
«أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة».
من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.
استخرَجَ الدكتور محمد بخيت من شاغله الأكاديميّ بحي البرَكة «كرتون كسلا» في شرق النيل – وهو شاغلٌ سَكَنَ به الحيَّ وعاشَرَ أهلَه لشهور في العامين 2010 و2012 – تصوُّراً للتقسيم الاجتماعيّ غَيْر الذي كان استقرّ في الأدب السياسيّ تحت عنوان «التعدُّد» الإثنيّ، العِرقيّ، الثقافيّ، الدينيّ… إلخ. وجد الدكتور محمد في كرتون كسلا ما أرشَدَه إلى خريطةٍ أخرى غير الفسيفساء العِرقيّة الإثنيّة الدينيّة؛ خريطة تنشأ بالدرجة الأولى من تنوُّع سُبل كسب العيش، وبالدرجة الثانية من تحوُّل هذه السّبل عبر التاريخ المادّي؛ وهي بذلك مخروطٌ اجتماعيٌّ في الزمان والمكان، كائنٌ متحوّلٌ في التاريخ، وليست خريطةً صمَديّةً ساكنةً كما مفهوم الفسيفساء الذي أغشى البصائر. واقترب الدكتور محمد بخيت بهذا التصوّر من مفهوم «الطبقة الاجتماعيّة» كما عَنَّ للشيخ الإزيرق، المرحوم كارل ماركس، في المَلَجة الصناعيّة الإنجليزيّة خلال القرن التاسع عشر، المفهوم العسير على بساطته حتى أنّ صاحبه قَلَّبَ أوجُهَه بالتمحيص ألّا يُفلت منه بقرينة النظرة الأولى، في نوتة أخيرة من كتابه العظيم «رأس المال». وأوّلُ نظرةٍ باعثةٌ على الجنون، كما في شِعْرِ المرحوم محمد بشير عتيق، وليس الإفهام، «من أوّل نظرة، رشَقَتْني عيونو، جذَبَتْني فنونو، وبقيت مجنونو”، أو كما قال.
دخل أهل كرتون كسلا، ومايو، وسائر إقليم «الكُونِكا» الحضريّة، قاموس السياسة المعاصرة بعبارة الفسيفساء الصّمَديّة، العبارة التي زكّتها الحركة الشعبية لتحرير السودان، ونشوةُ الشّوكة تسري بقادتها، خلال أعوام الفترة الانتقاليّة لاتفاقيّة السلام الشامل (2005-2011) بينها وحكومة السودان. كان بعضُ وعدِ قادة الحركة الشعبيّة أنَّ شُغلَهم اكتشافُ اسمٍ وصوتٍ سياسيٍّ لهذا الجمهور الحضريّ الفائض، ورشَّحوا لذلك عبارة «المُهمَّشين» في مقابل «المركز» بوصفه ثوباً واسعاً يَشمل نازحين وغلابة. وأضاف عليهم المُرشّح الرئاسي ياسر سعيد عرمان، في تخريجٍ تالٍ، النساءَ والشبابَ، كيفما اتفق، وفئاتٍ أخرى بحسب ما واتته البلاغة. لكنْ، لم يَبلُغ هذا السّعي مدرجاً بعيداً؛ إذ تعَسَّر على قادة الحركة أن يَرْعوا ذمّة الفسيفساء التي قامت لنصرهم في مشاهد عظيمة، في استقبال الدكتور جون قرنق المهيب، ثم الليالي السياسيّة لحملة الزعيم ياسر عرمان «الأمل والتغيير» في أطراف الخرطوم، حتى نَطَّ نَطَّته الشّهيرة وسالت دموع شيعته المكلومة جداول. فضَّل قادة الحركة الشعبية، آخرَ الأمر، سلامةَ القوميّة الجنوبيّة على هذا «اللَّمُوم» مطموس الهويّة. وتيَتَّم «المهمّشون» في سوقٍ سياسيّةٍ لا تسير فيها عُمْلتُهم إلا أن يكونوا أجساداً مُقاتِلة. بل قَلَبَ قادة الحركة، وقد قامت دولتُهم كنزُ الفرح، ظهرَ المِجَنّ، وبِسْراع، لكلِّ مَن لم يَلحق بركب القوميّة الجنوبيّة، وإنْ كان جنوبياً ود جنوبيّة، وظلّ في محطّة «سودان جديد، وِييي»، ينتظر غودو التي تأتي ولا تأتي، كغَشِيم لم يفهم من حرب التحرير شيئاً.
وربما كان منشأ الصعوبة التي حالت دون أن يكشكش سَطْل المهمّشين بقوّة؛ أنَّ مثل الهُجنة التي تفرَّغ لدراستها الدكتور محمد بخيت في كرتون كسلا، وأدهشت من قَبْله الدكتور عبده سيمون في مايو بروحيّتها الكونيّة من جاكرتا إلى داكار، تتمنَّع على الترجمة السياسيّة في صورة الفسيفساء الساكنة، زنج وعرب وما بينهما؛ فتعشيقتها ليست أوتوماتيك، فَوْوْو! فما هي إذن أبعاد هذا المخروط الحادّ كما تلمّسه الدكتور محمد بخيت عن قرب في دراسته الإثنوغرافيّة؟ لهذا الغرض، عاد الدكتور محمد بخيت إلى ساعة الأزمة الطاحنة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، منشأ الكُونِكا الواسعة، وفيها تلازَمَت كوارث أخذت بخناق بعضها البعض: الجفاف القارّيّ العظيم الذي ضرَب سهول كردفان ودارفور وتلال البجا، الحرب الأهليّة في جنوب السودان، وكساد اقتصاد القطن في السهل الزراعيّ الوسيط الذي كان قوام الدولة المركزيّة.
استقبل حضَرُ الخرطوم الغارق في الكساد أفواجاً غالبةً ممّن تقطّعت بهم سُبل العيش، وحينها لم تكن قدرة اقتصاده الصناعيّ، وهو موقع استقبال الأيادي العاملة، تعمل بأكثر من 30% من طاقتها المحدودة أصلاً. نافَسَ القادمون الجددُ سابقين في المسغبة. وكانت السُّلطات في أول السبعينيات قد نقلت من تقطّعَت بهم السّبل داخل المدينة، من كرتون الخرطوم ثلاثة، وعِشَش فلّاتة، وكرتون سوبا، إلى جهة مايو. كذلك نقلت حوالي عشرين ألفاً من النفوس من المنطقة الصناعيّة إلى جهة الحاج يوسف التي جرى تقسيم أصلها إلى ثلاثة آلاف قطعة سكنيّة.
نشأ كرتون كسلا فائضاً عشوائيّاً على حي الحاج يوسف؛ حي «الوحدة الوطنية» الجديد. ثم أجرى المخطِّط الحضريّ قلَمَه على كرتون كسلا في 1992-1994 إلى مربّعات، يضمّ كلٌّ منها 10-18 قطعة سكنيّة، بينها ميادين صغيرة، وتتوسّط كلّ وحدة منها منطقة خدميّة، فانقلب الكرتون إلى حي البرَكة. لكنْ لم يكن هذا الانقلاب محض مكر لغويّ كيزانيّ كما يبدو من أول وهلة. الواقع أنّ النعت الجديد وافَقَ تقسيماً باطنياً بين أهل كرتون كسلا، هو تدرُّجٌ في التقاط أشاير السوق في السياق الحضريّ؛ والكُونِكا إذن ليست لُجَّةً فقط إنما لها شاطئ ومَدّ وجَزْر. من علامات ذلك في شغل الدكتور محمد بخيت ما استفاده من تكنولوجيا البناء في حي البركة؛ إذ أثبَتَ تزاوجاً بين المهارات التي جاء بها النازح والمهارات التي تعلَّمَها من البيئة الحضرية المُحيطة، بخاصة من نشأ في حي البركة حدثاً لا يعرف غيره موطناً، وذلك على شفرة ما يفوز به من دَخْل، أي نجاحه في حصاد ما تطرحه عوامل السوق من فُرَص. تشمل دورةُ الحياة في حي البركة التحضيرَ لموسم الأمطار، وذلك في مايو/ يونيو، فتنشغل الفئات العاملة بتأهيل جدران البيوت بكسوة جديدة من «الزِّبَالة» على طوب أخدر، وتجديد الأسقف من الحطب والقنا. فرَز الدكتور محمد بخيت فئةً بلغت بها المقدرة، أنْ كَسَت الجدران طبقة رقيقة من الأسمنت على باطن من الطوب الأخدر فبدت ظاهراً كأنها من طوب أحمر، سهم «العبور» إلى الطبقة الوسطى. ثم برزت فئة جديدة أقلّ عدداً دخلت بالتقيل فجاءت بالطوب الأحمر والأسمنت المسلّح عديل. وقال الدكتور محمد بخيت: زادت هذه الفئة المُنتصِرة عدداً خلال سكناه حي البركة، واتخذ هذا التحوُّل دلالة على الرفاه. هذا بينما ظلَّ سواهم من أهل الحي على سترة رقيقة من رواكيب الخَيْش والأكياس في قطع سكنيّة خالية من البناء أو في جوار بيوت قائمة. لا تحيط قطع الفسيفساء في حساب الدكتور محمد بخيت بهذا التحوّل، الذي عَدَّه تباعداً بين «فقراء» و«أغنياء»، سبق بعضُهم بعضاً وقد كانوا في مِيس واحد.
أما عوامل السوق، التي قام عليها هذا التباعد، فقد جمَعَها الدكتور محمد بخيت تحت عنوان «الاقتصاد غير المنظَّم»، ونقَل عن الدكتورة سارا بانتوليانو تقديراً من إحصاء المنظّمات غير الحكوميّة الغربيّة في العام 2011، يقول إنّه استوعب 45% من القوى العاملة في حضر الخرطوم. في المقابل، يطرح «الاقتصاد المنظَّم» فرصاً محدودةً للعمل بأجر في المستويات الدنيا من القطاع الحكومي، بالدرجة الأولى كجنود في الجيش أو البوليس، أو كعمّال غير مَهرة في القطاع الصناعي. وجاء الدكتور محمد بخيت ببيانٍ على فضل «الاقتصاد غير المنظَّم»، وقال إنّ قدرته الاستيعابيّة غير محدودة، ويُتيح سلّماً للترقّي يتحوَّل به الكرتون إلى برَكة. وإشارة النجاح فيه هي استطاعة البعض التجريب بين نشاطٍ وآخر من نشاطات التجارة الصّغيرة، والضّعيف يقع والسّمين يقيف. يتراكم طالبو الرّبح حول نشاط واعد، التجميل «قَدِّر ظروفك» مثلاً، حتى تكسد أرباحه، فتلتقط شاطرةٌ، فاردةً نشاطاً جديداً أوفر ربحاً، تحويلَ الرصيد مثلاً، حتى يكسد بتراكم المُنافسين، وهكذا دواليك. هذا، بينما اعتمدت فئةٌ أخرى، من نساء الحيّ اللائي خَبُرن الزراعة في مواطنهنّ، على العمل المأجور في المزارع القريبة، واعتمدت غيرهنّ على مهارات منزليّة مثل صناعة الطعام وبيعه لجمهور السوق، وصناعة الخمور وبيعها، تلك التي ساءت الدكتور حسن مكي. إذن، كشَف الدكتور محمد بخيت، تحت عارض فسيفساء التعدّد تلك، عن علاقاتِ عملٍ نَجَم عنها تباعدٌ بين «أغنياء» و«فقراء»، بلغ هؤلاء القيفَة وكابَدَ أولئك الغرق.