أتر

دفتر أحوال السودان في رمضان (69): من سنجة وبورتسودان والقِطينة

سنجة: رمضان بلا «آبْـري»

قبل أيام من قدوم شهر رمضان، عادت أسرة سلطان المكوّنة من ستّة أفراد إلى مدينة سنجة، بعد نزوحٍ استمرّ ستّة أشهر في مدينة عطبرة. لم يجد أفراد الأسرة في المنزل شيئاً سوى ستّ أسرّة وفراشين، فقد نُهبت جميع الأدوات الكهربائية والأواني المنزلية، ما زاد من معاناتهم خلال شهر رمضان.

رغم ذلك، يرى سلطان الذي عمل في مغلق بسوق سنجة بعد قدومه إليها مباشرة، أنّ الأوضاع جيدة بعامّة، فخدمات الكهرباء والمياه مُستقرّة نسبياً، إلا في حال حدوث مشكلة في محطة خارج الولاية، مثل أنْ تخرج محطة أم دَبَاكر بولاية النيل الأبيض عن الخدمة فتُقطع الكهرباء عن سنجة بغرض الترشيد. كذلك تشهد الأوضاع الصحية استقراراً بعد عودة غالبية المستشفيات والصيدليات إلى العمل، وتحسّنت الأوضاع الاقتصادية في مدينة سنجة؛ خاصة بعد استعادة الدالي والمزموم إلى قبضة الجيش، ورجوع الحركة التجارية مرة أخرى في المدينة، وفكّ أزمة ندرة السلع.

لكن تُعاني المدينة من أزمة في توفر الكاش بسبب عدم مزاولة كثير من البنوك عملها، فضلاً عن أنّ معظم المواطنين غير مُعتادين على استخدام التطبيقات البنكية، وبعضهم ليس لديه حساب في أي بنك، ما يعني أنه لا يملك أن يستخدم تطبيقاً بنكياً، وبعضهم الآخر ليس لديه هاتف ذكي. نتيجةً لذلك استغلّ التجّار أزمة النقد، وتسبّب ذلك في تفاوت في الأسعار بين سعرَي الكاش وبنكك، فمثلاً يُباع جوّال السكّر (50 كيلو) بـ 109 آلاف جنيه سوداني بالكاش، وبـ 130 ألفاً بتطبيق بنكك. إضافة إلى ذلك، ارتفعت تكاليف ترحيل البضائع، خاصة أنها تأتي من مدن بورتسودان وعطبرة وتستغرق مُدداً طويلة، يمكن أن تصل في بعض الأحيان إلى 15 يوماً. أما أسعار السلع، فإنّ معظمها مقدور عليها، رغم ندرة بعضها مثل دقيق الذرة الأبيض الذي بلغ سعر المَلوة منه قبل بداية رمضان بيوم واحد 8 آلاف جنيه، ويبلغ حالياً 10 آلاف جنيه. ويُرجع سلطان ذلك إلى ضعف إنتاجية الذرة في موسم 2024 – 2025 نتيجةً لسيطرة قوات الدعم السريع على المنطقة مع بداية الموسم الزراعي.

وعلى غير العادة، لم تصنع أسرة سلطان هذا العام «الآبْري»، وهذه أول مرّة تستقبل فيها الأسرة الشهر الكريم من دون ذلك، كحال غالبية الأسر في المدينة. 

ويقول سلطان لمراسلة «أتَـر»، إنّ التكلفة الكلية لاحتياجات شهر رمضان في أقلّ تقدير تبلغ حوالي 12.600 جنيه يومياً بالنسبة للأسر التي تعتمد على الدخل اليومي، إذا كانت تستهلك الأساسيات فقط مثل كيلو واحد من السكر الذي يبلغ سعره 2.600 جنيه، وكركدي بـ 500 جنيه، وكيلو دقيق بـ 2.000 جنيه، وربع كيلو من اللحم بـ 3.500 جنيه، ورطل زيت بـ 3.000 جنيه، وزبادي بـ 1.000 جنيه، وبهذا الحساب تبلغ تكلفة الشهر حوالي 378 ألف جنيه سوداني، وترتفع مع ازدياد حجم الأسرة. هذا خارج ما يُشترى في الغالب قبل بداية الشهر مثل البصل والبهارات وغيرها من السلع.

بطبيعة عمله في السوق وامتلاكه تطبيق بنكك، يتعامل سلطان مع عدد كبير من عمال اليومية الذين يفضّلون التعامل بالكاش. وبحسب رصده، يَستبدل غالبية العمّال يومياً قرابة 20.000 جنيه لتغطية مصاريفهم اليومية. 

أحضرت أسرة سلطان غالبية احتياجاتها لشهر رمضان من مدينة عطبرة، لأنّ السلع هناك أقل سعراً بالمقارنة مع الأسعار في مدينة سنجة. وبحسب سلطان، فإنّ شراء السلع الأساسية كلّفهم ما يقارب 400 ألف جنيه سوداني، لم تتضمّن ما يُشترى يومياً أو أسبوعياً مثل الزبادي والدكوة واللحوم، وأشار إلى أنّ أسعار الفواكه والخضروات في مدينة سنجة، أقلّ من السلع الأخرى، وأرجع ذلك إلى أنها تُزرع في المدينة والقرى المجاورة لها.

بالنسبة لسلطان، فإنّ التغيرات التي حدثت هذا العام كثيرة، ورمضان هذا العام لا يشبه حاله في السنين الماضية، ويقول: «في الأعوام الماضية كان إفطار حيّنا «البرش» يضم حوالي 20 شخصاً، لكننا الآن 5 أشخاص فقط».

ولمواجهة غلاء الأسعار والأوضاع الاستثنائية التي فرضتها الحرب، تعمل عدد من المبادرات بسنجة في تجهيز إفطارات رمضان، منها مبادرة «شباب للخير»، التي أُسِّست منذ عام 2021. وتتكوّن عضويتها من مجموعة من شباب وشابات المدينة.

في الأعوام الماضية، كانت المبادرة توزِّع حقائب رمضانية تحتوي على سكر ودقيق وبصل وزيت وبليلة وغيرها من السلع الأساسية. لكن نسبة لظروف الحرب، وزيادة الأسعار، واضطرار غالبية الداعمين للنزوح إلى مناطق أخرى أو فقدانهم مصادر دخلهم، لم تتمكّن المبادرة هذه السنة من ذلك، واكتفت بتقديم إفطارات كل 5 أيام في رمضان، مُستهدفةً بها السجن والمستشفى والشوارع الرئيسة في المدينة.

وعلى الرغم من فقدانها مصادر تمويلها، لم تتوقّف المبادرة، وهي تعمل حالياً على جمع تبرّعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتمويل أنشطتها، كما يساهم أعضاء المبادرة، كُلٌّ بما يستطيع. وتقول عضو المبادرة هناء لمراسلة «أتَـر»، إنّ هناك أعضاء خارج السودان يرسلون مساهماتهم، ما مكّنهم من تنظيم أول إفطار في الخامس من رمضان، ويخطّطون لتنظيم إفطار آخر يوم السبت القادم الموافق 15 رمضان، وكذلك يوم 25 رمضان. على أن يكون الإفطار الختامي قبل العيد بيوم.

وتضيف أنّ وجبة الإفطار الواحدة تكلّف في العادة ما بين مليون ومليون و500 ألف جنيه سوداني؛ وتُرْجع تذبذب التكلفة إلى تقلّب الأسعار والأماكن المختلفة التي يستهدفونها بالإفطار، فضلاً عن شحّ السيولة النقدية.

السلعة الكمية السعر بالجنيه السوداني
السكّر 50 كيلو 130.000 (بنكك)
دقيق القمح 25 كيلو 44.000
العدس 20 كيلو 60.000
الزيت 36 رطل 95.000
الصلصة كرتونة 10.000
البليلة العدسيّة ملوة 10.000
البلح ملوة 10.000
دقيق الذرة ملوة 10.000
البصل ملوة 2.000
الكركدي ملوة 4.000
الزبادي رطل 1.200
اللحمة العجالي كيلو 16.000
الفحم كيس 1.000

أسعار السلع في مدينة سنجة خلال شهر رمضان

بورتسودان: تكافل أهلي ومبادرات للإفطار

تخرّجت مآب في كلية الطب قبل أشهر قليلة، لكنها لم تتسلّم شهادتها الجامعية بعد لتتدرّب في مجالها، وهي تعيش مع أسرتها النازحة من ولاية الخرطوم إلى بورتسودان، وتعمل بالتدريس (أون لاين) منذ تخرجها، لتساعد والدها الذي يعمل باليومية. هذا هو رمضان الثاني الذي تقضيه أسرة مآب في بورتسودان. وعلى الرغم من ارتفاع أسعار السلع، تتكافل الأسر في حي أمّ القرى الذي تقطنه أسرتها، إذ يتناول الرجال الإفطار في طرقات الحي، وكل يأتي بما يستطيع، وتتجمّع النسوة كل يوم في بيت إحداهنّ، فضلاً عن تبادلهنّ أصناف الأطعمة يومياً.

أما فتحي، المقيم في مدينة بورتسودان منذ سنوات، ويعمل في سوقها وينشط في عدد من المبادرات المجتمعية، فيصف المدينة بأنها الأغلى من حيث تكاليف المعيشة في السودان، ويقول إنّ جميع المستهلكات تُستورد أو تُجلب من خارج المدينة، حتى الخضروات التي كانت تُجلب سابقاً من دلتا طوكر، شحَّت بعد خروج الدلتا من دائرة الإنتاج بفعل سيول العام الماضي، ما فاقم من الأسعار.

وتبلغ قيمة الخضروات والفواكه في بورتسودان في اليوم الواحد لأسرة متوسطة، ما بين 5 و 10 آلاف جنيه سوداني. ورغم غلاء الأسعار مع قدوم شهر رمضان، يشهد سوق المدينة الكبير حركة إقبال واسعة على الشراء.

وتنشط جمعية شارع الحوادث ببورتسودان، التي أُسِّسَتْ في العام 2013، في تقديم الإفطار إلى المارّة بالطرقات والمستشفيات وداخليات الطلاب والسجون والخلاوي، والنازحين في عدد من دُور الإيواء والأحياء الطرفية بالمدينة. يقول أحد أعضاء المبادرة لمراسل «أتَـر» إنها النسخة الثانية عشرة من «مبادرة إفطار عابر سبيل»، وهو مشروع ثانوي من ضمن مشاريع أخرى للمبادرة، التي يتركّز عملها الرئيس في الحقل الصحّي.

وَضعت المبادرة خطّة وميزانية لشهر رمضان كاملاً، تُنشر في وسائط التواصل لاستقطاب التبرّعات، إذ يُسهم الجهد الأهلي بنسبة 80% من الحاجة المالية، وباقي التكلفة تُغطّيه بعض المؤسّسات والشركات الخاصة والحكومية، التي يتواصلون معها بخطابات رسمية من المبادرة. قال عضو المبادرة إنّ تكلفة رمضان هذا العام بلغت 72 مليون جنيه سوداني.

وتتواصل المبادرة في هذا المسعى مع المنظّمات والمبادرات الأخرى مثل «بروش الخير» و «كلّنا قيم» والخيّرين، لتحديد أماكن العمل، حتى لا يحدث تضارب، ولضمان تغطية أكبر مساحة من المدينة.

السلعة الكمية السعر بالجنيه السوداني
السكر 50 كيلو 125,000
دقيق القمح 25 كيلو 35,000
دقيق الذرة الأبيض ربع ملوة 12,000
البلح ملوة 48,000
البليلة العدسيّة كيلة 50,000
البليلة الكبكبي كيلة 50,000
الكركدي ملوة 48,000
العرديب ملوة 50,000
التبلدي ملوة 56,000
التوابل ـ 40,000
لحمة عجالي صافي كيلو 32,000
لحمة ضأن كيلو 28,000
بصل 9 رطل 35,000
زيت 10 كيلو 10,000

قائمة السلع التي ابتاعتها أسرة مآب قبل رمضان بأسبوع

القِطينة: دمار شامل واعتقالات غامضة وتردٍّ في الخدمات

لم تترك المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في القطينة بولاية النيل الأبيض سوى الرماد والخراب. تحوّلت المدينة إلى شبح، شوارعها خالية، منازلها مهجورة، وأشجارها محترقة. على طول طريق القطينة-الدويم، تنتشر بقايا سيارات قتالية محترقة، بينما تظلّ آثار المعارك شاهدة على معاناة السكّان الذين عاشوا أسوأ أيام حياتهم.

عند دخول مراسل «أتَـر» إلى المدينة، بدا الخراب جلياً في كلّ زاوية. سيارات المواطنين محترقة، الكافتيريات على الطريق الرئيس مهجورة، بعضها قُصف بالطيران الحربي، وأخرى تعرّضت للنهب من قِبل قوات الدعم السريع قبل انسحابها، واستُخدِمت لاحقاً نقاطَ ارتكاز. حتى المحاكم لم تَسلَم، ودُمّرت بالكامل وتحوّلت إلى رماد، بينما استُخدمت بعض المدارس مُعتقلات، وحُوِّل مقرّ السجلّ المدني إلى مركز عمليات قبل أن يُنهَب وتُحرَق وثائقه.

لم تنتهِ معاناة أهل القطينة حتى بعد دخول الجيش، فبينما كانوا يترقّبون عودة الأمن، وجدوا أنفسهم أمام حملة اعتقالات غامضة. في ليلة الخميس 6 مارس، داهمت قوة من الجيش أربعة منازل بحي 12، واعتقلت خمسة مدنيين واثنين من رجال الشرطة دون توضيح الأسباب. وعندما حاولت أسر المعتقلين البحث عنهم في السجون والمعتقلات، فوجئوا بأنّ أسماءهم غير موجودة في أي سجلّ رسمي، ما دفعهم إلى التوجّه إلى منزل قائد الجيش بالمدينة للاستفسار.

كان ردّ أحد قادة الجيش صادماً، عندما أكّد أنه لا علم له بهذه الاعتقالات وأنه لم يُصدِر أي أوامر بمداهمة منازل السكّان، متعهّداً بالتحقيق في الأمر. وبعد يومين من الاحتجاز، أُطلِق سراح المعتقلين مساء السبت، لكن بعد تعرّضهم لتعذيب وحشيّ. قال أحدهم لـمراسل «أتَـر»: «لا أعرف حتى الآن سبب اعتقالي. لقد ضُربنا بالسياط ضرباً مبرّحاً لدرجة أننا لم نتمكّن من أداء الصلاة، وأحدُنا أغمي عليه فور وصوله إلى منزله.»

في تطوّر جديد، كشف مصدر عسكري لمراسل «أتَـر» عن تلقّيهم أكثر من تسعة بلاغات حول عمليات اعتقال ومداهمات نفّذتها مجموعة أفراد مسلّحين باستخدام عربة قتالية، دون علم قادة الجيش بالمنطقة. وأبدى المصدر استياءه من هذه التصرّفات، معتبراً أنها تشكّل انتهاكاً خطيراً للانضباط العسكري، ما يثير تساؤلات حول مدى سيطرة القيادة على القوات الميدانية.

لم تقتصر الاعتقالات على السكّان، فقد أكّدت مصادر أمنية بالقطينة لمراسل «أتَـر» أنّ الجيش اعتقل ثلاثة من الكوادر الطبية بسبب استمرارهم في العمل بمستشفى القطينة التعليمي أثناء سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، حيث كانوا يقدّمون الخدمات العلاجية للمدنيّين. وبعد تحرير القطينة، زار مدير عام مستشفى القطينة التعليمي المنشأة، لكنه وجه بإغلاقها فوراً، ومنذ ذلك الحين لم تُستأنف الخدمات الطبية، ما ترك المرضى في مواجهة مصير مجهول.

إضافة إلى الدّمار والاعتقالات، تعيش القطينة أوضاعاً إنسانية كارثية، فالمدينة تعاني من انقطاع تامّ في التيار الكهربائي، ما زاد من معاناة السكّان في ظل ندرة الدواء. كما انقطعت شبكات الاتصال والإنترنت، ما جعل التواصل مع العالم الخارجي شبه مستحيل.

وفي ظلّ هذا الواقع القاتم، لم تتوقّف معاناة سكّان القطينة عند الاعتقالات وانهيار الخدمات، فقد شكا عدد منهم من تعرُّض منازلهم للنهب بعد دخول الجيش إلى المدينة، متهمين القوات المسلحة السودانية بسرقة ممتلكاتهم. ومع تصاعد شكاوى المواطنين، تبقى التساؤلات مفتوحة حول مدى قدرة السلطات على إعادة الاستقرار إلى المدينة، وهل ستتم محاسبة المتورطين في الانتهاكات، أم أنّ القطينة ستظل مسرحاً للفوضى وانعدام الأمن.

Scroll to Top