
منذ وصول مُتحرّك الصياد إلى مدينة الأبيّض، في 23 فبراير الماضي، تعيش المدينة التي انفكّ حصارها من الجهة الشرقية، على وقْع قصفٍ مدفعيٍّ مُتواصل من قِبَلِ قوات الدعم السريع ألحَقَ أضراراً جسيمة بالمدنيّين، دون أن يصيب أهدافاً عسكرية.
وبحسب مصدر طبي تحدّث لـ «أتَـر»، فإنّ عدد الضحايا والمصابين جراء القصف غير مُحدَّدٍ بدقة، نظراً إلى أن كثيراً من القتلى يُوارون الثرى دون وصول جثثهم إلى المشرحة، لكنه يقدِّر أنّ عدد القتلى منذ 23 فبراير الماضي، قد تجاوز الخمسين. وأصابت قذائف الدعم السريع المدفعيّة أعياناً مدنيةً مثل مُجمَّع عمارة عبد الظاهر التسويقي، ومباني المجلس التشريعي، وهي منشآت تقع وسطَ المدينة، ما يَلفت إلى أنّ التصويب كان من مسافات قريبة.
ظلّت مدينة الأبيض، حاضرة ولاية شمال كردفان، تحت حصار قوات الدعم السريع قرابة العامين، وتعرّضت لموجات من القصف المتوالي، وبها مقرّ قيادة الفرقة الخامسة مشاة الشهيرة بـ «الهجّانة». وهي مدينة ذات أهميّة تاريخية وجغرافية حتى في حرب 15 أبريل، تكمن في أنها تقع في تقاطع عدة طرق تربط غرب السودان بوسطه: طريق (الأبيض – بارا – أم درمان)، طريق (الأبيض – أم روابة – كوستي – الخرطوم)، طريق (الأبيض – النهود – الفاشر)، وبها مطار جوي ومستودعات للبترول ومصفاة لتكرير النفط أُسِّست عام 1996. وتتمتّع المدينة بثقلٍ اقتصادي، وبها واحدة من أكبر بُورصات المحاصيل الزراعية كالسمسم، والدخن، والكركدي، وحَبّ البطيخ، والفول السوداني والصمغ العربي، فضلاً عن كونها أحد أسواق الثروة الحيوانية. وهي مدينة تجارية، وبها عدة أسواق أبرزها سوق أبوجهل، وسوق فور، وسوق الصالحين، وسوق أب شرا، وسوق الناقة، وسوق كريمة شمال، والسوق الكبير.
فكّ الحصار من جهة واحدة
انخفض سعر جالون البنزين من 100 ألف جنيه إلى 18 ألف جنيه، والجازولين من 45 ألف جنيه إلى 16 ألف جنيه
بوصول مُتحرّك الصياد إلى غابة شيكان، تحقَّق أحد أهم الأهداف، وهو فكّ الحصار عن المدينة من الناحية الشرقية، ما يعني اتصالها بوسط البلاد، ووصول السلع الغذائية والإمداد العسكري إليها، لتُضحي مسنودة بقدرات عسكرية مُتجدّدة، فضلاً عن ثقلها التاريخي باعتبارها مدينة تجمّعت فيها قوات الثورة المهدية بقيادة الإمام المهدي في أواخر القرن التاسع عشر.
وسهَّل وصول المتحرّك وتأمين الطريق القومي من وصول الوقود وانخفاض أسعاره. وبحسب مصدر بوزارة المالية الولائية تحدث لـ «أتر»، وطلب حجب اسمه، فإنّ 11 تانكر بسعة 10 آلاف جالون من الوقود قد وصَلت مع المتحرّك، لتستقبل المدينة أكثر من 110 آلاف جالون، وتعود على إثر ذلك ما بين 5 و6 محطات وقود للخدمة. واستقبل الجمهور عودة صفوف الوقود بكثير من الغبطة.
وقد انخفض سعر جالون البنزين من 100 ألف جنيه إلى 18 ألف جنيه، والجازولين من 45 ألف جنيه إلى 16 ألف جنيه، وانتظمت حركة المواصلات في جميع أنحاء المدينة، خاصة في الأحياء الغربية.
كما انخفضت أسعار السلع الأخرى إلى نصف أسعارها قبل فكّ الحصار. ورصد مراسل «أتَـر» أثناء جولته داخل سوق الأبيض، انخفاض سعر جوال دقيق القمح زنة 25 كيلو إلى 36 ألف جنيه، بعد أن بلغ سعره أثناء الحصار 78 ألف جنيه. وانخفض جوال السكر زنة 50 كيلو من 180 ألف جنيه إلى 165 ألف جنيه، وجوال البصل (30 ملوة) من 180 ألف جنيه إلى أقل من 50 ألف جنيه. وجوال الذُّرة الفيتريتا (30 ملوة) من 205 آلاف جنيه إلى 110 آلاف جنيه، وجوال الدخن (30 ملوة) من 360 ألف جنيه إلى 180 ألف جنيه، مع ثبات بعض أسعار السلع مثل الشاي والبن، 8 آلاف جنيه، و9 آلاف جنيه على التوالي.
رغم ذلك، وبسبب توقّف طريق النهود الغربي الذي يمدُّ المدينة بالحبوب الزيتية، ارتفعت أسعار بعض السلع الأخرى مثل زيت الفول الذي بلغ سعر الجركانة الكبيرة (36 رطلاً) منه 103 آلاف جنيه بعد أن كان سعرها 60 ألف جنيه. وقد وصل تبعاً لذلك سعر طن الفول السوداني من 750 ألف جنيه إلى مليوني جنيه.
ولا تزال المدينة مُحاصرةً من الناحيتين الغربية والشمالية، لتخرج تبعاً لذلك طرق النهود وأم كريدِم وبارا عن الخدمة. فانقطعت عن المدينة السلع المحلية، كما أنّ تلك المناطق لم تعد في حاجة إلى سوق المدينة لإمدادها بالسلع الغذائية، التي باتت تصلها من سوق النعام في جنوب السودان.
لكن أنباء متداولة داخل الأبيّض، تفيد بأنّ قائد قوات الدعم السريع بمدينة بارا قد أفرَج يوم 16 مارس عن 75 سجيناً وسمح بدخول عربات الخضار (التاكسي) إلى الأبيض.
الوضع العسكري حول المدينة
وبطبيعة التضاريس والمناخ، ليس بإمكان نطاق الساڤنا الفقيرة شاسع المساحة في الولاية، أن يستر تجمّعات قتالية كبيرة، في ظلّ وجود مدفعية مضادّة، إضافة إلى إحداثيات الطيران التي باستطاعتها تحييد أي آليات قتالية مهما كانت فاعليتها، ما أفشل الهجوم البرّي على مدينة الأبيّض خلال 23 شهراً من عمر الحرب الدائرة في البلاد. وبعد فكّ الحصار من الجهة الشرقية للأبيض، تُحاول قوات الدعم السريع تعويض فشلها في التقدّم على الأرض بالتدوين المتواصل على المدينة، عقب فتح الطريق القومي بعد تحرير مدينتي أم روابة والرهد على الطريق القومي الرابط بين ولايتي شمال كردفان والنيل الأبيض.
تداعت قبائل دار حامد للقتال ضدّها حسب بيان الصادر عن اتحاد القبيلة التي تسيطر على أجزاء واسعة من شمال كردفان وغربها، وذلك عقب الأحداث التي وقعت في منطقة أم كريدِم شمال الأبيض
وأخرج الجيش آلياته الثقيلة إلى الناحية الغربية من المدينة، مُستهدفاً تجمّعات الدعم السريع بالقذائف المدفعية، إضافة إلى قصف الطيران الحربي مدفعاً متحرّكاً في منطقة أم عردة جنوباً على الطريق بين الأبيّض والدِّبيبات.
وحشدت الدعم السريع قواتٍ كبيرة في قرىً تقع غرب المدينة وجنوبها، قبل أن تمضي في سراب الصحاري الكردفانية؛ فقد تداعت قبائل دار حامد للقتال ضدّها حسب بيان الصادر عن اتحاد القبيلة التي تسيطر على أجزاء واسعة من شمال كردفان وغربها، وذلك عقب الأحداث التي وقعت في منطقة أم كريدِم شمال الأبيض، فقد كوّن الاتحاد حسب ما جاء في البيان الصادر في 11 مارس الجاري، ووجَّهه إلى عموم أهل القبيلة حاثاً إياهم على فزع أهلهم في أم كريدِم، وناشد أهلها تنظيمَ أنفسهم والاقتصاد في ما سمّاه البيان «موارد الحرب». وذكر شاهد عيان لمراسل «أتَـر» أنّ قوات الدعم السريع قد أُجْبِرَتْ على الخروج من أم كريدِم إلى مسافة بعيدة داخل الصحراء، وهو الواقع الذي تودُّ اجتنابه بجميع السبل لأنه يجعلها مكشوفة.
انفلات أمني في الولاية
لكن رغم ذلك، لا تزال مدينة الأبيّض، التي خرجت من حصارها الطويل، تُعاني من صعوبة وصول وسائل النقل إليها حسب محمد يوسف سائق من مدينة شركيلا التابعة لمحلية أم روابة، الذي قال لمراسل «أتَـر»، إنّ حالات الانفلات الأمني قد حدَّت كثيراً من حركة النقل والمواصلات. وأضاف يوسف أنّ الانفلات الأمني بدأ مع انتشار الدعم السريع في الولاية في أغسطس 2023، واستمرّ مع تقدّم الجيش ووصوله إلى مدينة الأبيض في فبراير الماضي.
وكانت الدعم السريع تفوّج شاحنات البضائع دَورياً على الطريق القومي بين ود عشانا والأبيّض مقابل مبالغ مالية باهظة تتحصّلها من السائقين، وهو ما يقوم به الجيش بعد سيطرته على المنطقة أخيراً وفتح الطريق رسمياً أمام حركة المركبات، بحسب ما أفاد يوسف.
ويقول سائق يعمل بالطريق بين تندلتي وأم روابة، فضّل عدم الكشف عن هويته لدواعٍ أمنية، إنّ الأجهزة الأمنية تفوّج المركبات يومياً في ساعات الصباح بين الأبيض وتندلتي، وهو ما حدّ أخيراً من انتشار عمليات السطو التي كانت تؤرّق السائقين.
أصبحت مركبات النقل العام تتحرّك في مجموعات كبيرة وفي أيام معيّنة من الأسبوع بين القرى والأسواق من أجل توفير مزيد من الحماية من حالات النهب
ويشير السائق إلى حالات سطو وابتزاز حدثت لبعض المركبات التي تتحرّك في أوقات متأخّرة من اليوم، بعد توقّف الطوف العسكري الذي درَج على تأمين حركة النقل في أوقات معيّنة. وتحدث حالات النهب تحت تهديد السلاح، سواء أكان في الطريق القومي أم الطرق الترابية، من قِبل أفراد يرتدون أزياء عسكرية تتبع للأجهزة النظامية أو الدعم السريع.
ويقول سكّان محليّون، بولاية شمال كردفان، إنّ مركبات النقل العام أصبحت تتحرّك في مجموعات كبيرة وفي أيام معيّنة من الأسبوع بين القرى والأسواق من أجل توفير مزيد من الحماية من حالات النهب.
ويقول سائق مركبة نقل متوسّطة، يعمل بين مدينة الدِّبيبات بولاية جنوب كردفان ومدينة الأبيّض، إنّ اللصوص أقاموا 23 ارتكازاً على الطريق الذي كان يوجد به قبل الحرب ارتكازان فقط، أحدهما للجيش والآخر للشرطة.
وبعد وصول الجيش إلى مدينة الأبيّض، منَعت الدعم السريع، التي تسيطر على مدينة الدِّبيبات وأجزاء أخرى من ولاية غرب كردفان، حركة المواصلات والنقل بين الدِّبيبات والأبيّض، وهو ما ضاعف من معاناة السكّان.
وعلى الطريق الرابط بين مدينتي النهود والأبيّض وطوله حوالي 210 كيلومترات أقيم ما يزيد عن 19 ارتكازاً، لجهاتٍ بعضها أهلية وبعضها لصوص وقطّاع طرق، وهو ما جعل الطريق خارج الخدمة.
ويقول سائق من النهود، إنّ الشاحنات توقّفت عن الحركة نحو الأبيّض، قبل قرار الدعم السريع في أكتوبر 2024 بمنع نقل السلع إلى مناطق سيطرة الجيش. وأخبر السائق «أتَـر» بأنّ عمليات السطو على السلع المنقولة وعلى الركّاب، والجبايات الباهظة، أجبرت المواطنين على التخلّي عن الحركة.
كذلك توقفت الحركة على طريقَي: أم كريدِم – الأبيّض، وبارا – الأبيّض، بسبب منعها من قِبل الدعم السريع التي ما زالت تبسط سيطرتها على محلية بارا ومناطق أخرى شمال مدينة الأبيّض وشرقها.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها «أتَـر»، فإنّ مدينة الأبيّض لم تعد وجهةً مناسبةً لوسائل النقل لأنها لم تعد المورد الأساسي للسلع والمواد الغذائية والمحاصيل الزراعية، التي أصبحت تمرّ عبر سوق النعام الواقع على الحدود مع دولة جنوب السودان.
ولجأت وسائل النقل لاستخدام الطُّرق غير المرصوفة بحسب قول السائق الجنيد التهامي، من قرية الربيطة بشمال كردفان، لكن حتى هذه الطرق أصبحت تتعرّض لهجمات قطّاع الطرق والعصابات المسلحة. وفي يناير الماضي استولت مجموعة قبَلية مسلّحة على ما يزيد عن 450 رأساً من الخراف كانت محمّلة في ناقلتين في طريقهما من شرق الأبيّض إلى مدينة تندلتي بولاية النيل الأبيض. ويقول أحد الرعاة الذين كانوا يرافقون الخراف لـ «أتر»، إنّ المجموعات القبَلية المسلحة ادّعت أن الخراف تتبع للدعم السريع، ولم تُفِد المستندات والأوراق الرسمية، التي تؤكّد أنّ من يملكها هو شخص معروف يعمل في تجارة المواشي.