أتر

عينٌ على النيل الأزرق: الحياة تنادي!

رغم بصيص الأمل الذي لاح باستعادة الجيش السوداني سيطرته على مدينة سِنْجَة، عاصمة ولاية سنار المُجاوِرة لإقليم النيل الأزرق، وفَتْح الطريق القومي، ما يسمح بتدفّق الغذاء والوقود؛ ما زال شبح وجود قوات الدعم السريع يُطلُّ برأسه في الإقليم، خاصة بعد تحالفها مع قوات الجنرال جوزيف توكا بدولة جنوب السودان، وإقامة معسكرات تجنيد في مناطق سيطرته. هذا إضافة إلى التفلتات الأمنية، التي تزيد من الرعب في قلوب السكّان والنازحين. وبحسب مصادر محليّة في المنطقة الغربية من النيل الأزرق، فإنّ الدعم السريع ما زالت تنتشر في مناطق ملكن والفوج في الشريط الحدودي بين دولتي السودان وجنوب السودان.

ومنذ نوفمبر 2023، تحوّلت المنطقة الغربية، الواقعة في الناحية الجنوبية الغربية لإقليم النيل الأزرق، إلى ساحة صراع بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني. ولا تزال المعارك مُتصاعدة، وكذلك السيطرة المُتبادَلة على المدن، إذ تتضارب الروايات حول من يسيطر على الأرض. كلّ ذلك أدّى إلى نزوح مئات الآلاف من الإقليم، وتدهور الأوضاع الإنسانية على نحوٍ كارثي.

وشهدت المنطقة الغربية من الإقليم معارك مُتصاعدة، بدأت بدخول قوات الدعم السريع إلى مناطق جِريوة، رُورُو، وقُلي، ثم السيطرة على منطقة بُوط الاستراتيجية بمحلية التضامن في 8 ديسمبر 2024. واستمرّ الجيش والدعم السريع يتبادلان السيطرة على المنطقة إلى أن أعلنت قيادة الفرقة الرابعة مشاة في 5 مارس الجاري تحرير بوط وقُلي وجريوة ورُورُو من قبضة الدعم السريع.

وبحسب مصادر محلية، تراجعت قوات الدعم السريع إلى مناطق أولو والفوج، التي كانت تُعَدُّ مناطق تحت سيطرة الحركة الشعبية جناح عقار المُتحالفة مع الجيش السوداني، والتي تُرابط قواتها حالياً في الدمازين. وتقع هذه المناطق على الشريط الحدودي بين دولتي السودان وجنوب السودان بالقرب من منطقة المابان التي تتبع لدولة جنوب السودان.

موسم زراعي مُجهَض

في شهر أغسطس 2024، عندما اجتاحت الدعم السريع محافظة التضامن بإقليم النيل الأزرق لأول مرة وسيطرت عليها، تحوّل أهلها إلى نازحين يقطنون ستة مراكز إيواء في الدمازين: مدرسة جانديل، والسكة الحديد، ومدرسة الرياض، والقادسية، ومركز حي بانت، ومركز البحوث الزراعية.

أدّى هذا الوضع المتأزّم في المحافظة إلى مغادرة كبار المزارعين والشركات وآلياتهم إلى دولة جنوب السودان خوفاً من بطش الدعم السريع، رغم أنّ بعض السكّان المحليّين، حاولوا جاهدين الاستمرار في الزراعة لأنها عملهم ومصدر رزقهم الوحيد.

مع بداية الموسم الزراعي 2024-2025، كان المزارع علي سليمان بنسو، من مناطق أقَدِي والقربين بالمنطقة الغربية، قد قطع شوطاً كبيراً في التحضيرات الزراعية تجاوَزَ الـ 60%، من توفير الوقود وسلفيات العمال وتجهيز الأرض، وبدأ زراعة المساحات الجاهزة بالفعل، لكن سرعان ما تبدّدت آماله مع تصاعد التهديدات وسيطرة قوات الدعم السريع على مدينة سنجة وقطع الطريق القومي.

يقول بنسو إنّه بسبب هذه التهديدات، اضطرّ معظم المزارعين، إلى الفرار إلى دولة جنوب السودان عبر الرنك، حفاظاً على آلياتهم وممتلكاتهم: «لم نتمكّن من زراعة مساحات واسعة بسبب الخطر وتهديدات قوات الدعم السريع، فقد تعرّضت الكنابي للنهب، بل هُدمت بعضها، وسُرق الوقود وقطع الغيار؛ والمساحات التي تمكنّا من زراعتها لم يتمكّن أحدٌ من حصادها، وربما حصَدها آخرون»، ويضيف في حديثه لـ «أتَـر»: «لقد تكبّدنا خسائر فادحة، فقدنا المقطورات والوابورات، وفقدنا موسماً زراعياً كاملاً بسبب النزاع، ما يُهدِّد الأمن الغذائي في المنطقة».

وبسبب التهديدات المستمرة، يقول بنسو إنّ المزارعين قد اختاروا النزوح إلى جنوب السودان، ويوغندا، والمدن الكبيرة الآمنة، مثل القضارف وكسلا ومدن ولاية نهر النيل، بحثاً عن ملاذ آمن.

تقع محافظة «التضامن»، أو المنطقة الغربية، غرب مدينة الدمازين؛ عاصمة إقليم النيل الأزرق، وتمتدّ من حدود أقَدِي حتى حدود دولة جنوب السودان، وتتعايش فيها قبائل الفُونْج والأنْقَسَنا، إلى جانب الرفاعة والنوبة والشّلك والنوير والمابان وغيرها.

وأقيمت بالمنطقة مشاريع عملاقة مثل المشروع السعودي ومشروع الوادي الأخضر، لترفد المخزون الاستراتيجي بمختلف أنواع المحاصيل، لكنها توقّفت طوال فترة حكم نظام الإنقاذ، ثم عادت الحياة تدبّ في المنطقة مع مشروع الشركة العربية «أقدي» وشركة المزدانة والشركة البرازيلية، لتنتج الذرَة والسمسم وعباد الشمس والقطن والقوار والتسالي والفول السوداني. واستقبلت المنطقة مزارعين من جميع أنحاء السودان.

حصار الإقليم

خمسة أشهر عجاف عاشتها الدمازين في عزلة تامّة، بعد أن قُطع الطريق القومي، شريان الحياة الوحيد الذي يربطنا ببقية السودان. تدهور الوضع الاقتصادي والصحّي على نحو كارثي، ليس فقط في المدينة، بل في جميع المحافظات وقرى الإقليم

بعد سقوط مدينة سنجة وأجزاء كبيرة من ولاية سنار في يد قوات الدعم السريع، عاش إقليم النيل الأزرق حصاراً مُطبِقاً، خاصة مع انقطاع الطريق القومي، الذي يربط الإقليم ببقية أقاليم السودان، وهو الطريق الوحيد المسفلت؛ وبسبب ذلك، توقّفت حركة المواصلات، واختفى الوقود لترتفع الأسعار مع ندرة السلع الأساسية، التي تحوّلت إلى غنائم في يد تجار الأزمات.

«خمسة أشهر عجاف عاشتها الدمازين في عزلة تامّة، بعد أن قُطع الطريق القومي، شريان الحياة الوحيد الذي يربطنا ببقية السودان. تدهور الوضع الاقتصادي والصحّي على نحو كارثي، ليس فقط في المدينة، بل في جميع المحافظات وقرى الإقليم، خاصة بعد أن اجتاحت قوات الدعم السريع المناطق الحدودية مع سنار»، يقول غازي جابر الذي يعمل بسوق مدينة الدمازين، في حديثه لـ «أتَـر».

لكنّ قطع الطريق القومي لم يكن الكارثة الوحيدة، فقد قَطَع موسم الخريف وانهمار الأمطار ما تبقى من طرق فرعية، تلك المنافذ الضيقة التي كانت تسمح بدخول وخروج بعض المواطنين والمنتجات. «وجدنا أنفسنا في هذا الوضع، ولا منفذ لنا غير الذهاب غرباً نحو دولة جنوب السودان، أو جنوباً نحو إثيوبيا»، يضيف جابر.

خلال فترة الحصار، كانت بعض المنتجات تصل من إثيوبيا والقضارف عبر وابورات عن طريق أم بقرة، لكنها لم تكن كافية. ووصل سعر جالون البنزين الإثيوبي إلى 80 ألف جنيه، وسعره أقل من نظيره السوداني الذي وصل إلى 100 ألف جنيه في السوق السوداء. ويضيف جابر أنّ هناك سلعاً أساسية اختفت تماماً، وأخرى بِيعَت في الخفاء بأسعار باهظة، ووصل سعر علبة الصلصة إلى 20 ألف جنيه، فضلاً عن توقّف المواصلات الداخلية.

حاول سكّان الإقليم التشبّث بأي بصيص أمل، فتأقلموا مع الوضع المرير، واستبدلوا أغذيتهم المعتادة بما توفَّر، وحوّلوا الحلوى والفول السوداني والموز إلى بدائل للسكر في شرب الشاي

وشهد جابر كيف أدّى حصار قوات الدعم السريع للمنطقة الغربية بالإقليم إلى تدهور بالغ في الأوضاع المعيشية. مقارنة بالأوضاع قبل الحصار وبعده، كان سعر كيلو اللحم العجالي 6.000 جنيه، والضأن 8.000 جنيه، بينما وصل بعد الحصار إلى 14.000-16.000 جنيه للعجّالي و20.000 جنيه للضأن. كما شهدت أسعار البصل ارتفاعاً حاداً، ووصل سعر جوال البصل إلى 1,100.000 جنيه في ذروة الأزمة، ثم انخفض إلى 550.000 جنيه بعد فتح طريق سنجة، مع تفاوت في الأسعار بحسب طريقة الدفع إذ تكون أعلى عبر تطبيق بنكك مُقارنة بسعر الكاش. ووصل سعر كيلو السكر إلى 15.000 جنيه.

أما الخضروات، التي كانت تُجلب من سنار والجزيرة والريف الشرقي، فقد اختفت. «لحسن الحظ كان البامبَي متوفراً، وأصبح الغذاء البديل لمعظم السكان، إلى جانب عيش الريف»، يضيف جابر.

وسط الحصار، حاول سكّان الإقليم التشبّث بأي بصيص أمل، فتأقلموا مع الوضع المرير، واستبدلوا أغذيتهم المعتادة بما توفَّر، وحوّلوا الحلوى والفول السوداني والموز إلى بدائل للسكر في شرب الشاي. حتى اللحوم، التي كانت تأتي من المنطقة الغربية، ارتفعت أسعارها بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مناطق منها.

وعلى الرغم من فكّ الحصار؛ باستعادة الجيش مدينة سنجة من قبضة الدعم السريع، لا يزال سكّان إقليم النيل الأزرق يعانون من ارتفاع الأسعار، فعقب تطبيق قرار استبدال العملة تأثّرت أسعار السلع الاستراتيجية على نحو بالغ، وظهر فرق في الأسعار بين البيع بالكاش وبتطبيق بنكك. وتأثّر التجّار الذين يعملون خارج المدن مثل تجار الماشية والمحاصيل والصمغ، فجميعهم يفضلون الكاش، وقد أصاب الناس الخوف والهلع بسبب ذلك.

في الآونة الأخيرة، شهدت شبكات الاتصالات والإنترنت في الإقليم استقراراً نسبياً، فضلاً عن توفر خدمة «ستارلينك» التي تُغطي إلى حدّ ما احتياجات المواطنين في المعاملات، أثناء قطع شبكات الاتصالات. 

مبادرات من أجل الحياة

منذ اندلاع الحرب، استقبل إقليم النيل الأزرق موجات متتالية من النازحين الفارّين من جحيم المعارك وانتهاكات الدعم السريع، وكانت الموجة الأكبر هي التي وفدت بعد سقوط ود مدني وسنجة، إذ تحوّلت المدارس والنوادي والميادين إلى مراكز إيواء مكتظّة، ما أدّى إلى وضع كارثي، خاصة مع الحصار شبه الكامل وتهديدات الدعم السريع قبل دخول المنطقة الغربية بالإقليم، والذي ضاعف الضغط على الموارد المحدودة.

وسط هذا الظلام، أضاءت مبادرات شعبية ومطابخ تطوّعية، مثل مطبخ «شباب حي الزهور» الذي كان له دَور محوري في تلبية احتياجات الغذاء للنازحين في معظم المراكز جنوب الدمازين، ولا يزال المطبخ رغم شحّ التمويل يقدّم الوجبات للنازحين

وقال مفوّض العون الإنساني بإقليم النيل الأزرق عرفات الصادق في تصريحات صحفية سابقة، إنّ أكثر من 100 ألف نازح معظمهم من النساء والأطفال وكبار السنّ وصلوا مدينة الدمازين حاضرة الإقليم في ظروف إنسانية معقّدة وتوزّعوا في مراكز إيواء.

لكن وسط هذا الظلام، أضاءت مبادرات شعبية ومطابخ تطوّعية، مثل مطبخ «شباب حي الزهور» الذي كان له دَور محوري في تلبية احتياجات الغذاء للنازحين في معظم المراكز جنوب الدمازين، ولا يزال المطبخ رغم شحّ التمويل يقدّم الوجبات للنازحين، إضافة إلى ذلك، ساهم المطبخ في سدّ الحاجات غير الغذائية، إضافة إلى مطبخ شباب قطاع شمال ووسط، الذي كان يقدّم يد العون للنازحين في مراكز وسط وشمال جميعها.

في حديثه لـ «أتَـر»، يقول مصعب رزق الله، وهو إعلامي ومدافع عن حقوق الإنسان من إقليم النيل الأزرق، إنّ الحال خلال فترة انقطاع شبكات الاتصالات زاد سوءاً، بسبب انقطاع شريان التنسيق والمتابعة لدعم الأسر، لكنه يقول إنّ صحة الناس كانت هي التحدّي الأكبر، بفعل الوضع «الاقتصادي والغذائي والصحي» المُزري.

وسط ذلك دارت اتهامات بانضمام عددٍ من سكان المنطقة الغربية إلى الدعم السريع، وهي الاتهامات التي نفاها المهندس أدهم سيف الدولة؛ ابن الراحل سيف الدولة ناظر المنطقة الغربية، في حديثه لـ «أتَـر»: «نجحنا في تجنيب منطقتنا ويلات الحرب لمدة طويلة، وسعينا جاهدين للحفاظ على النسيج الاجتماعي. لكن، مع الهجوم الأخير، بات الصراع قبَلياً، واتُّهمت قبيلة رفاعة جملةً بالتعاون مع الدعم السريع. عملنا على مدار الساعة لتصحيح هذا المفهوم، وأكّدنا أن الصراع ليس مع القبيلة بأكملها، فتواصلنا مع أعيان وجماهير رفاعة، وتحدثنا عن المصلحة والاستقرار، ونجحنا في إقناع جزء منهم بالعودة إلى قُلي وهي مسقط رأس الناظر ومكان إدارته. لكن، دخول قوات الدعم السريع إلى رورو وجريوة حال دون وصولنا إلى تلك المجتمعات لإدارة حوار مماثل».

Scroll to Top