أتر

السودانان: مرايا الهشاشة المُتبادلة

تسارَعَتْ الأحداث في جنوب السودان منذ مُنتصف فبراير الماضي، وشهدت اشتباكات عنيفة في ولاية أعالي النيل على الحدود الجنوبية للسودان، وأزمة سياسية وأمنية مُتفاقمة في العاصمة جوبا، تهدّد استقرار البلاد ومستقبل اتفاقية السلام الهشّة، ذلك عقب اعتقال شخصيات معارِضَة بارزة تَتبع لفصيل نائب رئيس الجمهورية رياك مشار، من بينهم الجنرال غابرييل دوب لام؛ القائد العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان «المعارِضَة» ونائب رئيس هيئة الأركان بجنوب السودان، ووزير النفط؛ بوت كانغ تشول. ويُنظر إلى هذه الاعتقالات باعتبارها ضربة قاسية لاتفاقية السلام المُنشَّطة التي وُقّعت عام 2018، إذ إنها تستهدف شخصيات رئيسةً في مُعسكر نائب الرئيس رياك مشار، ما يعكس تصدّعاً عميقاً داخل الحكومة الانتقالية وخاصة في الجيش والأجهزة الأمنية. كما زادت المخاوف إثر انتشار تقارير تُفيد بتطويق قوات الأمن منزلَ مشار في العاصمة جوبا، في خطوة تحمل دلالات سياسية وأمنية خطيرة.

وتزداد خطورة الأوضاع بسبب تأثير الحرب في السودان. منذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، أصبح جنوب السودان في وضع حسّاس؛ فالحدود المُشتركة الطويلة، والعلاقات التاريخية المُتشابكة، والتداخل بين الجماعات المُسلّحة، جميعها تجعل جنوب السودان عُرضةً للاضطرابات الناتجة عن الحرب في السودان. كذلك فإنّ آلاف اللاجئين الذين فرّوا من الخرطوم ومن ثمّ الجزيرة إلى الولايات الحدودية في جنوب السودان، يَضعون عبئاً هائلاً على الموارد المحلية، ما يزيد من احتمال اندلاع توتّرات جديدة.

اقتصادياً، كان لتوقّف سريان النفط؛ عمود اقتصاد جنوب السودان، بسبب تعطيل حرب السودان خطوطَ الأنابيب التي تجري عبر أراضيها، تأثيرٌ كبيرٌ على معيش سكان جنوب السودان، وعلى المال السياسي الذي يصعب دونه تنفيذ الترتيبات الأمنية لاتفاقية السلام المُنشَّطة والحفاظ على الولاءات والتحالفات إلى حين بلوغ الانتخابات المؤجّلة والمُزمع عقدها في ديسمبر 2026.

بعد استقلالها عن السودان في 2011، شهدت دولة جنوب السودان استقراراً قصيراً قبل اندلاع الحرب الأهلية في 2013 بين قوات الحكومة ومؤيّدي رياك مشار، ما أدّى إلى مقتل 400 ألف شخص حسب تقارير أمميّة. ورغم وساطة «إيقاد»، وتوقيع اتفاق سلام في 2015، تجدّد الصراع في 2016، فتدخّل السودان برئاسة البشير حينها، واستضاف مفاوضاتٍ قادت إلى اتفاقية السلام المنشَّطة في 2018، عاد بموجبها مشار إلى منصب نائب الرئيس عام 2020 ضمن حكومة وحدة وطنية. نصَّ الاتفاق على دمج القوات المتمرّدة في الجيش، لكن تنفيذ الترتيبات الأمنية تعثّر، ما أبقى التوترات قائمة وأجَّج الصراعات طوال السنوات الماضية.

إضافة إلى ذلك، فإنّ التحالفات المُتغيِّرة في السودان، تُلقِي بظلالها على المشهد السياسي في جنوب السودان. ومن المَعروف أنّ بعض الفصائل داخل جيش جنوب السودان تَربطها علاقاتٌ وثيقةٌ ببعض القادة العسكريين في السودان، سواءٌ أكانوا في الجيش النظامي أم في قوات الدعم السريع. ومع احتدام القتال في السودان، هناك مخاوف من انخراط بعض هذه الفصائل في دعم أحد الأطراف السودانية، ما قد يجرّ جنوب السودان إلى صراع إقليمي أكبر. كذلك يمكن للجيش السوداني أن يستخدم ورقة دعم الفصائل المسلّحة المتمرّدة ضد حكومة سلفاكير، للضغظ على جوبا ودفعها بعيداً عن تحالف نيروبي الذي تحاول الدعم السريع تقوِيَته؛ التحالف الذي التحقت به الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، فصيل الحلو. وقد يستخدم الجيش تلك الورقة أيضاً لإثناء جوبا عن قبول الدعم الإماراتي الذي لم يكن واضحاً لها أكثر من الآن، مع افتتاح قيادات إماراتية الأسبوع الماضي مستشفىً في أويل على الحدود الجنوبية للسودان. يحدث هذا كلّه وسط تدهور كبير للعلاقة بين جوبا وبورتسودان، هو الأسوأ منذ سقوط البشير في نهاية 2018، رغم محاولات الطرفين عدم التصريح بذلك، على الأقل في الوقت الراهن.

في مطلع فبراير الماضي، توسّطت حكومة بورتسودان في توقيع فصيل «كيتقوانق» المُعارِض في جنوب السودان، بقيادة الجنرال سايمون قاتويج دوال، اتفاقَ سلامٍ مع حكومة سلفاكير ميارديت برعاية مدير المخابرات السودانية؛ الفريق أول أحمد إبراهيم مفضّل، بعد مشاورات جمعت الطرفين في بورتسودان. وقد وقّع عن حكومة جنوب السودان مدير جهاز الأمن الداخلي؛ الفريق أول أكيج تونق أليو، على أن يشمل الاتفاق ترتيبات أمنية ودمج قوات الفصيل في جيش جنوب السودان. وقتها، أكّد مفضّل التزام حكومته بدعم استقرار جنوب السودان. وبعد أقل من أسبوع، أقال سلفاكير الفريق أول أليو، الذي لم يهنأ بمنصبه لأكثر من أربعة أشهر.

وشهدت الأشهر الأخيرة إعادة ترتيب للأجهزة التنفيذية والسياسية والأمنية في جنوب السودان، وعمليات إحلال وإبدال مُتواترة، ربما كان أهمُّها هو صعود بنجامين بول ميل إلى منصب أحد نواب رئيس الجمهورية. وتُشير تقارير عدَّة إلى أن الرجل هو الشخصية الأبرز في مستقبل البلاد والأقوى أرجحيةً لخلافة كير.

يُعدّ سايمون قاتويج دوال، المولود في أواخر سنوات 1930، أحد القادة العسكريين البارزين في جنوب السودان. بدأ مسيرته في الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) تحت قيادة جون قرنق، لكنه انشقّ في عام 1991، وانضمّ إلى فصيل الناصر بقيادة رياك مشار المدعوم من قِبل حكومة عمر البشير، التي وقّعت معه اتفاقية الخرطوم للسلام لاحقاً في 1997. خلال الحرب الأهلية عام 2013، التحق قاتويج بالحركة الشعبية في المُعارَضة بقيادة رياك مشار (SPLM-IO) وعُيّن رئيساً لأركانها في 2014. في أغسطس 2021، حاول الإطاحة بمشار عبر «إعلان كيتقوانق»، مُعلناً نفسه قائداً للفصيل، وسعى للحصول على دعم من الخرطوم، لكنه فشل بسبب تقارب حكومتي الدولتين حينها، إذ توسّطت الخرطوم وجوبا في اتفاقيات سلام تلي الدولتين. في 3 فبراير 2025، وقّع قاتويج اتفاق سلام مع الرئيس سلفاكير برعاية البرهان في بورتسودان، يقضي بدمج قواته في الجيش الرسمي، ما يعكس تعقيدات المشهد السياسي في جنوب السودان وصراعات السلطة المُستمرة.

وعلى الأرض، تتزايد التقارير عن اشتباكات متفرّقة بين القوات الحكومية والجماعات المسلّحة المحلية، خاصةً في ولايات أعالي النيل وولاية الوحدة وغرب الاستوائية. فالهجوم الأخير الذي نفّذته مليشيا «الجيش الأبيض» المُنتمية إلى إثنية النوير في أعالي النيل، والمُواجهات المسلّحة في مايوم وغرب الاستوائية، تعكس هشاشة الوضع الأمني. ومع استمرار هذه الاشتباكات، يُضحي من الصعب السيطرة على الفصائل المسلحة التي لا تزال خارج نطاق سيطرة الدولة بالكامل. 

وزاد تدهور الأوضاع الأمنية بعد استهداف قوات «الجيش الأبيض» في مدينة الناصر مروحيةً تابعة للأمم المتحدة، الجمعة الماضي، أثناء عملية إجلاء عسكريين يتبعون لجيش جنوب السودان، ونتج عن ذلك مقتل قائد منطقة الناصر العسكرية، اللواء ماجور داك، رفقة 27 من الضباط والجنود، بحسب وزير إعلام جنوب السودان والناطق الرسمي للحكومة مايكل مكوي لويث.

وكان لويث قد أعلن في مؤتمر صحفي قبلها بأيام، عن أن اعتقال أسماء بارزة ضمن الطاقم العسكري والسياسي التابع للحركة الشعبية في المعارضة التي يَرْأسها مشار، قد حدث بسبب انتهاكهم قانون البلاد، مؤكّداً سيطرة الجيش الأبيض على حامية الناصر العسكرية.

أما على المستوى الإنساني، فإنّ السكّان يدفعون الثمن الأكبر، فموجات النزوح الداخلي تتزايد، وقد شهدت مناطق مثل موروبو فرار مئات العائلات نتيجة الاشتباكات المسلحة. وفي الوقت ذاته، تفشى وباء الكوليرا في مقاطعة نيرول، ما أسفر عن وفاة العشرات في ظلّ ضعف البنية التحتية الصحّية. ومع أزمة الغذاء التي تزداد سوءاً، يُواجه جنوب السودان كارثة إنسانية حقيقية، خاصة مع تزايد العائدين من الجارة الشمالية بعد استرداد الجيش السوداني ولاية الجزيرة وأحداث العنف ضد لاجئي جنوب السودان هناك، التي تلتها أحداث مماثلة ضدّ اللاجئين السودانيين في جوبا.

في ظل كلّ هذه التطوّرات، يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع دولة جنوب السودان تجنّب الانزلاق إلى فوضى جديدة، أم أن الصراع السياسي الداخلي، مدفوعاً بتأثيرات الحرب في السودان، سيُؤدّي إلى انهيار الاستقرار الهش؟ ما يبدو واضحاً هو أن البلاد تقف عند مفترق طرق، وأيّ قرار يتخذه القادة في جوبا سيُحدّد ما إذا كان جنوب السودان سيظلّ على طريق السلام، أم سينجرف مرة أخرى إلى مستنقع الحرب.

Scroll to Top