في محيط الحي والدراسة والعمل، وتصف البيئة داخل الأسرة المكوّنة من 5 بنات، إحداهن في السعودية، وأخوين ووالدين بأنها عامرة بمحبة وثيقة وشفافة، إنهم يعرفون كلّ شيء عن بعضهم، فهم يتشاركون الأُنس والقصص والآراء والآمال، والأهم من كلِّ ذلك: المخاوف، هذا بالإضافة إلى أن أغلبهم قد وُلدوا في نيالا، وطنهم الأول.
ها هي أسرتها تضطرّ لمغادرة أمبدّة، وطنها الصغير الذي لم تعرف غيره. والآن لا تحتفظ مديحة بأي ذكرى خاصة عن نيالا، هو وحده هذا الاسم في خانة الميلاد على جواز سفرها: «نيالا»، الاسم الذي لا تملك مديحة إلا أن تخفيه في كلّ سانحة لقاء بشخص جديد في محلية الدامر، بولاية نهر النيل
في أمبدّة، بعد ثلاثة أشهر من الحرب، كانت البنات وأمّهن وحدهنّ في المنزل، بينما كان الأب والأخَوان في الخارج للعمل. في لحظة ما، جاءت قوّة من الدعم السريع على درّاجات نارية وداهمت منزل الأسرة بهدف «السرقة»، فأسرعن للاحتماء في سطح المنزل وأغلقن عليهن بابه، وبدأن يصرخن طلباً للنجدة من الجيران لوقت طويل، ولكن لم يُجبْهُنّ أحد، حتى غادرت القوة منزلهن. رجع الوالد إلى منزله ليجد بناته في السطح وهنّ في حالة بكاء هستيري، فأصيب بإحباط شديد لأنّ الجيران لم يُنجِدوهنّ، وهو الذي كان يُسارع لنجدة الجيران من اللصوص في السابق، كما تحكي مديحة. عندما واجههم دافع جيرانه بأنه لم يكن في إمكانهم فعل شيء لأنهم ليسوا مسلّحين. في هذه اللحظة قرّر الوالد أن ينزح وأسرته نحو ولاية سنار التي لهم فيها أقارب.
لم تكن هذه أول مرة تختبر فيها أسرة مديحة قسوة الرحيل بسبب الحروب. عند اندلاع الحرب في دارفور عام 2003، قرّر والدها الرحيل بأسرته الصغيرة من نيالا إلى أمبدّة والاستقرار هناك. حينها كانت مديحة في الرابعة من عمرها. وثانيةً، بعد حرب 15 أبريل، ها هي أسرتها تضطرّ لمغادرة أمبدّة، وطنها الصغير الذي لم تعرف غيره. والآن لا تحتفظ مديحة بأي ذكرى خاصة عن نيالا، هو وحده هذا الاسم في خانة الميلاد على جواز سفرها: «نيالا»، الاسم الذي لا تملك مديحة إلا أن تخفيه في كلّ سانحة لقاء بشخص جديد في محلية الدامر، بولاية نهر النيل.
تحرّكت أسرة مديحة نحو سنار، وأقامت فيها أكثر من عام. وبعد وصول الحرب إلى الولاية اضطرّت من جديد للنزوح جيئة وذهاباً بين سنار وسنجة. في آخر الأمر قرّرت أن تقصد ملاذاً أكثر أماناً وبُعداً من ألسِنة الحرب، فتوجهت نحو شمال السودان، إلى مدينة الدامر بولاية نهر النيل.
أثناء رحلتهم الطويلة إلى الدامر، تحكي مديحة أنها تعرّفت عن قرب على التوتر الذي يرافق اسم «نيالا» المكتوب في خانة الميلاد على جواز سفرها، وبسببه جرى إيقافها مرات عدّة في نقاط التفتيش، وبسببه أيضاً شعرت بالخوف من التوتّر الذي بدا على المواطنين والعساكر. تقول إنّ قدراً كبيراً من خصوصيّتها كأنثى ومنقّبة قد انتُزع منها بسبب اسم «نيالا».
وعلى الرغم من أنه شعر بالغضب والظلم، تقول مديحة إن والدها يجد العذر في كلّ هذه الأوضاع الكارثية، ويتفهّم أن هذه التوترات والمخاوف والأفعال هي جزء من «ظروف الحرب»، وأن حقيقة السودان ليست هكذا
هكذا، عند الوصول إلى الدامر، وصل معهم الخوف الذي رافق الاسم، فاتّفقت البنات على أن لا ينطقن به مرة أخرى أمام الناس. تشعر أسرة مديحة بما ينتاب الناس في محيطهم من توتّر وحذر، لأن أصلهم يرجع إلى غرب السودان عموماً، فما بالك إن عرفوا أنهم من نيالا! الأرجح أن بعضهم لن يكتفوا بالتوتر والحذر، وسوف يجرّ الاسم معه كثيراً من المتاعب، وربما يضطرّون لمغادرة الدامر خوفاً من الأسوأ. لذلك لزموا جانب الحذر بدَورهم في علاقتهم بالجيران الجدد، واقتصرت زياراتهم على بيتين أو ثلاثة، أقربها إليهم هو بيت نازحين كانوا جيرانهم في أمبدة. ولم تعد مديحة تتحمّس للزوار والضيوف كما كانت في السابق، لأن هذا كما تقول يُرغمها على الكذب: «نحن من سنار».
تحكي مديحة عن بيتٍ تجمعهم بأهله علاقة طيبة، سوى أنهم يعتقدون أنّ أسرتها من سنار. عدا هذا هم «ناس طيبون» كما تقول مديحة، وهذا على الرغم من أنها سمعت منهم قصصاً تعبّر عن كرههم لـ «الغَرَّابة» والدعم السريع كما لو أنهما شيء واحد.
ذات يوم، اضطرت والدة مديحة للسفر إلى نيالا لزيارة جدّهم المريض. وهنا في الدامر، أخبرت البنات جيرانهم بأن الأم ذهبت إلى مدينة النهود في كردفان. يومها، اتصلت مديحة بأختها في السعودية باكيةً وهي تقول إنها تعبت من حياة الكذب.
هذه الكراهية المُختَلِطة بمحبّة الجار، والأكاذيب والخوف والحذر، هي ما تورث مديحة نفوراً من لقاء الجيران والناس في هذه الفترة من حياتها.
لا يشارك الوالد في الكذبة، فهو يقول إنه فخور لكون أصله من نيالا. تُعلّق مديحة على ذلك بأنّ والديها قد ربّياهم على الفخر بتكوينهم الاجتماعي والعِرقي والمناطقي. ورغم حذر والدها، واقتصار علاقاته في الدامر على المسجد وزملاء التجارة، لكنه يرى أنه لا يرتكب خطأ في كونه من نيالا. وعلى الرغم من أنه شعر بالغضب والظلم، تقول مديحة إن والدها يجد العذر في كلّ هذه الأوضاع الكارثية، ويتفهّم أن هذه التوترات والمخاوف والأفعال هي جزء من «ظروف الحرب»، وأن حقيقة السودان ليست هكذا.
تأسَّفت مديحة لأن حياتها وعلاقاتها قد تغيّرت بعد الحرب. في الدامر، لا تستطيع التحرّك خارج المنزل إلا لنقاط محدّدة. ومن باب الاحتياط الأمني، مَنعتها الأسرة هي وأخواتها من الأسواق والدكاكين في الحي، وطالبتها بالتخلّي عن نقابها إذا أرادت الذهاب إلى عطبرة، هذا النقاب الذي تسبّب في إيقافهم مرات عدّة على الطريق.
في هذه الأيام التي تنتشر فيها جدالات في الميديا عن احتمالات انقسام السودان، تجري أيضاً نقاشات داخل أسرة مديحة عن احتمال السفر إلى خارج السودان نهائياً. ربّما لا ترى أسرة مديحة بصدق أنها تنتمي إلى أي من أجزاء سودان ما بعد الحرب. أما في الاحتمال الثاني؛ عندما تنتهي الحرب على خير ويعود الناس إلى ديارهم، تقول مديحة ضاحكة إنها ستخبر كلّ من تقابله بأنها من «نيالا».