
في كمبو عسلاية، على الطريق القومي الرابط بين الخرطوم ومدن النيل الأبيض، يُجازف الناس بحياتهم، ويبتكرون أكثر من طريقة للعيش وتدبير أمر اليوم، فالحياة لا تُؤجَّل إلى الغد. وثمّة سؤال وحيد نابع من جوف معدة فارغة يشغل بالهم: ماذا سنأكل اليوم؟ وكلّ ما عدا ذلك محض رفاهية.
يبعد مصنع سكّر عسلاية من مدينة ربك بضعة كيلومترات، يربطهما خطّ مواصلات قصير، وتمرّ العربات بمنطقة الهجاليج ثم قوقيلا مروراً بكمبو عسلاية إلى آخر محطة بحي السكنية الخاص بموظّفي مشروع السكر.
نشأ الكمبو عشوائياً نتيجةً لتدفّق النازحين من حروب دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وولاية أعالي النيل الكبرى بدولة جنوب السودان، وبنوا بيوتاً داخل أراضٍ تعود ملكيتها إلى الحكومة وسط المشاريع الزراعية، وهم أنفسهم ظلّوا عمّالاً دائمين بالمشاريع، لذلك لم تحاول الحكومة استبعادهم من تلك المناطق، وسمحت لهم بالبقاء دون شهادات سكنية، إلى أجل غير مُسمّى. وشُيّدت بين تلك البيوت الهشّة كنيسة ومسجد ومركز صحي ومدرسة ابتدائية، وبه سوق محلّي صغير، ينشط في تجارة المحاصيل والألبان والخضار وبعض منتجات الحرف اليدوية. ومعظم البضائع الأخرى تُجلب من ولاية سنار قبل حصارها في حرب 15 أبريل.
في بداية الألفية، نزح إلى عسلاية أناسٌ من دارفور ولم يعد أحدٌ منهم أدراجه إلا في زياراتٍ سنوية قصيرة، كما تقول أمّ التومات في حديثها لـ «أتَـر»، مشيرة إلى جارها الذي قَدِم من دارفور إلى المنطقة منذ عام 2003، حينما كان عدد السكّان في الكمبو يُحسب بأصابع اليد، والمساكن بضع قطاطي متناثرة هنا وهناك في خلاء فسيح موحش.
إضافة إلى ضحايا الحروب المتوالية في السودان، دَرَج سكّان حي السكنية المخصّص لموظفي الشركة، على شراء قطع أراضٍ بالكمبو، ومعظمهم ينحدرون مناطق مختلفة في السودان، ويتنقّلون من منطقة إلى أخرى بين أقاليم البلاد؛ ما جعل سكان الكمبو مزيجاً فريداً من موظفي شركة سكّر عسلاية والعمّال الزراعيين.
ماراثون العَيْش
لأكثر من ثمانية أشهر قاسينا أصعب حالات الجوع والعوز التي يمكن أن يواجهها الإنسان
بعد اندلاع الحرب، توقف مشروع سكر عسلاية، وانتقلت الشركة بموظّفيها ومنتجاتها وماكيناتها إلى شركة سكر كنانة التي لم تتأثّر بالحرب وظلّت خطوط إنتاجها نشطة. وظلّ المزارعون المحلّيون يعملون في مشاريع زراعية صغيرة، تنتج محاصيل مختلفة كانت الأسواق في أمسّ الحاجة إليها بعد إغلاق الطرق الرابطة بين ولايات كردفان والنيل الأبيض.
على الطريق القومي، تمرّ الدفّارات كل صباحٍ ومساء، ذاهبة وآيبة من مزارع كانت في ما قَبل مشاريع كبيرة لزراعة قصب السكّر والسمسم. لم يعد المزارعون يقلقون بشأن العُمّال؛ فهنالك جوعى في كلّ مكان ينتظرون إشارةً لبدء العمل. كذلك راجت عمَالة الأطفال ما دام في مقدور أياديهم الصغيرة أن تلقم عدداً من الأفواه. تأتي هذه الدفّارات بغير موعد، وعلى الجميع أن يحضروا إلى الشارع باكراً، للَّحاق بها بأقصى سرعة ممكنة.
وفي منتصف العام الماضي، بعد سيطرة الدعم السريع على جبل مويا، وقَطْع الطريق القومي بين ولايتي سنار والنيل الأبيض، فضلاً عن منع الدعم السريع انتقال المحاصيل بين ولاية شمال كردفان والنيل الأبيض، عانى سكّان الكمبو من نقص حادّ في منتجات الغذاء. تُحدّث أمّ التومات «أتر» قائلةً: «لأكثر من ثمانية أشهر قاسينا أصعب حالات الجوع والعوز التي يمكن أن يواجهها الإنسان». ويعتمد سكّان الكمبو في غذائهم الرئيس على محصول العيش الأحمر «الدِّقيس» والفيتريتة التي كانت تأتيهم من شمال كردفان قبل إغلاق الدعم السريع الطرق بين الولايتين.
أخبرت أمّ التومات مراسل «أتَـر» بأنّ «أسعار المحاصيل ارتفعت إلى حدّ فائق، هذا في حال توفّرها، وانعدم زيت الفول، أما الفواكه التي كانت تأتي من سنجة، فإننا لم نرَ برتقالة أو موزة لأشهر طويلة».
مع تدفّق مزيد من النازحين من مناطق الجبلين وسنار وسنجة، اختقنت بهم ولاية النيل الأبيض، ونتجت عن تلك الكثافة البشرية أزمات إنسانية عصيبة. ولم تستعد الولاية أنفاسها إلا بعد انسياب الحركة في طريق سنار وربك وكوستي، وفكّ الحصار عن بعض المناطق وعودة النازحين. تقولُ «س.ح» التي غادرت منزلها في الخرطوم على أمل أن تعود إليه بعد أيام قليلة، إنها أمضت شهوراً طويلة في الكمبو، ولا يزال أمل العودة إلى الديار باقياً تُردّده فجراً وعشيّة.
تخوض نساء الكمبو سباقاً يومياً من أجل لقمة العيش، إذ يعملن في المزارع طوال النهار دون نقاش في الأجر، وفي المساء يَعُدن أدراجهن نحو الملاجئ المؤقتة، حاملاتٍ بواقي القصب لطعام الصغار وحبة مصاريف تسدّ رمق اليوم.
نفيرٌ ساعة الحرج
اجترح أهل الكمبو حيلةً للنجاة من قسوة الظروف المُتربّصة بهم في حالة الحرب المستمرة، بأن يتّحدوا جميعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً، حتى تنجلي هذه الفترة بأقل خسائر مُمكنة. وعلى كلّ فرد من أهل الكمبو أن يؤدّي دَوره بقدر ما يستطيع من مساعدة؛ فانعقد حبل صمودهم جميعاً وتوطّدت العلاقة في ما بينهم. نجت كثير من النساء الحوامل من خطر الولادة بسبب تأهُّب الدايات، وواصل الأطفال دروسهم في مدرسة الشهيد خليفة الوحيدة بالمنطقة. كذلك خفّض المزارعون سعر الخضروات والألبان حتى يتمكّن الناس من شراء ما يلزمهم منها.
كثيراً ما حاول الشباب تقديم شيء ما من تلقاء أنفسهم وقدراتهم، ذلك بعد أن غادرت منظّمات العون الإنساني المنطقة مع بدايات الحرب ولم تعد من جديد، ولم يجدوا سبيلاً إلا بالاعتماد الكلّي على أنفسهم. وهكذا انخرطوا، بعد أن تلقّى بعضهم تدريباتٍ أوليّة في الصحة الإرشادية، في تنظيم حملات توعوية واسعة مكثّفة في نواحي الكمبو، عسى يفلحون في مجابهةِ خطر الأمراض الفتّاكة، وعزموا على منع الناس من التخلّص من نفاياتهم في مصادر مياه الشرب الرئيسة.
وفقاً لعبد الحميد أحمد، وهو أحد سكّان الكمبو، فإنّ “معظم المشكلات الصحّية ناجمة عن المياه، ولقد واجهنا سلوكيات غير مقبولة في مسألة النفايات عند بداية الحملة، لكنّنا نجحنا في ترسيخ ضرورة الحفاظ على بيئة صحيّة بين المواطنين”.
يتعاضد أهل الكمبو في هذه الظروف القاسية، مدركين تماماً ألا مُنقذ لهم، وأنّ الذين شرعوا في الاقتتال من دون استئذانهم حتى، لن يأبهوا بحياتهم في شيء. لذا لا يتوانى أحدٌ منهم عن تقديم المساعدة في أية لحظة، ويوم الحارّة، الزول بلقَى أخوه.