
تقع قهوة «أحمد زايد المكي» وسطَ سوق مدينة الدامر القديم بولاية نهر النيل، وهي ملتقىً تاريخيّ ظلّ أعيان المدينة يجتمعون فيه لسنوات طويلة، خلال أوقات مُتعدّدة في اليوم. وروّاده من فئات اجتماعية مختلفة، من الشباب والصغار والمعاشيين. وفي هذه اللقاءات يصبح الأمر أكثر من محض جلسة لتمام الكيف والمزاج للشاي والقهوة: تُعقد صفقات تجارية صغيرة، ومشاورات بين أطراف متخاصمة للصلح بينها، واجتماعات غير رسميّة للتشاور في مسائل تخصُّ مُجتمعَ المدينة وأهلها، وتحظى أخبار الحرب والبلاد بنصيب وافر خلال هذه اللقاءات، هذا إضافة إلى مناقشات الرياضيين، وينتمي إليهم مالك القهوة، الذي كان لاعب كرة قدم مشهوراً في الدامر، وحمل شارة الكابتن لفريق الشبيبة 15 عاماً.
على باب القهوة، التي لا تحمل لافتة باسمها لكن الناس في المدينة يعرفونها بقهوة «ود زايد»، تَستقبلُ الداخلَ إليها ابتسامةُ صاحبها أحمد زايد المكي، برفقة روائح المحَريب والجنزبيل وأبخرة البنّ.

صورة للسيد أحمد زايد المكي
يخبر «ود زايد» مراسل «أتَـر»، بأنّ عمر هذه القهوة يتجاوز الآن المائة عام، إذ إنها أسّست في 1910، وقد بدأ العملَ بها زعيمُ الأسرة أحمد شلعي، ومن بعده تواصلت المَسِيرة من أجيال مختلفة من العائلة. ويواصل: «حتى أبنائي الصغار يعملون معي في أيام الإجازات فى خدمة الزبائن. أقدّم القهوة والشاي وكذلك الحليب في الأمسيات، وأبدأ العمل من بعد صلاة الفجر حتى منتصف الليل، لكن حالياً بسبب حظر التجوّل يتوقف العمل قبل التاسعة مساءً».
مرّت على القهوة العديد من الشخصيات، كانت تجلس هنا، منهم فنانون وشعراء مثل عُكير الدامر، ومسؤولون حكوميّون مثل الفريق عبد الرحمن سر الختم الذي كان والياً لولاية نهر النيل. وفي مجتمع الدّامر الصغير والمتماسك، مثّلت القهوة – بحسب تعبير صاحبها – ثيرمومتراً لما يحدث في كُلّ ناحية منها، فيتلقّى الناس فيها أخبار الوفيات والدعوات للمناسبات الاجتماعية، وحتى عندما يعثر شخصٌ ما على مفقودات داخل السوق ينوّه بها داخل القهوة بدلاً عن الذهاب إلى الشرطة، ليأتي صاحبها لاستلامها بلا نقصان. تتنوّع النشاطات داخل المكان، فمن الناس من يرتاده للعب الطاولة، أو للنقاشات السياسية والاجتماعية والرياضية.
في الآونة الأخيرة، وفي فضاء الساحة أمام القهوة، أقيمت فعالية مسرحية بمبادرة المخرج الطيب صديق، وعدد الدراميين ومجموعة «أهل الدراما» بالدامر.
متحدثاً لـ «أتَـر»، يقول المخرج الطيب الصديق إنّ العرض المسرحي الذي قدّموه في «قهوة ود زايد» امتداد لعروض مسرحية قُدّمت من قَبل في رصيف الميناء الجنوبي ببورتسودان ومحطة السكة حديد بعطبرة، لتلفت النظر إلى استعادة المؤسّسات المهمة مثل النقل النهري والسكّة الحديد، ففضلاً عن كونها مؤسّسات اقتصادية هي منارات ثقافية وأماكن للوعي كانت تُقام بها المنتديات والأنشطة النقابية.
وحول العرض الذي قُدّم في «قهوة زايد»، يقول صديق إنّ الأمر هنا يتعدّى البيع والشراء، حيث يأتي الموظّفون في زمن الاستراحة لتناول الفطور والقهوة والشاي وللتحدّث بكُلِّ حرية، ومن ثم العودة إلى مكاتبهم لمواصلة العمل، وللمكان طابع خاصّ، يتبادل روّاده السخرية والظرف والضحك والأخبار، لذا جذب هذا الجوّ المبادرة لتقديم عرض مسرحي. وشارك في العرض الفنانون عبد الرحمن الشبلي وعبد السلام جلّود ومصطفى أحمد الخليفة وإبراهيم كومك، ومجموعة «أهل الدراما» من شباب الدامر ومنهم مغنّون مشاركون في العرض. واستمتع بمشاهدة العرضَ المسرحيَّ حضورٌ كبيرٌ، وقد صُوِّرَ بكاميرات كبيرة وعالية الجودة.

يقول أحمد زايد إنّ القهوة والسوق القديم كلّه مُهدَّدٌ بالإزالة قريباً لأنّ هناك أمراً حكومياً بذلك، ويتعجّب من نقل السوق إلى أقصى المدينة بأكمله وترك السجن في مكانه. ولا يعتقد أحمد أنّ هناك من ينافس القهاوي لأنّ «الأرزاق مقسّمة والحكاية في النهاية مزاج»، إذ يفضّل البعض شرب القهوة لدى ستّات الشاي، ولذا لا يرى داعياً لمحاربتهنّ لأنّ فيهن أرامل ومطلّقات يتحملن عبء معيشة أسرهن الصغيرة.