
للأحجار أن تنأى، ولها حرّية النسيان. أن تكفَّ عن الالتفات، وتهوي إلى محيطها دون بيان. وفي لجّة الموج الأخيرة من حاضر أيامي، وجدتُني أنأى عن الآخرين، وأغيب عن بال الجميع بأُلفةٍ عَهِدْتُها ذاتَ غوص، وليس يَلفتني غريق. أُفتّش في زوايا النفس عن ظلمةٍ تُعينني على أُلفةِ أن أَقِرَّ إلى قاعٍ جليد.
وإذْ فقدتُ مكتبتي المنزليّة الصغيرة، أكون فقدتُ مساحاتٍ وأزمنةً افترشتُ فيها كُتبي على امتداد سنِيّ طفولتي، والمرحلة الجامعية وما تلاها. كُتب لامسَتْها سماتُ الأمكنة؛ العين الحارّة لـ «جبل حَفِيت» في مقابل شلّالات جبال إيران المكسوّة بالثلج، ومن رعونة كوالالمبور في مقابل وداعة كوانتان، ومن أزقة الخرطوم المُنغلقة على ذاتها مُقابلَ حارات أم درمان المُنفتحة على غيرها، ومن زخم دبي في مقابل تروّي أبوظبي، وكتب مهداة من أستراليا القصيّة وضباب لندن الجلف، في مقابل عفوية القاهرة الدانية. كتب رافقَتْني في مُدن قطنتُ فيها لسنواتٍ وأخرى كنتُ ضيفةً عليها. ويتّضح لي الآن من هذه المسافة الفاصلة بيننا مدى تأثير البيئة على اختياراتي في القراءة؛ حيث كنتُ أزعم أنّ هشاشة الواقع لا تأثير لها على ذائقتي القرائية. فللأماكن جوُّها كما للكتب أمزجتُها. ما تقرؤه وأنت تسكن عالياً في الجبل، وتُحيط بك الحياة البرّية، لا يُشبه ما تقرؤه وأنت بجانب البحر في أرض ساحليّة مُنبسطة. وما يشدُّك من خفّة كتبٍ في مدينةٍ يسبق ليلُها النهارَ، يختلف عن تلك الدسمة وأنت في بلدة نائية تُمهِل الأيام أياماً. وإنّ للُّغة المحيطة بك تأثيراً آخر؛ إذ تنتبه لافتقادك لغةٍ ما أهملتْها لسنواتٍ فتبحث عن كتبٍ رغبةً في اللُّغة دون أن تُولي كثيرَ اهتمامٍ بموضوعاتها، وتُرجئ تلك التي نويتَ مباشرتها في قادم أيامك إلى أجلٍ بعيد. ولا ننسى تلك المدن التي تستعصي فيها أيّ قراءة، لا لانشغالٍ بالحياة وناسها، بل لطبيعةٍ فيها تَنفيك عن ذاتك، فلا تجد للقراءة مُستطاعاً.
وفي أوّل النزوح، تخلّفَت عني الكتب في رفوفها، لم أكن أنوي يوماً هجرانها، لكنّ قلقي تحت وابل الرصاص عصَمَها من مشقّةِ الرحيل. وها أركن في مقامي هذا على جانب الطريق، ترتسم رؤى الحروف على وجهي الغابر، بينما تظلُّ كتبي هناك على حالها، لا يَمسّها هَبُوب الأيام. والحال كهذه، كان عليّ أن أختار رفيق دربي المحفوف برائحة البارود وجثث عتاد معارك مُلقى على جنبات الطريق. احتجتُ إلى أقربهم مني كلمة، غير أنّ الاختيار وقع على ديوان والت ويتمان. خطر لي جلَد ويتمان واحتماله لمشاقّ المسير ولم أنتبه إلى أنسه. احتجتُ إلى من يُربّت على خوفي بالكلمة أياً تكن. لم أكن لأقوى على التضحية بمن هم أرقّ من أوراق عشبه الخضراء إذا ما سُلِبوا من يدي، سوى أنها نجَت من حصة رهائن المليشيا. أتأمّل لحظةَ تسمُّري أمام رفوف المكتبة، وتصوُّري بأن لي حرية الاختيار، وأخي يناديني من بعيد يَحثُّني على الاستعجال. أعضّ شفتي تهكّماً؛ أيّ منطق هذا الذي يتولّد مع غياب اليقين بالخطوة التالية في الحياة. ويمرّ جون كيتس بخاطري.
غير أنّ النزوح كلمةٌ استقَت جَذرَها من هذه الأرض، فالأصل في الناس هنا الارتحال، ويبقى الحِلُّ ضرورةً عاجلة. والسواد في سحنتهم ليس إلا اختلاط الظلال ببعضها فترة السفر، وتداخُلها بحكايا السّمر. لذا تجد لديهم النار هي نار القِرَى. وبينما نزح كثيرٌ منّا من أماكن نشأتهم إلى الغربة، وجدتُني مع الاضطرار لإخلاء المنزل، في آخر يوم للهدنة، أنزح عائدةً إلى الجذور، إلى ود مدني. ومع كلّ يوم جديد فيها – أستعيض به عن آخر في تاريخي الموشوم بالغربة – أشهد ألواناً للفقد شتى، وآلَف غربةَ الجذور. ويعاود كيتس مرورَه، يذكّرني بفضل تَقبّل «القدرة السّلبية»، المُصطلح الذي استخدمه الشاعر الإنقليزي لوصف تقبل الغموض والشكوك دون حاجة الوصول إلى يقين، مُعتبراً أنها ضرورية، خاصة حين الإبداع.
بادئ الأمر، ومع غياب الأوراق عني، بتُّ أفتّش عن الكلمة فأجدها روتينية في لافتات المحال، ومنسيّة على جدران الأبنية المهجورة، وموثِّقة لحبٍّ عابرٍ على لحاء الشجر، وإذا بها ترث عادات نقوش حجرية تروي قصص من سبقونا، إلى التقاط معنى أن تَهجُر الأرضُ ساكنَها وتنشغل. تنفُضُ عنها ما علق بها من آثار أيامنا، وترتقب ما تحمله لها رياح مصيرها المجهول؛ فأستبدل كلماتي بغيرها من حيوات الآخرين، ويتوالى المحو برغبة الفناء. وها تنقش الطائرة الحربية بهديرها، والقنابل والدانات بدّويها، ومضادّات الطيران بأزيزها على أفق وجودي، تكتب ذاكرةً مغايرةً، تحفر فيَّ لغة الفقد انفلاقاً، وتُعيد لحم اللغة بما يعنيها في لامبالاة فاترة. أتهجّى كلمات المدينة لتُغطِّي على كلماتي وإذ أتلعثم مارّةً بها، أُنادي غسقاً يُطلُّ على غسقي، ولا أجد لصوتي صدىً. يتراءى لي كلّ هذا الفقد، مُتناثراً حولي، سوى أنّ لي ذاتي إلى حين.
في مُقابل هذا الفقد اللغويّ، وفي عزلةٍ خِلتُها تخلو من الكلمات، انفتحَتْ لي كُوّةٌ في جدار ذاكرتي. أستدعي منها روايات نسيتُ ما خَطَطْتُه على هوامش صفحاتها، وشخصيات وَلِعتُ بها حتى صادقتني فترة من العمر، وأبياتاً من قصيدة ملحمية تعثّرتُ عن إتمام قراءتها توقظني من سباتي، وحين ذهابي لتفقّدها، أجدني وقفتُ على العتبة، في ما قبل النجاة [1] وكأنها تحثني على ضرورة تقفّي أثر خطواتي والانفتاح على الحياة من جديد. ويُقال لك إنّ قراءة كتاب واحد تَتَجدَّدُ مع تغيّر مراحل وعيِك وتقدّمك في العمر، لكنّ استدعاءها من الذاكرة قراءةٌ مُغايِرةٌ ما كان لي حظّ تجربتها إلا مع ظرف نزوح اضطراري. ومع ذلك، تظلّ القراءة الاستدعائية ناقصةَ الفصول والأبيات الشعرية والكلمات سوى أنها تتزيّن في انقطاعاتها بتحليلٍ مَشوبٍ بوقع اللحظة الحاضرة، تستدعي معها حوارات عن كتب جمعَتني بصداقات لطيفة. صداقات ربما لا تكفي سنتان ونصف لتشكيلها وخلق شيء من الألفة والحنين بين جنباتها، لكنّها الكلمة تجمع بيننا وتمدّ في عمرها إلى ما قبل لحظة التلاقي. واليوم، وحين أضيع في الطريق إلى البيت، أو تفوتني محطّة النزول، أتمّم تفاصيل المدينة القديمة في حُلّتها المغتربة من مدّة قريبة بإلقاء بيت شعري لأحدهم، أو بدندنة آخر، أو بضحكة أكثرهم شغباً، فيتّضح المسار وأهتدي إلى السبيل.
وما من سبيلٍ سوى الاستمرار. فليس للفقد من نهاية، بل محاولة جديرة بنسيان ما اعتدنا امتلاكه من ذوات متوهَّمة في ما مضى. ومع تكوين مكتبة جديدة يُعوّضني بها أخي عن تلك، أتلمّس بذاكرتي خطَّ أبي ينبش ملاحظةً سريعةً بجانب فقرةٍ لفَتَتْه بينما تمرّ عيناي على صفحات بيّنة لا تشوبها هوامش. وأفتقد الأثرَ الدائريّ لفنجان قهوته، وأعرف من أين لي إدمانها. وأتذكّر سهوي عن الكتاب حين أجد صورة فوتوغرافية تُحيلني إلى قراءة لحظة جامدة في الزمن أو رسالة بريدية ورَدَته من بلادٍ بعيدة يُخبّئها بين الصفحات. أحاول تبيُّن ما أرسله والدي من خلال الموضوع المطروح وطريقة الرد الواردة هنا، فالكلمة عنده تأمَن على ذاتها وسط أخواتها، بينما أفشَى أمرها في رسائل الأصدقاء. وإذ تتشكّل الطرقات، الأزقّة والأنهار بيضاءَ بيضاءَ على يديَّ وأنا أغسلهما بلوح صابون، خرائطَ لمدنٍ بديلة تسعني في الخيال، تنشغل فيها المسافات بنفسها وتتركني في معيّتك. وبينما يجري ماء الصنبور رقيقاً منبّهاً إيّاي بحاجتي إلى الاستعجال، أسمح لتدفّقه بأن يَجْلو رغوة هذه المدن الفقاعية عن يدي، وأسترسل منزاحةً في الرؤى.
[1] “The gates of hell are open night and day; smooth the descent, and easy is the way”. Virgil, The Aeneid.