
منذ استقلال جنوب السودان في 2011، ظلَّ السودان يُعاني من عجز مُستمرّ في ميزانه التجاري، وسبَّب هذا العجز تردّياً مستمرّاً في الاقتصاد الوطني، وتدهوراً مُتوالياً في قيمة العُملة، وخلَّف بالطبع أزمات سياسية واجتماعية مُتتالية سقطت جرّاءها حكومات وأنظمة. وطوال السنوات الماضية لم يقِل مقدار العجز في الميزان التجاري عن 4 مليارات دولار، بَيد أنه للمفارقة قد قلَّ في السنة الثانية من الحرب التي مسَّ شرَرُها أرجاء البلاد كلّها.
وبطبيعة الحال، لم يكن تقلُّص الفجوة في الميزان التجاري للاقتصاد الحربي نتيجةً لزيادات الصادر أو تنامي الإنتاج الوطني، وإنما كان نتيجةً لانخفاض كبير في الواردات، يُضاهي في مَداه انخفاض الصادر عام 2011 بعد خسارة الصادرات البترولية؛ إذ انخفضت قيمة الواردات البالغة 11.09 مليار دولار عام 2022، إلى 4.91 مليار دولار عام 2024، فاقدةً 66 في المائة من قيمتها.
هذه الأرقام مستمدّة من «الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية، يناير ـ ديسمبر 2024» الصادر عن بنك السودان المركزي، وهو أول موجز يُصدره البنك عن التجارة الخارجية منذ اشتعال الحرب في 15 أبريل 2023. وفي ما يلي، استعراضٌ لأهمّ ما جاء فيه، ومحاولة لاستكشاف ما تشي به طيّاته عن التغيّرات التي أحدثتها الحرب في اقتصاد السودان.
قيم صادرات وواردات السودان خلال الفترة (2005-2024)، محسوبةً بآلاف الدولارات
انخفضت قيمةُ كلٍّ من الصادرات والواردات عام 2024، لكنّ مقدار الانخفاض في الوارد كان أكبر بكثير من مثيله في الصادر؛ إذ انخفضت قيمة الصادرات من 4.35 مليار دولار – سُجّلت عام 2022 – إلى 3.13 مليار دولار عام 2024، وهو انخفاض يبلغ حوالي 28%، بينما انخفضت قيمة الواردات من 11.09 مليار دولار إلى 4.91 مليار دولار، أي بمقدار 66%.
قيم صادرات وواردات السودان خلال الفترة العام 2024، محسوبةً بآلاف الدولارات
وبدأت قيمة الواردات بالزيادة في الشهور الأخيرة من عام 2024، بينما ظلّت قيمة الصادرات في ثبات نسبيّ خلال هذه الفترة.
ما الذي حدث للواردات؟
قيم واردات السودان حسب السلع عام 2022، محسوبةً بآلاف الدولارات
قيم واردات السودان حسب السلع عام 2024، محسوبةً بآلاف الدولارات
لقد زاد نصيب المواد الغذائية من جملة الواردات، لتَطْغَى على المُنتجات البترولية، بوصفها أكثر صنفٍ مستورد من السلع، بينما بقيَ توزيع القِيَم لمعظم أصناف السلع الأخرى كما هو، رغم الانخفاض الذي ألمّ بها جميعاً. كذلك، تغيَّر توزيع السلع داخل كلِّ صنف على نحو ملحوظ، وظهر نمط عام هو نموّ قيمة السلع المعالجة سلفاً (مثل دقيق القمح)، وانخفاض قيمة السلع الخام (مثل القمح).
قيم واردات السودان من السلع الغذائية خلال العامين 2022 و2024، محسوبةً بآلاف الدولارات
عند النظر إلى السلع الغذائية، نجد أنّ قيمة الواردات في معظمها انخفضت قرابة النصف، عدا سلعة واحدة هي دقيق القمح الذي ارتفعت قيمة وارداته من 69.36 مليون دولار إلى 317.29 مليون دولار، ما يعني أنها تضاعفت أكثر من 4 مرات، بينما انخفضت قيمة واردات القمح من 1.06 مليار دولار إلى 257.42 مليون دولار، أي أنها انخفضت أكثر من 4 مرات. ويصعب النظر إلى هذا التماثل في الارتفاع والانخفاض دون استصحاب توقّف مطاحن القمح الواقعة في الخرطوم بحري والدّمار الذي حلّ بها منذ سيطرة الدعم السريع على المنطقة.
في المقابل، صمدت أربع سلع، ولم يحدث أي تغيُّر مُعتبر في قيمة وارداتها، وهي السكّر، والعدس، والحلويات والبسكويت.
قيم واردات السودان من التبغ والمياه المعدنية خلال العامين 2022 و2024، محسوبةً بآلاف الدولارات
كذلك أثّر سقوط المنطقة الصناعية في بحري بيَد الدعم السريع على واردات السجائر والمشروبات المعدنية، إذ انخفضت قيمة واردات التبغ المُستخدم في تصنيع السجائر من 51.6 مليون دولار إلى 3.5 مليون دولار، أي أنها انخفضت أكثر من 14 مرة، بينما ارتفعت قيمة واردات السجائر الجاهزة من 698 ألف دولار إلى 30.2 مليون دولار، مرتفعةً 43 مرة. وكذلك، ارتفعت قيمة واردات المشروبات المعدنية من 2.1 مليون دولار إلى 24.62 مليون دولار، وهو ارتفاع يربو عن 11 مرة.
قيم واردات السودان من المواد الكيميائية خلال العامين 2022 و2024، محسوبةً بآلاف الدولارات
انخفضت قيمة الواردات في المواد الكيميائية أيضاً، وكانت الأسمدة أكثر السلع انخفاضاً، إذ هبطت قيمة وارداتها أكثر من 13 مرة، من 213.77 مليون دولار إلى 15.7 مليون دولار. كما انخفضت قيمة واردات المبيدات الحشرية بما يزيد عن 3 مرات، من 87.66 مليون دولار إلى 26.57 مليون دولار. ويمكن أن يُقرأ ذلك في سياق استيلاء الدعم السريع على العديد من المناطق الزراعية في وسط السودان وغربه، وتوقف الزراعة في معظمها كما حدث في مشروع الجزيرة.
وانخفضت واردات الأدوية أيضاً من 571.72 مليون دولار إلى 299.77 مليون دولار.
قيم واردات السودان من المنتجات البترولية خلال العامين 2022 و2024، محسوبةً بآلاف الدولارات
وكان الجازولين المُستخدم بكثرة في الزراعة أشدّ المنتجات البترولية انخفاضاً بعد السلع المصنَّفة ضمن «المنتجات البترولية الأخرى». وانخفضت قيمة واردات الجازولين قرابة النصف من 993.07 مليون دولار إلى 545.5 مليون دولار، بينما انخفضت قيمة واردات المنتجات البترولية الأخرى من 1.43 مليار دولار إلى 51.73 مليون دولار، أي أنها انخفضت 28 مرة.
قيم واردات السودان من المصنوعات خلال العامين 2022 و2024، محسوبةً بآلاف الدولارات
وانخفضت قيمة واردات المصنوعات عدا سلعة واحدة، هي الأسمنت والمنتجات الحجرية التي ارتفعت قيمة وارداتها حوالي 3 مرات من 65.14 مليون دولار إلى 190.08 مليون دولار. وربما يكون ذلك مرتبطاً بحركة البناء والتوسع العمراني التي شهدتها العديد من مدن السودان إثر النزوح.
وبالمثل، انخفضت قيمة واردات وسائل النقل، عدا سلعة واحدة هي الشاحنات واللواري، التي ارتفعت قيمة وارداتها من 78.68 مليون دولار إلى 113.67 مليون دولار.
أعداد المنشآت الصناعية المُتضررة في ولاية الخرطوم حسب القطاع
المصدر
ويمكن فهم بعض أسباب التغيّرات الواردة أعلاه في أنماط الاستيراد بالنظر إلى الضرر الذي ألمّ بالقطاع الصناعي في السودان. وقد تضرّرت 3,493 منشأة صناعية في ولاية الخرطوم وحدها، وكانت المصانع العاملة في القطاع الغذائي أكثرها تضرّراً، إذ تضرّرت 1020 منشأة صناعية غذائية، ما يفسّر الفجوات الواسعة في معالجة دقيق القمح وفي صناعة المياه المعدنية على سبيل المثال.
قيم واردات السودان حسب الدول المُوردة عام 2022، محسوبةً بآلاف الدولات
قيم واردات السودان حسب الدول المُوردة عام 2024، محسوبةً بآلاف الدولات
لم تتغيّر الملامح العامة لخارطة الدول المُورِّدة إلى السودان كثيراً؛ إذ ظلّت الإمارات صاحبة القيمة الأعلى من واردات السودان رغم انخفاضها إلى أكثر من النصف؛ من 2.29 مليار دولار إلى 955.68 مليون دولار، تليها الصين التي انخفض نصيبها من الواردات من 1.72 مليار دولار إلى 911.89 مليون دولار، ثم مصر التي انخفضت صادراتها إلى السودان قليلاً من 760.66 مليون دولار إلى 728.03 مليون دولار، لكنّ نصيبها من إجمالي الواردات زاد على نحوٍ ملحوظ لثبات وارداتها النسبي مقارنة بنظيراتها، ويُعزَى جزء كبير من هذا الثبات إلى ارتفاع مساهمة مصر في بند «القمح ودقيق القمح» من 54.35 مليون دولار إلى 251.38 مليون دولار، والأرجح أن هذه الزيادة ناتجة عن تغطيتها لاحتياج السودان الطارئ لدقيق القمح. وصعدت واردات تركيا في هذا البند كذلك، مُرتفعةً من 15 ألف دولار فقط إلى 53.3 مليون دولار، وارتفع إسهامها النسبي في مجمل الواردات تباعاً.
صعدت واردات بنغلاديش إلى السودان على نحوٍ مشابه في بند «المشروبات والتبغ»، الذي انقلبت قيم واردات السلع المصنّفة ضمنه على غرار ما شهده بند «القمح ودقيق القمح». وبلغت واردات بنغلاديش إلى السودان في هذا البند 22.25 مليون دولار، ويمكن تتبّع هذه الحركة في قضية طلب شركة النيل الأزرق للتبغ والسجائر، التابعة للشركة البريطانية-الأمريكية للتبغ، سجائر بقيمة 20.5 مليون دولار من نظيرتها في بنغلاديش، بعد فشل طلبٍ سابقٍ مُماثلٍ وُجّه إلى الشركة التابعة في باكستان، ورُفِض لعدم التوافق بين الطلبية التي تضمن إنتاج علبٍ تحتوي عشر سجائر كما هو رائج في السودان، والقوانين الصحّية لباكستان التي تفرض إنتاج علب تحتوي عشرين سيجارة للحدّ من استخدام الأطفال له.
ماذا عن الصّادرات؟
قيم صادرات السودان حسب السلع عام 2022، محسوبةً بآلاف الدولات
قيم صادرات السودان حسب السلع عام 2024، محسوبةً بآلاف الدولات
لم يتغيّر تركيب الصادرات كثيراً كما حدث للواردات، رغم النقصان الذي ألمّ بها. ما زال الذهب يشكّل حوالي نصف قيمة صادرات السودان رغم انخفاض قيمة صادره من مليارَي دولار في 2022 إلى 1.57 مليار دولار في 2024. وحافظت السلع الزراعية على مساهمةٍ تقارب الثلث من صادرات السودان، رغم انخفاض قيمة صادراتها من 1.68 مليار دولار في 2022، إلى حوالي مليار دولار في 2024. وأبرز ما يُلاحظ في صادرات السلع الزراعية هو الانخفاض الكبير في قيمة صادرات القطن ومساهمتها. أخيراً، ارتفعت مساهمة الثروة الحيوانية في قيمة الصادرات قليلاً، رغم التدهور الكبير الذي ألمّ بصادرات اللحوم المذبوحة.
قيم صادرات السودان من السلع الزراعية عامي 2022 و2024، محسوبةً بآلاف الدولات
انخفضت قيمة صادرات السلع الزراعية باستثناء الكَبْكَبي الذي ارتفعت قيمة صادراته من 9.78 مليون دولار إلى 15.59 مليون دولار. وشهد القطن انخفاضاً كبيراً في قيمة الصادر، فهبطت من 383.79 مليون دولار في 2022 إلى 82.38 مليون دولار في 2024، بينما صَمَدَتْ قيمة صادرات حَبّ البطيخ نسبياً.
قيم صادرات السودان من الثروة الحيوانية عامي 2022 و2024، محسوبةً بآلاف الدولات
أما في شأن الثروة الحيوانية، فقد ارتفعت قيمة صادرات الضأن على نحو ملحوظ، مُقارنة بما كانت عليه عام 2022، إذ شهدت ارتفاعاً يبلغ 1.7 مرة، من 226.63 مليون دولار إلى 392.23 مليون دولار، وارتفعت كذلك قيمة صادرات الماعز من 2.16 مليون دولار إلى 8.28 مليون دولار وهي زيادة تبلغ 4 مرات. وانخفضت قيمة صادرات اللحوم المذبوحة انخفاضاً هائلاً من 101.79 مليون دولار إلى 2.3 مليون دولار فقط. ويأتي هذا الهبوط عقب توقّف عدد من المسالخ عن العمل، ومنها مسلخ الكدَرُو بِطاقته الإنتاجية التي تبلغ 1500 رأس في اليوم.
قيم صادرات السودان من السلع المصنعة عامي 2022 و2024، محسوبةً بآلاف الدولات
كذلك شهدت قيمة صادرات السلع المصنّعة تدهوراً بالغاً؛ فانخفضت قيمة صادرات الزيوت الحيوانية والنباتية، ومنها زيت السمسم، من 16.09 مليون دولار في 2022 إلى 1.98 مليون دولار فقط في 2024، كما انخفضت قيمة صادرات المولاس من 11.13 مليون دولار في 2022، إلى 20 ألف دولار فقط في 2024.
قيم صادرات السودان حسب الدول المُستوردة منه عام 2022، محسوبةً بآلاف الدولات
قيم صادرات السودان حسب الدول المُستوردة منه عام 2024، محسوبةً بآلاف الدولات
وكما هو الحال في الدول المُورِّدة إلى السودان، بقيت أكثر الدول استيراداً من السودان في مواقعها، رغم انخفاض قيمة صادرات السودان إليها. وانخفضت صادرات السودان إلى الإمارات من 2.07 مليار دولار إلى 1.66 مليار دولار، مع زيادة نسبة صادرات السودان إليها مقارنةً بإجمالي الصادرات. ولم ينطبق هذا النمط على السعودية التي زادت قيمة صادرات السودان إليها من 317.3 مليون دولار إلى 437.41 مليون دولار. وتُعزى هذه الزيادة إلى وارد السعودية الضخم من الحيوانات الحية والذي يبغ 377.73 مليون دولار في عام 2024 بعد أن كان 228.31 مليون دولار في 2022. ومن المرجّح أن تكون زيادة صادرات الضأن المذكورة سلفاً مرتبطةً بهذه الزيادة، أو أن تكون مرتبطة بهبوط قيمة صادرات السودان إليها في اللحوم المذبوحة من 40.95 مليون دولار إلى 2.2 مليون دولار فقط. كذلك تغيَّر نمط صادرات السودان من الثروة الحيوانية إلى الإمارات، عقب انهيار صادرات اللحوم المذبوحة، إذ بلغت قيمة صادرات السودان إلى الإمارات من المواشي الحية 28.13 مليون دولار، بعد أن كانت 25 ألف دولار فقط في 2022، ولم يُصدِّر السودان لحوماً مذبوحة إلى الإمارات هذا العام، رغم أن قيمة صادرات اللحوم المذبوحة إلى الإمارات كانت 19.21 مليون دولار عام 2022.
جميع الأشكال التوضيحية من إعداد: محمد الكامل، شبكة أتَـر ـ مركز المعلومات.