أتر

أن تكون سودانياً في ليبيا: ملاذٌ أم جحيمٌ آخر؟

على أطراف طرابلس، وفي ممرّات بنغازي، وبين رياح مدينة البيضا الساحلية الباردة، يتنقّل النازحون السودانيون بحذر، يحسبون خطواتهم، ويرقبون المجهول. لم تكن ليبيا حلماً لهؤلاء يوماً، ولم تجلبهم إليها غوايات العمل والأجور العالية على غرار من سبقوهم خلال العقود الماضية؛ لكنها كانت خياراً. خيارٌ فرضته عليهم الحرب، ودفعتهم إليه الفاقة، وعمّقته الأزمة التي تضيق بالسودان وأهله. ليسوا لاجئين بالمعنى الرسمي، ولا مقيمين بالمعنى القانوني، هم فقط عابرون عالقون في بلد يواجه أزمته الخاصّة، لكنه يحمّلهم تبعاتها كما لو أنهم أسبابها، لا ضحاياها.

شهدت ليبيا، في الأشهر الأخيرة، تصعيداً غير مسبوق في عمليات ترحيل المهاجرين غير الشرعيّين، مدفوعة بموجة من السخط الشعبي والسياسي تجاه تنامي وجود الأجانب.

 في فبراير 2025، أعلنت السلطات الأمنية في مدينة الكُفرة الليبية، المتاخمة للسودان وتشاد ومصر، عن ترحيل 121 مهاجراً يحملون الجنسية التشادية، تنفيذاً لتعليمات مباشرة من جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، الذي كثّف من جهوده لإعادة تشكيل المشهد الديموغرافي في ظلّ ما يعدّه البعض «غزواً غير منظم» للأراضي الليبية. ولم تقتصر حملات الترحيل على التشاديين، بل امتدّت لتشمل المهاجرين من السودان والنيجر ومصر، وقد نُفّذت عمليات الترحيل عبر المنافذ البرية والجوية، في تنسيق مباشر بين الحكومة الليبية وسفارات الدول المعنية. وفي يناير من العام ذاته، أطلق وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية، عماد الطرابلسي، تحذيراً صارماً بأنّ ليبيا قد تلجأ إلى «الترحيل القسري» ما لم يتدخّل المجتمع الدولي لدعم عمليات العودة الطوعية.

بين رَحَى المصالح السياسية

كان السودانيون، بوجه خاصّ، من بين الفئات الأكثر تأثراً بهذا التصعيد، وقد استهدفتهم الحملات الأمنية بلا تمييز واضح بين المقيمين منهم على نحو قانوني والمهاجرين العابرين نحو أوروبا. أثار هذا الالتباس مخاوف داخل الجالية السودانية، ودفع السفارة السودانية في طرابلس إلى التدخّل لمحاولة تقليل الخسائر الإنسانية والسياسية لهذه الأزمة.

 في خطوة دبلوماسية حذرة، تمكّنت السفارة من تأمين الإفراج عن 36 سودانياً كانوا محتجزين في مراكز الإيواء الليبية، وذلك بعد مفاوضات مباشرة مع جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية. كما كُلِّلت جهود لجنة السجون، التي أنشأتها السفارة، بالإفراج عن 62 سودانياً إضافياً في 13 فبراير الماضي، ضمن مَساعٍ مستمرّة لتخفيف وطأة هذه الإجراءات على السودانيين المقيمين في ليبيا. وفي محاولة لاحتواء التوتر، التقى نائب السفير السوداني، نصر الدين عبد الله، مع رئيس مصلحة الجوازات والجنسية الليبية، اللواء يوسف مراد. وأكّد الجانب الليبي استعداده لتقديم التسهيلات اللازمة للجالية السودانية، مع إبقاء باب المفاوضات مفتوحاً حول أوضاعهم القانونية والهجرية.

لا يمكن فصل هذه الإجراءات عن الضغوط الأوروبية المُتزايدة؛ فلطالما شكّلت ليبيا بوابة رئيسةً للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، وقد وجدت نفسها تحت ضغط مستمرّ من الاتحاد الأوروبي لكبح هذه التدفّقات، ما يدفعها إلى اتخاذ إجراءات صارمة في حقّ المهاجرين

يمكن قراءة هذا التصعيد ضمن إطارٍ أوسع من التعقيدات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعصف بليبيا. مع ارتفاع معدلات البطالة، يرى كثيرٌ من الليبيين في المهاجرين غير الشرعيّين منافسين مباشرين على فرص العمل والخدمات الأساسية، ما يعزّز الغضب الشعبي تجاههم. وعلى خلفية التدهور الأمني، ومع انتشار المليشيات المسلّحة، وتراجع سيطرة الدولة المركزية، تنظر السُّلطات الليبية إلى المهاجرين غير الشرعيين عنصراً محتملاً لزيادة الفوضى الأمنية، لا سيما مع مخاوف من تسلّل عناصر متطرّفة أو إجرامية بين صفوفهم.

في الوقت ذاته، لا يمكن فصل هذه الإجراءات عن الضغوط الأوروبية المُتزايدة؛ فلطالما شكّلت ليبيا بوابة رئيسةً للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، وقد وجدت نفسها تحت ضغط مستمرّ من الاتحاد الأوروبي لكبح هذه التدفّقات، ما يدفعها إلى اتخاذ إجراءات صارمة في حقّ المهاجرين. يلتقي هذا الضغط الخارجي مع هواجس داخلية ذات طابع ديموغرافي، إذ يخشى بعض الليبيين أن يؤدّي تزايد أعداد المهاجرين من دول الجوار، مثل السودان وتشاد والنيجر، إلى تغييرٍ في التركيبة السكانية، ما يعمّق المخاوف من «استيطان غير رسمي» قد تترتّب عليه صراعات اجتماعية مستقبلية. وإلى جانب ذلك، فإنّ انتشار العمالة غير النظامية يخلق حالة من الفوضى الاقتصادية، لأنه يؤثر في سوق العمل الرسمية، ما يزيد من استياء المواطنين الليبيين الذين يواجهون صعوبات في إيجاد وظائف مستقرّة برواتب مناسبة.

وللحرب في السودان دَور في تعقيد المشهد، فقد أدّت إلى تدفّق أعداد متزايدة من اللاجئين السودانيين إلى ليبيا، ما زاد من العبء على السّلطات الليبية، بينما تؤثّر العلاقة السياسية المتوترة بين البلدين على تعامل السُّلطات في ليبيا مع الجالية السودانية. ما يحدث في ليبيا ليس محض إجراء أمنيّ عابر، إنما هو انعكاس لتعقيدات داخلية وخارجية تتشابك في نسيج شديد التعقيد. فبينما تُحاول الحكومة الليبية الاستجابة للضغوط الشعبية وإعادة فرض سيطرتها على ملفّ الهجرة، تظلّ هذه الإجراءات مرتبطة بمعادلة دولية أوسع، إذ يمارس الاتحاد الأوروبي دَوراً خفياً في توجيه سياسات ليبيا تجاه المهاجرين، بينما تقف الدول المصدّرة للمهاجرين، مثل السودان، في موقف لا يخلو من الحرج بين الدفاع عن رعاياها والحرص على إبقاء علاقاتها مع ليبيا متوازنة. وفي ظلّ غياب حلّ مستدام لأزمة الهجرة في ليبيا، يبقى المهاجرون – ومنهم السودانيون – معلّقين بين رحى المصالح السياسية، دون أفق واضح يضمن لهم الاستقرار أو حتى الحدّ الأدنى من الحقوق الإنسانية.

من جحيم إلى جحيم

لا شيء يشبه الليل في طرابلس. ظلامٌ ثقيل يلفّ الأزقة، تتناثر فيه خطوات متردّدة، تخشى أن يوقفها رجل الأمن بسؤال واحد: «أوراقك؟». لا أحد يملك إجابة، لا أحد يملك أوراقاً. لا أحد يملك يقيناً بأنه سيعود إلى سريره تلك الليلة.

العبور إلى ليبيا ليس رحلةً، إنما مُغامرةٌ لا أحد يضمن النجاة منها. في الصحاري الفاصلة بين السودان وتشاد وليبيا، تتوزّع جثثٌ بلا أسماء، وأحلامٌ لفظت أنفاسَها الأخيرة تحت وطأة العطش والجوع. من نجا من الرّمال، وقع في قبضة عصابات التهريب، فلا فرق هنالك بين البشر والبضائع، بين الراكب والشحنة.

مصطفى، شاب في الثانية والعشرين، لم يكن يحلم بأوروبا، إنما أراد أن يصل إلى ليبيا حياً. يقول لمراسل «أتر»: «حين دخلنا مدينة سَبْها، احتُجِزنا في غرفة صغيرة. كنّا ثلاثين شخصاً بلا ماء، وبلا طعام، ولا أمل. دفع أخي فديةً ليطلقوا سراحي، لكن هناك من ظلّوا في المُحتجَز، لا أعرف إن كانوا قد خرجوا أم لا».

وليست النجاة من الصحراء إلا بداية الجحيم. في طرابلس، وبنغازي، ومدن أخرى، يواجه السودانيون معضلةً لا حل لها: الإقامة. لم تكن ليبيا يوماً صديقةً للعمالة المهاجرة، لكنها اليوم أشدّ قسوة. قرارات الحكومة تُحكِمُ الخناق على الوافدين، وحملات الاعتقال لا تُفرّق بين من دخلوا تهريباً ومن أمضوا سنوات يعملون ويعيشون في البلاد. كلّ ما يقتضيه الأمر، حاجز تفتيش، سؤال واحد عن الأوراق، ثم الرحلة نحو مراكز الاحتجاز التي لا يعود منها كثيرون.

لا شيء يشبه الليل في طرابلس. ظلامٌ ثقيل يلفّ الأزقة، تتناثر فيه خطوات متردّدة، تخشى أن يوقفها رجل الأمن بسؤال واحد: «أوراقك؟». لا أحد يملك إجابة، لا أحد يملك أوراقاً. لا أحد يملك يقيناً بأنه سيعود إلى سريره تلك الليلة.

موسى يوسف، عامل بناء جاء من الفاشر، بعد عام من الحرب، ظنّ أن البحر المتوسّط قد يبتلع مأساته، لكنه وجد نفسه في مدينةٍ لا تمنح سوى التعب. «أعمل 12 ساعة يومياً مقابل 50 ديناراً (حوالي 10 دولارات أمريكية)، بالكاد تكفي لسدّ الرمق»، يقول موسى لمراسل «أتر»، ثم يصمت، كأن الحساب يؤلمه أكثر من العمل. لا شيء يكفي، ولا خيارات متاحة سوى أن يمضي، ليخرج مع الفجر، ويعود مع الغروب، مُتجنّباً الطرق الرئيسة، ويتفادى السير في مجموعات، كأنّ الحركة وحدها صارت فعل نجاة.

محمد الطيب، 27 عاماً، لم يكن حظّه أفضل. يعمل في مخزن بضائع، يتقاضى 600 دينار شهرياً، لكنه لا يملك غرفة ينام فيها، المخزن هو مسكنه، ووجبتان في اليوم هما الحدّ الفاصل بينه والجوع. ومع ذلك، حين طالب بأجره المُتأخّر ثلاثة أشهر، كان الرد قاسياً: «إن لم يعجبك، فابحث عن مكان آخر». لكن محمد يعرف، كما يعرف موسى، ألّا مكانَ آخر.

لم تكن ليبيا ملاذاً، بل قفصاً آخر. السوداني الذي يصل إليها، لا يجد فرصاً، إنما فخاخ. عقود العمل نادرة، والحقوق غائبة، والمُساومة على الأجور أمرٌ يومي. هنا، لا فرق بين من يهرب من الرصاص ومن يسقط ضحية الاستغلال. كلاهما يبحث عن مخرج، ولا يجده.

ليست قصّتا موسى ومحمد سوى لمحة من معاناة آلاف السودانيين الذين فرّوا من أهوال الحرب ليجدوا أنفسهم في مواجهة واقعٍ قاسٍ، حيث الفقر وانعدام الأمان والخذلان. كل شيء في صمت، العمل بلا ضمانات، بلا تأمين، بلا عقود، وأحياناً بلا مُقابل. من يعترض، يكون مصيره الطرد أو التبليغ عنه باعتباره «مهاجراً غير شرعي». في ليبيا، أن تكون سودانياً يعني أن تعمل في صمت، وتأكل في صمت.

والبيوت في ليبيا متاهاتٌ من الجشع والمساومة والخوف. لا عقود تحمي المُستأجِر، ولا قوانين تردع المالك، إنما هي سوقٌ مفتوحةٌ للنهب والاستغلال. والسودانيون، كغيرهم من المهاجرين، يدفعون أضعاف ما يدفعه الليبيون لقاء غرفٍ ضيقة، أو شققٍ تآكلت جدرانها، بالكاد تقي من المطر.

حين يصبح الصمود عملاً شاقّاً

في مايو الماضي، عبر عثمان إبراهيم الصحراء ليصل إلى طرابلس، يحمل أطفالاً ثلاثةً وأملًا هشّاً في أن تمنحه الحياة فرصة جديدة. كان يظنّ أن إيجاد عمل سيكون سهلاً، كما قيل له، لكنه اكتشف سريعاً أنّ المدينة لا تُعطي، بل تَسرق من الروح والجسد.

عثمان، الذي كان معلماً في مدارس الخرطوم بحري، لم يجد أمامه سوى مكنسة و«جردل» ماء، وراتباً بالكاد يغطي إيجار السكن. كلّ صباح، يرتدي ثيابه، يمضي إلى شوارع لا تعرفه، يكنسها وهو يحاول أن يكنس من داخله مرارة التحوّل من مربي أجيال إلى عامل نظافة.

كنت أدفع الإيجار بانتظام، 800 دينار كل شهر، لكن صاحب العقار قرّر فجأةً أن يضاعفه. لم أستطع الدفع، فطردني. لا إنذار، لا مهلة، لا بديل. حملتُ أطفالي، وجلسنا على الرصيف حتى منتصف الليل، ثم استضافنا أحد المعارف

وحين ينفد الراتب قبل نهاية الشهر، يلجأ إلى الاستدانة، مرّة من صديق، مرّة من قريب في بلد آخر، ومرّة من قلبه الذي يضيق كل يوم. لكنه يستمرّ، يمضي في يومه كما يمضي الغبار، بلا وجهة، بلا يقين، سوى أنه لا يملك خياراً آخر.

 يتذكّر تلك الليلة التي وجد فيها نفسه في الشارع: «كنت أدفع الإيجار بانتظام، 800 دينار كل شهر، لكن صاحب العقار قرّر فجأةً أن يضاعفه. لم أستطع الدفع، فطردني. لا إنذار، لا مهلة، لا بديل. حملتُ أطفالي، وجلسنا على الرصيف حتى منتصف الليل، ثم استضافنا أحد المعارف. لكن حتى هذا مؤقّت، لا أحد يستطيع أن يتحملنا طويلاً».

أجرٌ مُجزٍ، بلا معنى

محمد عبد الكريم، خمسون عاماً، حدّادٌ بيدين خَبُرتا النار والمعدن، لكنه في بنغازي ليس أكثر من عاملٍ في ورشةٍ لا تحمل اسمه. كان أوفر حظاً من غيره إذ وجد عملاً بأجرٍ مُجزٍ، لكنه لم يَجِد نفسه.

في الخرطوم، كان لورشته «شَنّة ورَنّة»، يدخل الزبائن على صدى اسمه، يثقون في صنعته، لكنَّه هُنا، في ورشة بَنغازيَّة، محض ظلٍّ لصاحب المكان. «الزبائن يأتون، يتجاهلونني، يطلبون من الليبي أن يخدمهم. لا يثقون بنا، حتى لو كنّا أكثر مهارة»، يقول محمد لمراسل «أتر» ثم يواصل: «ليست الغربة أن تكون بعيداً عن بيتك فقط، بل أن تكون حاضراً، ولا يراك أحد». في بنغازي، يعمل محمد، ويكسب قوت يومه، لكنه يشعر أنه بلا قيمة.

تتزايد حالات الاعتداء على المهاجرين الأفارقة، والشرطة لا تحرّك ساكناً. في طرابلس، تعرّض شابٌّ سوداني للضرب المبرح من قِبل مجموعةٍ مجهولة، لم يُفتح تحقيق، لم يُقبَض على أحد، إنما أُضيفت قصّته إلى قائمةٍ طويلةٍ من القصص المنسية.

قضى خالد عثمان ثلاثة أشهر في بنغازي بحثاً عن وظيفة دون جدوى، ولم يكن مستعداً للحياة التي ضاقت عليه شيئاً فشيئاً. وحين قرّر العودة إلى السودان، ذهب إلى القنصلية السودانية، فلم يجد إلا الطوابير الطويلة ورسوم الوثائق، لم يسمع إلا صوت الموظّف البارد يقول: «ادفع أولاً».

في مواجهة هذا الواقع، لم يعد كثيرٌ من السودانيين يرون ليبيا محطةً للبقاء، بل نقطة عبور، إما نحو أوروبا، حيث ينتظرهم الموت في عرض البحر، أو نحو السودان، حيث ينتظرهم الموت في الشوارع التي مزّقتها الحرب.

Scroll to Top