
المالحة: في قبضة التدمير الغاشم
في 20 مارس الجاري، اجتاحت قوات الدعم السريع مدينة المالحة، الواقعة في ولاية شمال دارفور، بعد معارك ضارية ضدّ القوات المشتركة والجيش السوداني أسفرت عن خسائر بشرية ومادية فادحة، وفقاً لشهادات سكّان ومصادر محلية. وقد اشتدّ أوار هذه المعارك في فبراير 2025، في إطار الصراع المتواصل منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، حيث شهدت المنطقة تصاعداً للعنف، ضمن محاولات السيطرة على المواقع الاستراتيجية في دارفور.
تُعَدُّ المالحة، التي تبعد نحو 210 كيلومترات شمال شرق الفاشر، نقطة استراتيجية في النزاع السوداني، إذ تربط بين كلٍّ من مدن الدبّة شمالاً، وحَمرة الشيخ شرقاً، والفاشر جنوباً. تاريخياً، كانت المدينة مركزاً تجارياً نشطاً، وهي معروفة بأسواقها التي تجذب التجّار من مناطق متفرّقة. لكنها، في ظل الحرب، تحوّلت إلى مدينة خاوية، يلفّها الخوف، وتغرق في ظلام دامس مع حلول الليل.
بدأ الهجوم على المدينة من عدة محاور، وتصدّت القوات المشتركة لقوات الدعم السريع في الاتجاه الغربي، قبل أن تمتدّ الاشتباكات إلى الجنوب والجنوب الغربي. ومع تصاعد القتال، انسحبت القوات المشتركة، ما أتاح لقوات الدعم السريع بسط سيطرتها على المدينة.
أخبر أحد أبناء المنطقة مراسل «أتَـر» بأن بعض عناصر الاحتياطي التابعة للجيش السوداني، تعرّضوا لكمائن داخل المدينة، بينما انسحب آخرون في مجموعات صغيرة. وأضاف: «كانت المعركة غير متكافئة. الذخيرة شحيحة، والإمدادات لم تصل. في النهاية، لم يكن أمامهم خيار سوى التراجع.»
بعد إحكامها السيطرة على المدينة، نفّذت قوات الدعم السريع عمليات نهب واسعة، وأضرمت النيران في الأسواق الرئيسة، بما في ذلك سوق الجمارك والسوق الكبير، بعد نهب محتوياتهما. وطالت عمليات السلب المنازل، مع استهداف خاصّ لمنظومات الطاقة الشمسية، وأجهزة «ستارلينك»، والمقتنيات الثمينة. كذلك نفّذت الدعم السريع عمليات اعتقال طالت العشرات من الشباب، بينما أفاد شهود عيان بتنفيذ عمليات تصفية داخل المنازل. في المقابل، سُمح لبعض النساء والأطفال بمغادرة المدينة وفقاً لظروف محددة.
وقال تاجر من المدينة إنّه رأى رجلاً يبيع حصّته من الغذاء ليتمكّن من نقل أسرته إلى مكان آمن.
مع استمرار العنف، فرّ الآلاف من سكّان المالحة نحو المناطق الجبلية والقرى المجاورة، مثل شخّاخة ومرصوصة وكنانة ووادي أخدر، بينما حاول البعض الفرار إلى ليبيا عبر طرق صحراوية خطرة. متحدّثاً لـ «أتَـر» عن الرحلة القاسية، يقول أحد الفارّين إلى ليبيا: «تركنا المالحة تحت جنح الظلام، مشياً على الأقدام. في الطريق، تعرّضنا لهجوم من مسلّحين سلبوا كل ما نحمله، حتى الماء.»
وحالياً، تعاني المدينة من ضعف بالغ في الخدمات الأساسية: المياه شحيحة، والأسواق مغلقة، والمستشفيات تعاني من نقص حادّ في الأدوية والمعدات. وأكّدت طبيبة لمراسل «أتَـر» أنّ العشرات من الأطفال يعانون من سوء التغذية، لكن المساعدات غالباً ما تختفي قبل أن تصل إليهم. وقال أحد التجّار في السوق القديم: «حتى إذا وُجد الطعام، من يستطيع شراءه؟ الأسعار ارتفعت إلى حدّ جنوني.»
مع حلول الليل، تُصبح شوارع المالحة مصائد، والمنازل قلاعاً يحتمي سكّانها بداخلها، وسط غياب تامّ للقوات النظامية.
ورغم هذا التدمير الغاشم، لا يزال بعض السكان يتمسّكون بالبقاء. قال موسى، وهو حدّاد في السوق القديم: «هذه الأرض هي كل ما أملك. سأبقى، وأنتظر… ربما يأتي يوم تعود فيه المالحة كما كانت».
القضارف: رمضان التقشّف والحرب
ما كان سكان ولاية القضارف يخالون يوماً أن يأتي عليهم شهر رمضان وهُم يحملون هَمّ إفطارهم أو سحورهم، فهي ولايةٌ – مثل ولايات السودان الأخرى – لها طقس رمضاني فريد، تحفّه أيادي التراحم والتكافل وسؤال «كيف فطرتو يا ناس؟»؛ إلا أنّ الحرب في رمضان هذا العام، بخلت بهذه الرفاهية على كثير منهم، وكان ضيق ذات اليد وعسر العيش أكبر من افترار أساريرهم بهذا السؤال.
عقدت أماني المصري، مواطنة بولاية القضارف، مقارنةً بين أسعار السلع والخدمات في فترة ما قبل رمضان وما بعده، فأشارت إلى أنّ الأسعار قبل رمضان كانت في متناول يد المواطن، وكان كلّ مواطن يتمكّن من شراء ما يحتاجه من ضروريات، وبأسعار مناسبة جداً، إلا أنّ الأزمة تفاقمت جراء عدم توفر السيولة والتعامل بالتطبيقات البنكية، وقد انعكس هذا الأمر على حياة المواطنين قبل رمضان وأثناءه، بل وزادت الأسعار باطراد في رمضان.
تشير أماني إلى أنّ هناك زيادة جنونية وغير مبرّرة، ناجمة عن جشع التجار. تقول لمراسل «أتَـر»: «زادت الأسعار على نحو درامي. مثلاً، سجّلت أسعار الفواكه أرقاماً غير مسبوقة، ومعلوم أنّ القضارف تمتاز بموسم للجوافة وآخر للمنقة وآخر للبرتقال. كنا نشتري دستة البرتقال بألفي جنيه، ويتراوح سعرها الآن بين 6-8 آلاف جنيه، والأمر ذاته ينطبق على المنقة؛ زادت الدستة من متوسط 3–4 آلاف جنيه إلى 8 آلاف جنيه، وبدورها لم تسلم الجوافة من ذلك، فبعد أن كان سعر الكيلو منها 3 آلاف جنيه، بات الآن يتراوح بين 6-7 آلاف جنيه».
وتستدرك أماني مشيرة إلى أن الأسعار قد انخفضت خلال الأيام الماضية، بفضل مبادرتين كان لهما أثر في رفع المعاناة إلى حدّ ما عن كاهل المواطن بالولاية. إحداهما مبادرة والي الولاية بمنح جميع الموظفين في الولاية سلة رمضانية مجانية، ويكاد لا يخلو بيت من بيوت القضارف من موظّف، وقد احتوت السلة على المواد التموينية الأساسية في رمضان، وكان لها دَور في خفض أسعار السوق. كذلك أطلق مركز الإنتاج الحيواني، التابع لوزارة الإنتاج والموارد الاقتصادية، مبادرةً لتوفير اللحوم بأسعار رمزية للموظفين وللمواطنين. ويشرف المركز على الذبيح في المزرعة التابعة له والواقعة خارج الولاية. ويُباع كيلو اللحمة العجالي بـ 11 ألف جنيه، بدلاً عن 16 ألفاً في السوق.
وعلى الرغم من أن رمضان الحالي صادف مواسم إنتاج بعض الخضروات والفواكه بالولاية، يرى السكّان أن بعض التجار قد استثمروا في حاجة الناس وعمدوا إلى رفع أسعارها دون مبرّر. فقد بلغ سعر قطعة عجّور واحدة ألف جنيه، وارتفع سعر كيلو البطاطس من ألفي جنيه إلى 5 آلاف جنيه، وكيلو الأسود الذي كان يُباع بألف إلى ألفي جنيه، أصبح سعره الآن ما بين 3 إلى 4 آلاف جنيه.
كذلك زادت أسعار الذرة بمختلف أنواعها، من «الدَّبر» و «طابت» و «أرفع قدمك» و «الفيتريتا» وغيرها. قبل رمضان، كان سعر الأردب من أفضل أنواع الذرة وهو «الدَّبر» يتراوح ما بين 115 و120 ألف جنيه، أما الآن فقد تجاوز حاجز الـ 200 ألف جنيه. وعيش الدَّبر هو الغذاء الأساسي الذي يعتمد عليه أغلب سكان القضارف في غذائهم.
ومما كان مشهوداً قبل الحرب، سعيُ بعض ميسوري الحال إلى تفقد جيرانهم وأهلهم ومعارفهم وتوزيع السلال الرمضانية على المحتاجين منهم؛ إلا أن هذا النشاط الاجتماعي والتطوعي قد انحسر هذا العام على نحو ملحوظ. كذلك اختفت، بفعل الضائقة الاقتصادية، بعض الأصناف المعتادة التي كانت تُقدّم في موائد وإفطارات رمضان، واقتصرت الموائد في رمضان هذا العام على الوجبات الرمضانية الرئيسة فقط مثل العصيدة والبليلة والعصائر المحلية؛ الحلو مُر والكركدي والعرديب والتبلدي.
الصادق عبد الله، مواطن بالقضارف، لا يتوقّع تراجعاً في الأسعار عن هذا الحدّ دون حدوث استقرار اقتصادي في البلاد، ودون تضافر جهود الحكومة واتخاذها إجراءات تجاه تعديل أو تحسين النظام الغذائي للمواطنين عبر ديوان الزكاة ووزارة المالية والجهات المعنية. ومما يزيد التحديات تعقيداً أن القضارف حالياً تحضّر نفسها لاستقبال موسم الخريف، وفي ظّل هذه الأوضاع، غنيٌّ عن القول إنّ نجاح الموسم الزراعي يعتمد أساساً على التسهيلات التي تمنحها الحكومة للمزارعين، ففي حال لم تفطن لذلك، ستزيد معاناة المزارعين والحكومة بالمثل.
ووفقاً لما أخبر الصادق مراسل «أتَـر»، فقد نشأت خلال شهر رمضان والفترة السابقة له أسواق جديدة كبيرة جداً لتغطية احتياجات الأعداد الكبيرة من النازحين، التي استقطبتها القضارف ممّن وفدوا إليها من الولايات التي وطئتها أقدام الحرب. أدّى هذا النزوح إلى اكتظاظ سكاني، وخلق فجوات كبيرة جداً في مجال الصحة والتعليم والخدمات العامة، وكانت له تبعاته أيضاً على الأسعار في السوق وطبيعة الأسواق نفسها. ومع أنّ هذا مؤشر يدلّ افتراضاً على انتعاش اقتصادي وتجاري، إلا أنّ الأسعار تتزايد كل صباح، وهذا مؤشّر أيضاً إلى غياب الأجهزة الرقابية بالحكومة، ما أربك قدرة السكان على وضع ميزانية تلائم احتياجات كلّ منهم.
السلعة | الكمية | السعر بالجنيه السوداني |
---|---|---|
السكّر | 50 كيلو | 125,000 |
الزيت | 9 لتر | 22,500 |
البصل | 25 كيلو | 18,000 |
دقيق القمح | 25 كيلو | 16,000 |
الغاز | تعبئة أسطوانة 13 كيلو | 45,000 |
البلح | 25 كيلو | 30,000 |
البليلة العدسية | 25 كيلو | 32,000 |
الفحم | جوال | 50,000 |
الحليب | اللتر | 1,200 |
أسعار السلع في مدينة القضارف خلال شهر رمضان
محلية مروي: يفطر الناس في الشوارع رغم المسيرات
طوال الشهور الماضية، حتى بداية شهر رمضان، ثابرت المُسيّرات على قصف المنشآت المدَنيّة في مدينة مروي، خصوصاً محطة كهربائها التي تغذّي مناطق واسعة حولها وفي الولاية الشمالية وبقية مناطق السودان. ويعاني المدنيّون جراء ذلك من الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي، إذ يصل في بعض الأحيان إلى أيام عديدة.
بابكر يوسف من قرية القُرير، ويعمل بسوقها بعد نزوحه من الخرطوم رفقة أفراد أسرته المكوّنة من ستة أفراد، يقول لـمراسل “أتَـر” إنهم الآن يقطنون في منزلهم، ويعمل ثلاثة أفراد بالأسرة لتوفير الدخل اللازم، وقد دبّروا احتياجات شهر رمضان من سوق القُرير الذي يعمل يومي الأحد والخميس، كحال الأسواق في جميع القرى في محلية مروي، إذ تعمل في أيام محدّدة من الأسبوع.
تحتضن القُرير مراكز لإيواء النازحين تحت إشراف عليها مبادرات أهلية وتطوعية تعمل على توزيع الحصص الغذائية والوجبات في شهر رمضان، فضلاً عن الدعم الذي تقدّمه منظمة اليونيسف وبعض المؤسسات الحكومية وسلطات المحلية، والإعانات من أبناء المنطقة بالخارج وميسوري الحال. وقد شمل الدعم السكان والنازحين على حدّ سواء. يمتدح يوسف روح التكافل التي تشيع بين الناس في شهر رمضان، مبيّناً أنّ جميع السكّان يتناولون إفطارهم في الشوارع وعلى الطرقات.
وفي سوق مروي، ارتفعت الأسعار ارتفاعاً كبيراً مقارنة بالأعوام السابقة، إذ تنعدم الرقابة على الأسواق ويتحكّم التجّار في الأسعار على هواهم، وقد قلّت حركة البيع والشراء قبل رمضان، بسبب العجز عن توفير مبالغ مالية تلاحق الأسعار المرتفعة، وشهد السوق حركة طفيفة قبل رمضان أيام، نسبةً لحاجة الناس إلى التبضّع وشراء المستهلكات التي اقتصرت على الضروريات فقط.
وتعرّضت مناطق عديدة بالولاية الشمالية، في خريف العام الماضي لموجات عنيفة من السيول، ما خلّف أثراً بيئياً يعاني منه المدنيون حتى الآن. ومع الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي، تؤرّق أسراب البعوض منام الناس، وتفسد اللحوم والمواد الغذائية في الثلاجات، ما اضطرّ التجّار لشراء مولدات الكهرباء، التي وصل سعر الواحد منها إلى مليون جنيه سوداني، وانعكس هذا بدَوره على الأسعار تلافياً للخسارات، إذ وصل سعر كيلو اللحم الضأن إلى 25 ألف جنيه.
يعيش مهند سعيد في قرية كورتي، مع أفراد أسرته الخمسة، ويعتمدون على فرد واحد يعمل، وآخر خارج البلاد يرسل الأموال. وكحال بقية السودان يفطر أهل القرية في الشوارع، من غير أي تهديدات أمنية.
ويروي مهند أن المشاريع الزراعية في كورتي، قد تعرّضت لخلل في أنظمة الري جراء انقطاع الكهرباء، إذ إنها تعتمد على طلمبات الكهرباء في عملية الري، ما أحدث تخوّفاً وسط المزارعين أن تموت المحاصيل عطشاً، خصوصاً القمح والفول المصري، أو أن تقلّ إنتاجيتها أوان الحصاد، وسيكون لهذا تأثير فادح على معظم المزارعين الذين بدأوا عملياتهم الزراعية من خلال التمويل أو الاستدانة.
يوضح مهند أنّ سوق المنطقة ينعقد في يومين خلال الأسبوع، وقد ارتفعت الأسعار فيه كثيراً مقارنة بالسابق، لذلك فضّل أن يشترى احتياجات أسرته لشهر رمضان من مدينة مروي التي تعمل أسواقها يومياً، شأنها شأن الأسواق في مدينة كريمة.
وقد شارك مهند مراسل "أتَـر" قائمة المشتريات كالآتي:
السلعة | الكمية | السعر بالجنيه السوداني |
---|---|---|
السكّر | 50 كيلو | 125,000 |
دقيق قمح أبيض | 25 كيلو | 39,000 |
دقيق ذرة | ملوة | 48,000 |
بلح | ملوة | 48,000 |
بليلة عدسية | ملوة | 48,000 |
الكبكبي | ملوة | 50,000 |
الكركدي | ملوة | 5,000 |
عرديب | ملوة | 5,000 |
قنقليز | ملوة | 8,000 |
لحمة عجالي | كيلو | 28,000 |
لحمة ضأن | كيلو | 20,000 |
زيت | 9 رطل | 32,000 |
بصل | قيراط | 3,000 |